شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لولاهن لما كان لنا ماضٍ"... عن إرث جدّاتنا الذي يقاوم الاندثار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 17 مارس 202306:02 م

"هي آخر عناقيد 'الغابة القديمة'. تُلخّص ملامح وجهها الجميل زمناً كاملاً مليئاً بالذكريات والحنين إلى الماضي الجميل في ظل حاضر متقلب المزاج. هي أمي الغنجة ظاهري، ابنة قرية الريحانة في محافظة سيدي بوزيد"، يقول الشاب هاني علي، لرصيف22.

ترعرع هاني في بيئة حافظت فيها نساء قريته الهادئة قدر استطاعتهن على ما ربين عليه وكبرن، من عادات وتقاليد وقيم ومن بينهن والدته التي تفوح منها رائحة كل ماضٍ سعيد ولّى، ولكنه يصارع من الأجل البقاء.

"أكثر ما تتشبث به 'يَمَّا' (أمي) اليوم، وتفتخر به وقد ورثته عن جدتي، هو ارتداؤها 'السخاب' أو العنبر، وهو عقد تختص به نساء سيدي بوزيد يتميز برائحته العطرة التي لا تزول مع مرور الزمن"، يضيف.    

يُصنع "السخاب" من مواد طبيعية على رأسها حبات "القمحة" الشبيهة بالقمح والطّيب والقرنفل وتُعجن جميعها بالمسك ويُحوَّل العجين في ما بعد إلى حبات مختلفة الأشكال والأحجام تشترك في الرائحة الزكية المنعشة.

"الغنجة والسخاب"

لا تتخلى "الغنجة" عن عقد السخاب الخاص بها، وتحرص على ارتدائه في كل الأعراس والأفراح إلى جانب نساء القرية، ولكن لا يمكن ارتداؤه من دون مكمّله الأساسي وهو لباس "الملحفة" السوداء التقليدي الشهير لدى نساء سيدي بوزيد.


والملحفة هي عبارة عن لحاف أسود يتوسطه خط طويل أبيض تشده المرأة بحزام إلى وسطها، وتختلف ألوانه من سيدة إلى أخرى.

"الغنجة" ليست الوحيدة من أسرتها المتشبثة بهذا الموروث الثقافي التقليدي، بل تشاركها هذا الوفاء "لالَّا" و "دادة" (الجدة)، والعمتان خديجة وشهلة، يؤكد الشاب هاني.

يقول إن نساء أسرته يتمسكن بهذه العادة لأنها بمثابة "مهرهنّ ويعددن أنفسهن مسؤولات عن المحافظة على استمراريتها من الجدّة إلى الحفيدة لأنها تلخص تاريخاً وتوثّق لحقبة زمنية بكل تفاصيلها".

"أكثر ما تتشبث به 'يَمَّا' اليوم، وتفتخر به وقد ورثته عن جدتي، هو ارتداؤها 'السخاب' أو العنبر، وهو عقد تختص به نساء سيدي بوزيد يتميز برائحته العطرة التي لا تزول مع مرور الزمن"

غير بعيد عن سيدي بوزيد وفي محافظة قفصة المجاورة (جنوب غرب)، تعيش الجدّة صالحة دريدي (83 سنةً)، حاضرها على ذكريات الماضي البعيد الجميلة، وتعمل جاهدةً للمحافظة على بعضها.

في طفولتها، كانت أسرتها تطهو الطعام على نار الحطب في الخارج، وللتدفئة كان طقس "الكانون" أساسياً إذ يلتف حوله أفراد الأسرة ويتبادلون أطراف الحديث، ينقل عنها ابنها محمد بن نتيشة، لرصيف22.

بمرور الزمن، تطوَّر المجتمع وتطورت معه صناعة وسائل التدفئة الحديثة كمدفأة الغاز و"الشيميني" (الموقد)، وكلها وسائل تداولت على استعمالها عائلة الجدّة صالحة، "وكانت اللمَّة لا تحلو إلا حول هذه الوسائل مع سماع حكايات الأجداد الشعبية وخرافاتهم الساحرة"، يضيف.

همزة وصل

حافظت الجدّة صالحة، حتى اليوم، على هذه العادة مع أبنائها وأحفادها وصار إشعال كانون الفحم أو استخدام سخان الغاز التقليدي وإعداد الشاي طقساً أساسياً لجمع أسرتها حولها، إذ تجاوز دوره التدفئة إلى لمّ شمل العائلة واسترجاع ذكريات الماضي السعيد.

اعتاد محمد على زيارة والدته أو "دادة" كما يناديها، ويجدها قد فرشت قاعة الغرفة ووضعت الكانون أو السخان على الأرض وهي جالسة بجانبه وتطهو على ناره الهادئة الشاي الأحمر التونسي، فيجلس بجانبها ينفض عنه غبار تعب يومه، ويملأ عينيه بوجود أمّه بجانبه.

يقول إن والدته تصرّ على المحافظة على هذه العادة الحميدة، لأنها همزة وصلها مع ماضيها وذكرياتها الجميلة، ولأنها سبيل عودة أبنائها وأحفادها اليوم مسرعين إلى أحضانها كلما احتاجوها، وكلما اشتاقت إليهم، وحتى تحافظ على رابط العائلة متماسكاً أمام ما تشهده العلاقات الأسرية اليوم من هزات.

عن سر العلاقة الوطيدة بين الجدات والتراث المادي وغير المادي في تونس، يوضح الباحث في الأنثروبولوجيا عبد الكريم براهمي، أن دور المرأة الرئيسي، بخصوص هذا الإرث، يتمثل في المحافظة على التراث واستمراريته.

تصر الجدة "دادة" على الحفاظ على عاداتها لأنها همزة وصلها مع ماضيها وذكرياتها الجميلة، ولأنها سبيل عودة أبنائها وأحفادها اليوم مسرعين إلى أحضانها كلما احتاجوها

يقول لرصيف22، إن المرأة بمثابة الوعاء الخازن للتراث، "حتى أن حسن حسني عبد الوهاب يعدّ المرأة في كتابه 'ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية'، عنصر المحافظة والتقليد".

يضيف أن المرأة تحرص على المحافظة على التراث، وعلى استمراريته، بفضل دورها الأساسي في التنشئة الاجتماعية، إذ تمرر العادات والتقاليد والقيم إلى ابنتها وحفيدتها حتى لا تندثر.

بدوره، يرى الباحث في التراث ماهر الهلالي، أن التراث من خرافات الماضي وقصصه وأغانيه، ارتبط باسم الجدّات لأنهن احتفظن به وحافظن عليه، و"أننا نأخذ كل الأشياء المتعلقة بالماضي من عندهنّ، فهنّ من يحكين لنا ويمددننا بالمعلومات"، يقول لرصيف22.

يضيف أن الجدّات التونسيات كنّ في عهد الاستعمار الفرنسي للبلاد لا يكتفين بالقيام بالشؤون المنزلية فحسب، بل اهتممن بالجانب التاريخي والتوثيقي للذاكرة الجماعية، "فلو لم يهتممن بحياتنا وتفاصيلها وبتاريخنا فمن سيفعل ذلك؟ لولاهن لما كان لنا ماضٍ ولكان اندثر".

تراث وإرث

يوضح الهلالي أنهن كنّ عنصراً مساعداً "ففي الوقت الذي كان يقاوم فيه الأجداد الاستعمار في الجبال، كانت الجدّات يحضّرن لهم الأكل واللباس والأغطية باستخدام السداية (آلة نسيج تقليدية)، ويجلبن المياه ويرعين قطعان الأغنام ويحملن المؤونة للثوار في الجبال".

يقول إن المعاناة التي تعرّضن لها قبل الاستعمار (عهد البايات)، وفي أثنائه وبعده (الاستقلال)، تتجلى في الأثر الشعري لغناء الصالحي والرقراقي والركروكي، وهي أنماط غنائية شعبية تقليدية، وفي الذّكر أي الإنشاد الديني.

كما أن ملامحهنّ المادية والمعنوية وتفاصيل الحياة الاجتماعية في تونس في تلك الفترة، تتجلى أيضاً في قصائد هذه الأنماط الغنائية القديمة.

أما الناشطة في المجتمع المدني والثقافي ابنة محافظة قفصة، دليلة كلثوم، فتسترجع ذكرياتها مع جدّتيها الاثنتين، قائلةً: "ورثتُ عن جدتي طريقة إعداد القهوة بنكهتها الخاصة، إذ كنا في طفولتنا نترك فطور الصباح الذي تعدّه أمي ونقصد 'قهوة جدّة ربح' (جدتي) المنفردة، وأنا أتحدث إليكم أشتمّ رائحتها الزكية".

تضيف لرصيف22، أن جدتها الثانية "دادة تبر"، أورثتها صفات المرأة العاملة والفاعلة والمجتهدة والناشطة في كل المجالات الثقافية إذ كانت تتميز بخفتها وحركيّتها.

الجدات تراث وإرث من الحب والحنان والعادات والتقاليد الجميلة والنافعة، وما زلنا إلى اليوم نحتفظ بعناصر تراثية مادية لجدّاتنا

تعلّمت والدة دليلة أيضاً من أمها الراحلة طريقة طهي "الكسرة"، وهو خبز يُطهى على النار وحرفة نسج الصوف ونقلت بدورها هذه العادات والتقاليد إلى بناتها "فإرث جدّتي ما زال حياً مستمراً بنا ومعنا أنا وشقيقاتي"، تؤكد.

صار أحفاد والدة دليلة وحفيداتها، وعند زيارة جدّتهم في فصل الصيف، لا يتخلون عن عادة سماع قصصها الشيّقة كشرط أساسي لخلودهم إلى النوم.

