طرأت تغيّرات اقتصادية واجتماعية على المجتمعات العربية في السنوات العشر الأخيرة عقب فترة الثورات، خلّفت وراءها ضغوطاً وأعباء أثّرت على الصحة النفسية. في تونس، بلغت نسبة الإصابة بالاكتئاب 8.2 في المئة من إجمالي المواطنين حسب تصريحات المديرة العامة للصحة نبيهة بورصالي، عام 2018، فيما نشرت مواقع صحافية تونسية دراسةً أجراها موقع "بيزنس إنسايدر" الأمريكي عام 2019، توضح أن 518 ألف تونسي يعانون من الاضطرابات النفسية نتيجة التغيرات الاجتماعية.
الطب النفسي بطُرقه العلاجية المُتعددة، سواء المعتمِدة على العقاقير أو غيرها القائمة على المجموعات العلاجية "الثيربي"، هي التوجه الأول لأصحاب الآلام النفسية. يلجأ البعض إلى الأنشطة الرياضية والفنية كمسار مساعد لتحسين الصحة النفسية. لم تغِب الفنانة التونسية لمياء الرياحي عن المشهد، فحسّها الفني وفهمها لقدرة الفن وأثره على الصحة النفسية كانا دافعين لتحقيق حلم قديم راودها منذ سنوات لإنشاء مركز فني يُغذّي الروح التونسية بشتى أنواع الفنون.
للنساء فقط
يُتيح القانون التونسي من خلال وزارة الثقافة، أن يؤسس كل مُبدع مركزاً ثقافياً خاصاً، لذا قررت الرياحي إنشاء مركز يضم أنشطةً عدة تجمع الغناء، المسرح، العزف، الرقص وغيرها. كان للغناء الحظ الأوفر من الشهرة، وعُرف بين المتابعين باسم "نادي طرب الرياحيات"، وهو مخصص للنساء فقط، بعكس باقي الأنشطة التي تسمح باشتراك الرجال من الأعمار كافة.
يوفّر نادي طرب الرياحيات بيئةً صحيةً لخلق الطاقة الإيجابية، فبعد أداء المهام الوظيفية وواجبات المنزل تتمكن من قضاء وقت خاص بها تتبادل فيه أطراف الحديث، وتغنّي وتضحك، وهو ما يمدها بشحنة إيجابية
لم تفرض لمياء، حسب حديثها إلى رصيف22، شروطاً خاصةً للالتحاق بنادي الطرب، غير الولع بالغناء والحد الأدنى من الأداء السليم، موضحةً أن قرارها تخصيص النادي للنساء فقط، جاء حرصاً على راحة المشترِكات فبينهن مُحجبات، وهناك تدرّب السيدات من الأعمار كافة على المقامات والموشحات وغيرهما، والبعض منهن يسعين إلى احتراف الغناء بعد التدريب، وهي الفئة بين 18 و28 سنةً، لكن المشتركات يعملن بغالبيتهن في مجالات أخرى. تقول الرياحي إن النادي يضم بين مشتركاته الطبيبات، المهندسات، القضاة، والمحاميات، وغيرهن من أصحاب المكانة المرموقة ويشتركن جميعاً في هدف واحد: التسلية وتفريغ الشحنة السلبية والعودة إلى الأسرة بنفسية أكثر راحةً.
منذ عامين تقريباً، بدأ النادي نشاطه الفعلي، فبعد شهرين من الافتتاح جاءت جائحة كوفيد19 ليُعلّق النادي نشاطه حتى انتهاء الأزمة. هنا أصبح للنادي دور أكبر، فالعشرات من المشتركات قررن التخلص من الضغوط بالاندماج في الحالة الإيجابية التي يُصدرها النادي على صفحات التواصل الاجتماعي.
تقول لمياء إن كثيرات من المشتركات ترددن على أطباء نفسيين نصحوهم بممارسة الفن والرياضة حسب ما أخبروها وقت تسجيلهم للاشتراك، موضحةً أن الساعات المخصصة للتدريب على الغناء ينتظرنها جميعاً من أسبوع إلى آخر.
في منطقة المنزه الخامس في تونس العاصمة، تجتمع المجموعات الثلاث من المتدربات في أيام الجمعة، السبت، والأحد، لمدة ساعتين. يُرحب النادي من بين المشتركات بذوي القدرات الخاصة لممارسة هوايتهن، ويتدربن جميعاً على قائمة من الأغاني تجمع بين التراث التونسي والغناء الشرقي الطربي، تعدّها لمياء خصيصاً قبل التدريب. توضح الرياحي أن القائمة تغلب عليها الأغنيات الشرقية لأنهن تربّين عليها لذا يُفضّلن الغناء لوردة، عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم.
يحرص نادي الطرب على الاحتفال بالمناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية كافة، وتقول لمياء إنهن يحتفلن برأس السنة الهجرية والمولد النبوي بإعداد قائمة للأغاني الدينية، وفي يوم الصناعات التقليدية في تونس الموافق في 8 آذار/مارس من كل عام، ترتدي المشتركات الزي التقليدي التونسي ويرددن أغنيات تراثيةً تونسيةً، ويتكرر الأمر في عيد الحب والعيد الوطني وغيرهما من المناسبات لتعريف الأجيال الجديدة بالعادات والتقاليد التونسية.
يوفّر نادي طرب الرياحيات بيئةً صحيةً لخلق الطاقة الإيجابية، فبعد أداء المهام الوظيفية وواجبات المنزل تتمكن من قضاء وقت خاص بها تتبادل فيه أطراف الحديث، وتغنّي وتضحك.
غرست مؤسِسة النادي، الودّ بين المشتركات إذ تتعامل معهن بمبدأ الصداقة في محاولة لتسليحهن بالثقة بأنفسهم فتعطيهن الميكروفون حتى لا يشعرن بالخوف أو الخجل وجميعهن أصبحن صديقات. تقول الرياحي إنها تستقبل طالبات لتطبيق فكرة النادي في الولايات التونسية كصفاقس، سوسة، ونابل، لكنها لم تجد حتى الآن الوقت الكافي لتنفيذها، موضحةً أنها تتابع التعليقات المطالبة بتطبيق الفكرة في مصر، المغرب، ولبنان، على الصفحة الرسمية لكنها لم تفكّر في الأمر بشكل جدّي حتى الآن.
الاستشفاء بالفن
في تشرين الأول/أكتوبر 2022، التحقت نسرين البيش (27 سنةً)، أعمال حرة، بنادي طرب الرياحيات، وعلمت به من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت فيه دواءها بعد فترة تخبّط لم يجدِ فيها السفر والتواجد بصحبة العائلة والأصدقاء نفعاً. تقول لنا، إنها مرّت بتجربة الانفصال قبل الزواج بفترة وجيزة، وكانت الضغوط النفسية كبيرةً، ودفعها حبها للغناء وما شعرت به من طاقة إيجابية من "فيديوهات" النادي على فيسبوك، للمشاركة والانخراط في عالمه.
لم تشترك نسرين في أي نشاط فني قبل نادي الطرب، برغم حبّها للفن وممارستها الغناء في حياتها اليومية، وتوضح، أنها لم تشعر بالسعادة والطاقة إلا في نادي طرب الرياحيات، وأنها لم تندم لحظةً على مشاركتها، حتى أنها تُمارس الهواية بالشغف نفسه منذ اليوم الأول حتى الآن، مضيفةً أنها تُفضّل الأغاني الطربية القديمة برغم صغر سنّها، وهو ما تشترك فيه أغلب المشتركات من أبناء جيلها.
الترفيه عن النفس وقضاء وقت ممتع هما الهدف الأول للمشتركات في النادي، حسب نسرين، ولم تشعر أي منهن بالفارق العمري بينها وبين باقي المشتركات، موضحةً أنهن يسعدن بالتعليقات الإيجابية، خاصةً التي يُبدي البعض فيها رغبتهم في الالتحاق بالنادي، ولا يكترثن بالتعليقات السلبية، معلّقةً: "نحن ننسى كل ما نمرّ به خلال الأسبوع في ساعات النادي".
شحنة إيجابية لاستئناف الحياة
ترى مريم منصوري (45 سنةً)، مراقبة صحية في وزارة الصحة-مجال الصحة البيئية، أن التباين في الأعمار بين المشتركات أهم ما يُميّز نادي طرب الرياحيات، إذ حصلت من خلاله على فرصة تكوين صداقات مع نساء أكبر منها، وأخريات أصغر، يجمع بينهن اهتمام واحد. تقول إنها عرفت بالنادي من شبكات التواصل الاجتماعي، فدفعها حبها للغناء وفكرتها الطيبة عن الفنانة لمياء الرياحي للمشاركة فيه منذ أيلول/سبتمبر 2022.
كزميلتها، لم تُشارك مريم في أي نشاط فنّي قبل النادي، وتوضح أن نادي الطرب في رأيها يُغني عن الطبيب النفسي، فالأجواء الموسيقية الراقية وعلاقة الصداقة والاندماج بين المشتركات وبين الفنانة لمياء الرياحي تُشعرها بالسعادة، مضيفةً أنها تكون متحمسةً وفرحةً يوم ذهابها إلى النادي، فتستعد جيداً بمراجعة الأغنيات والاستماع إليها مراراً.
يوفّر نادي طرب الرياحيات بيئةً صحيةً لخلق الطاقة الإيجابية، فبعد أداء المهام الوظيفية وواجبات المنزل تتمكن من قضاء وقت خاص بها تتبادل فيه أطراف الحديث، وتغنّي وتضحك، وهو ما يمدها بشحنة إيجابية تمكّنها من العودة لاستئناف مهامها الوظيفية والمنزلية طوال الأسبوع في انتظار اللقاء التالي، حسب حديثها معنا.
المرأة التونسية تتحمل الكثير من المسؤوليات، وترى أن نوادي الطرب من شأنها أن تُهذّب الذوق الفني، خاصةً للفتيات الصغيرات، وهي وسيلة للترفيه عن النفس والاستمتاع بالغناء والموسيقى، فضلاً عن اتّساع دائرة المعارف
لا تلتفت مريم إلى التعليقات السلبية، وتسعدها التعليقات الإيجابية، وتتمنى انتشار الفكرة في ولايات تونس كلها، فالمرأة التونسية تتحمل الكثير من المسؤوليات، وترى أن نوادي الطرب من شأنها أن تُهذّب الذوق الفني، خاصةً للفتيات الصغيرات، وهي وسيلة للترفيه عن النفس والاستمتاع بالغناء والموسيقى، فضلاً عن اتّساع دائرة المعارف.
انعكس تأثير المشاركة في نادي الطرب على الحالة النفسية لمريم، وهو ما لاحظه أبناؤها، فهي أم لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وفتى في الخامسة عشرة، تقول إنهما فرحا لمشاركتها في النادي لشعورهما بأنها أصبحت أكثر سعادةً، ولتخصيصها وقتاً لنفسها بعدما كرست وقتها كله لهما طوال السنوات الماضية، لذا يطالبانها بقضاء وقت أطول مع المشتركات، موضحةً أنها لولا ميل ابنتها إلى الفن الغربي لاصطحبتها معها إلى النادي، خاصةً أنها تشاركها في مشاهدة الفيديوهات الخاصة بهن وتساعدها على اختيار ملابسها يوم التدريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...