يُمكن القول إنني اصطدمت باللهجة الفلسطينية فجأة! يُشبه الأمر أن تصطدم سيارتك بشجرة ظهرت فجأة في منتصف الطريق، هكذا بلا أيّ مقدمات، ودون أيّ متسعٍ من الوقت لاستيعاب هذا الاصطدام.
فجأة، وجدت نفسي وجهاً إلى وجه أمام لهجتي الفلسطينية - التي اعتبرها أصدقائي ثقيلة – مشهرةً سيوف كلماتها في وجهي، لأبدأ رحلة بحثٍ جديدة في الذات، رحلة متعلقة بكيفية نطقي للكلمات وتعبيري عن الأشياء التي أتقاطع معها يومياً، لأجد نفسي بعدها أمام بحرٍ من الكلمات التي لطالما غصت معها دون قصد، واستخدمتها بعفوية وتلقائية طوال سنة كاملة قضيتها خارج البلاد، ففي كل المرات التي رغبت فيها بالوصف استخدمتها، وفي كل المرات التي رغبت فيها بالقول كانت هي قولي، حتى بتُّ أراها ملجأ صغيراً يحمل كلّ المعاني، أنزوي فيه هرباً من طوفان الحنين، فإن البعد عن البلاد يستطيع بكل بساطة أن يَمنح كلمة واحدة كلّ معاني الأرض.
لحظة إدراك
المرة الأولى التي انتبهت فيها للهجتي الفلسطينية المختلفة عن لهجة زملائي السوريين والمصريين في العمل، كانت منذ أشهرٍ طويلة، تحديداً منذ أخذ زميلي السوري يردّد كلمة "هلقيت" كأنها متلازمة في أغنية لصباح فخري. صدمني هذا الفعل، ليس بسبب الإعجاب أو عدمه، ولكن لحداثته عليّ، أنا الذي لم أضطر يوماً طوال 26 سنة في غزة لشرح مصطلح فلسطيني واحد. ولم يتوقف زميلي السوري عند هذه الكلمة، فبعدما شرحت له معناها وأخبرته أنها متساوية مع كلمة "هلأ" التي ينطقها، أي "الآن"، انتقل إلى مصطلحٍ جديد وهو "كيف الوضع؟".
المرة الأولى التي انتبهت فيها للهجتي الفلسطينية المختلفة عن لهجة زملائي السوريين والمصريين في العمل، كانت منذ أشهرٍ طويلة، تحديداً منذ أخذ زميلي السوري يردّد كلمة "هلقيت" كأنها متلازمة في أغنية لصباح فخري
هذا المصطلح الذي اعتدتُ أنا والشباب تداوله بيننا في البلاد، فكثرة الأحداث اليومية التي تمرّ بها البلاد سواءً على الصعيد الاجتماعي أو السياسي أو العسكري، جعلت "الخبر العاجل" جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وسؤال: "كيف الوضع؟"، يعني بالضرورة: هل هناك أخبار عاجلة جديدة؟ ومع ملازمة هذا المصطلح لي في الأشهر الأولى في إسطنبول، لم يتوقف زميلي السوري عن ترديده، ثمّ أصبحَ يسأل السؤال ويجيبه في الوقت نفسه كلما رآني، وأنا كنتُ أضحك، ولم يكن أحد يعلم أن في قلبي طفلٌ يبكي.
ما بعد لحظة الإدراك
عندما بدأت أجري مقارنات بين كلماتي الفلسطينية وكلمات زملائي المختلفة، بدءاً من كلمة "هلقيت" مروراً بـ "إيش"، وصولاً إلى "بشكير"، أدركت خصوصية البيئة التي كنت فيها، وتناسيت كلّ الحروب التي مرّت والرصاص الذي لم يتوقف عن استهدافي حتى وأنا خارج الوطن، وصرتُ أتعمّد منح كل كلمة فلسطينية حقّها في النطق، أشبّع القاف دائماً كعجوز حمامية، وأمدّ الشّين بمقدار خمس حركات، وأُلقي على زملائي كلمات لم يسمعوا بها أبداً ليخمنوا معناها، وفي كلّ مرة يرسبون بجدارة.
اعتقدتُ دائماً أن بإمكاني تغيير كل الأشياء، الأشخاص، الأماكن، العادات، ولكنني وقفتُ عاجزاً هذه المرة، فكيف يغير الإنسان لهجته؟ ولماذا أصلاً يغيرها؟
لحظة حقيقة
"قلط الشارع" جملة قلتها أمام زميلي المصري واصفاً مشهداً في الشارع الذي يطلّ عليه بيتي، لتبدأ معالم وجه زميلي المصري بالانجرار نحو الاستغراب، بعدما حاول لثوانٍ عديدة أن يلقط المعنى من بئر القول، ولكنه فشل. فكان سؤاله التالي: "يعني إيه قلط؟!"، فسرحتُ في جملته وقلت مردّداً: "فعلاً إيش يعني قلط؟"، وأدركتُ حينها أنني لم أفكر في حياتي من قبل أن أشرح كلمة "قلط" لأي شخص في العالم، فنظرتُ إلى الشباك المطل على الشارع، وبدأت أستجمع الكلمات من أجل وصف المعنى، فقلت: "يعني عَدّا الشارع". فقال: "يعني قطعه؟"، فقلت: "لاء"، ثمّ استرسلت: "يعني إحنا بنقول مثلاً، قلط الشارع قبل ما ينزل الصاروخ، يعني اتجاوزه وبمجرد ما اتجاوزه نزل الصاروخ عالمكان اللي كان ماشي فيه. فهمت؟"، فقال: "آه فهمت". ففهم هو وأنا ما زلت إلى الآن لم أفهم أبداً، كيف تغرَّبَت لغة الحرب معي!