تصف الناشطة في المجتمع المدني والثقافي جدّتَيها، بأنهما "تراث وإرث من الحب والحنان والعادات والتقاليد الجميلة والنافعة، وما زلنا إلى اليوم نحتفظ بعناصر تراثية مادية لجدّاتنا وأجدادنا كقصعة الخشب و'المقرون' (بندقية صيد تقليدية) والرحى".

وبرغم أهمية حضور الجدّات في الحفاظ على استمرارية التراث التقليدي، إلا أن إرثهنّ مهدد اليوم بالاندثار.

تحديات الحاضر

في السياق، يرى عبد الكريم براهمي، وجود تراجع كبير في تمسّك جيل الحاضر بتراث الجدّات التقليدي وتناقصاً كبيراً في أعداد النساء اللواتي يحافظن عليه، إذ "قلّ، على سبيل الذكر لا الحصر، عدد اللواتي يرتدين الملابس التونسية التقليدية اليومية على غرار الحولي والملحفة".

ويعزو تراجع تأثير الجدات في الجيل الحاضر إلى دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية، مثل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ويفسر ذلك "بتأثيرات العولمة على المجتمع منذ ظهورها على تمرير هذه العادات والتقاليد والتمسك بها".

يضيف أن تأثير العولمة ظهر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً إلى العشرية الأخيرة والوقت الراهن في تونس، "إذ انطلقت الدولة الوطنية منذ الاستقلال (1956) في ما يُعرف بمشروع تحديث المجتمع، وذلك لأن ساسة تلك الفترة يعدّون العادات والتقاليد في اللباس مثلاً غير مواكبة للواقع فشجعوا الناس على التخلي عنها"، حسب تصريحه.

التراث التونسي يواجه اليوم خطورةً كبيرةً جرّاء رحيل الجدّات ورحيل المعلومة معهن

من جهته، يحذّر الباحث في التراث ماهر الهلالي، من أن التراث التونسي يواجه اليوم خطورةً كبيرةً جرّاء رحيل الجدّات ورحيل المعلومة معهن، ويدعو الشباب إلى لعب دوره في توثيق التراث واستعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة في ذلك، إلى جانب مسؤولية وزارة الثقافة في الحفاظ على التراث والاهتمام به ومبادرات الجمعيات المهمة في المجال.

وشدّد على أن التراث يمرّ بتحدّي التطور التكنولوجي وفقدان الجدّات ورحيلهنّ لتقدّمهنّ في السنّ، "ما يعني إما الصمود أو الاضمحلال والذوبان ضمن هذا التطور المتسارع".

ويؤكد أنه "في حال لم يحسن جيل الشباب استخدام هذه التكنولوجيا في حماية التراث، فإننا لا محالة سنفقده وسيأتي يوم على أجيالنا الحالية والمستقبلية لن تجد فيه شيئاً من التراث".

ويدعو إلى تدريس المأثور الغنائي في مناطق البلاد المختلفة، والاهتمام بالرسائل والدراسات الجامعية المعدّة في المجال، وعدم تركها على الرفوف وتفعيلها وتدريس مادة التراث الشعبي ابتداءً من سنوات الدراسة الأولى للتلميذ، والاطلاع على نصوص التراث التي تم توفيرها وتوثيقها.

ويرى أن الجدّات هن معلمات التراث بمعية الأجداد، وهنّ المدرسة الأولى له، لذلك وجبت العناية بهذه الفئة بالرعاية والتأطير، "ودون ذلك سنفقد ما يحملنه من تراث مادي وغير مادي كصناعة الحلفاء والطين والفخار والسداية وعناصر أخرى عدة نفتقدها اليوم".

وفاء دائم...

من جهتها، ترى دليلة كلثوم، أن تراث الجدّات المادي وغير المادي يشهد نوعاً من الاندثار وأكدت في المقابل وفاء نسبة مهمة من العائلات والأحفاد والحفيدات لهذا الإرث وسعيهم إلى المحافظة عليه.

وتُرجع التراجع النسبي لهذه العادات والتقاليد إلى التطور التكنولوجي الكبير الذي شتّت العلاقات الأسرية داخل المجتمع التونسي.

وتضيف الناشطة أن هذا التطور تسبّب في انعدام التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة الذين أصبحوا مستقلين بعد الزواج ويعيشون بمفردهم بعيداً عن منزل الأجداد الذي كان في السابق حاضناً لكل الأفراد يتعلمون فيه العادات والتقاليد.

ترى كلثوم أنه على الأم كونها عماد الأسرة، وبرغم انشغالها الكبير اليوم داخل المنزل أو خارجه، أن تعمل على استعادة لمّ شمل أسرتها واستعادة تفاصيل التواصل القديم بينهم وتلقينهم موروث الأجداد الثمين وتمريره إليهم، "فالأم هي الخيط الرابط بين الحفيد والجدّة وعليها أن تتحمل مسؤوليتها في ذلك".

كما تحمّل المربّين (معلمين وأساتذةً)، المسؤولية في تعليم التلاميذ وتدريسهم تراث الجدّات والأجداد حتى يستمر، وأهمية التواصل وبناء العلاقات الاجتماعية.     


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image