واجهتُ هذا التساؤل مرةً أخرى، عندما عجز الحلاق العراقي الذي اعتدتُ على زيارته مرةً كل عشرة أيام، عن فهم كلمة "حبطرش" التي قلتها له وأنا أصف الصّور الكثيرة المعلقة على الحائط. حيث قلت: "الصور حبطرش على الحيطة". ولم يفهمني بالطبع، حتى إنه أخذ يخمّن معاني مختلفة تماماً عن معناها، فقال: "ضرب؟ جري؟ شتيمة؟ حلو؟ كويس؟ ..."، واستمر في التخمين إلا أنه لم يقترب حتى من المعنى. وعندما حاولت وصف المعنى له، جملة واحدة خطرت لي وقلتها، وهي: "الرصاص نازل علينا حبطرش". وأكملت شرحي: "يعني بغزارة من كل اتجاه".
ما بعد لحظة الحقيقة
أعرف أنني عندما خرجت من البلاد حملتها معي بالكامل في حقيبة السفر، ولكنني لم أتخيل للحظة واحدة أن "اللغة" التي كنتُ أستخدمها يومياً، في الحب وفي لقاء الأصدقاء وأمام المرآة وفي السوق وفي الشارع وفي سيارات الأجرة، ستظل معي خارج البلاد، فأنا لم ألتفت أبداً للغتي من قبل، كنتُ أتكئ على الفصحى كثيراً كمن يلجأ إلى جبلٍ من سيولة الرّمل على الوادي. ربما أستطيع استيعاب هذه الحقيقة، وهي أن لغتي جزء أصيل مما أنا عليه اليوم، ولكن هل الحرب والدماء والموت أجزاء أصيلة أيضاً مني؟
ثمّ استرسلت: "يعني إحنا بنقول مثلاً، قلط الشارع قبل ما ينزل الصاروخ، يعني اتجاوزه وبمجرد ما اتجاوزه نزل الصاروخ عالمكان اللي كان ماشي فيه. فهمت؟"، فقال: "آه فهمت". ففهم هو وأنا ما زلت إلى الآن لم أفهم أبداً، كيف تغرَّبَت لغة الحرب معي!
هذا ما تفاجأتُ به، فقد ظللت لوقتٍ طويلٍ أعتقد أن الأمر مرتبط بالمكان، وأن مغادرتي للمكان لفترة طويل من الزمن ستجعلني أنسى، أو على الأقل أتجاوز مفردة الحرب في كلماتي، ولكن هذا ما لم يحدث! لقد اكتشفت أنني أخوض حرباً أخرى في الخارج، حرباً فيها قصف ودماء وطائرات وبوارج ومدافع ولكنها ليس حمراء كحروب الوطن، ولكنها تُشبه "السخام"، رمادية، لا هي بيضاء ولا هي سوداء، لا تُمسك من طرف فنستطيع تمزيقها وتجاوزها، ولا هي ثقيلة فنلقيها من أعلى جبل جرزيم.
لحظات أخرى كثيرة
أرى دائماً أن كل الأشياء قابلة للتغيير، بطريقةٍ أو بأخرى، يمكنني تغيير عادتي من الذهاب بالسيارة للعمل إلى الذهاب مشياً على الأقدام، وبإمكاني أيضاً أن أغير مشروبي الصباحي المفضل ليصبح الموكا بدل القهوة.
كأن أقول، واصفاً زميلي الذي خرجَ باكراً من العمل لأنه على موعد مع فتاة جديدة: "اجرمنعنو فكح أخو الشلن"، ولا يفهم أحد في المكان ما أقول
هكذا اعتقدتُ دائماً أن بإمكاني تغيير كل الأشياء، الأشخاص، الأماكن، العادات، ولكنني وقفتُ عاجزاً هذه المرة، فكيف يغير الإنسان لهجته؟ ولماذا أصلاً يغيرها؟ وهذا تحديداً ما وجدتُ نفسي أمامه، فهذه اللهجة التي جعلتني متفرداً في عدد لا حصر له من الكلمات، لم أبحث للحظة واحدة -حتى في خيالي- عن غيرها.
فلم تفتتني لهجة أخرى أبداً، حتى تحول الأمر عندي إلى مسألة بقاء، فكلما ازدادت قدرتي على الاحتفاظ بمخزوني اللغوي واليومي والحكائي من لهجتي الأم، سأظلّ قادراً على المضيّ قدماً في الحياة، والمشي خطوتين إلى الأمام، وكأنني أمشي حاصداً بيارة الأجداد في يافا. وحتى مع الاستغراب الكبير للكثير من الكلمات التي أستخدمها، سواءً في العمل أو في الكتابة أو في لقاءات الغرباء، ما زلتُ قادراً على نطق كلمات فلسطينية صَرف، دون وضع اعتبار لأيّ شيء، كأن أقول، واصفاً زميلي الذي خرجَ باكراً من العمل لأنه على موعد مع فتاة جديدة: "اجرمنعنو فكح أخو الشلن"، ولا يفهم أحد في المكان ما أقول، فأعيد صياغة الجملة بكلمات أخرى وأبدأ بالشرح كطباخٍ ماهر، يقوم بشرح طريقة عمل أكلة دمشقية لذيذة لأشخاص صائمين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت