كتب العلّامة ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة: "إذا كثرت الجباية أشرفت الدولة على النهاية". هذه المقولة تعود للقرن الرابع عشر ميلادي وتستدعي إعادة النظر والتمحيص فيها، لتفادي نتائج العلاقة السببية بين كثرة الجباية وما وصفه العلّامة بنهاية الدولة.
تضطر غالبية الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية، على غرار تونس، إلى اللجوء للرفع من قيمة الضريبة، وفرضها على العديد من المجالات والقطاعات التي لم تكن تشملها، بهدف تمويل نفقات الدولة لفائدة الصالح العام، لكن كثرة الضريبة يمكن أن تنفّر شريحةً واسعةً من سداد الضرائب أو تدفعها للتخلي عن نشاطاتها بصفة نهائية.
عبء ثقيل
أكد عضو المجلس الوطني للجباية رجب اللومي، في تصريح إعلامي، أنه سيتم العمل في قانون المالية على توسيع القاعدة الجبائية في تونس بهدف التخفيض من عدد الأنشطة المتمتعة بنظام تقديريّ للضريبة إلى جانب رفع الأداء على القيمة المضافة للمهن الحرّة من 13 في المئة إلى 19 في المئة، وإضافة ضريبة بنسبة 0.05 في المئة على الأملاك العقارية التي تتجاوز قيمتها 3 ملايين دينار (984 ألف دولار)، وغيرها من الإجراءات الأخرى.
التوجّه نحو فرض ضريبة على الثروة والرفع من قيمة الضرائب، دفع هيئة الخبراء والمحاسبين في تونس إلى الدعوة لعدم اعتماد إجراءات ترفع من الضغط الجبائي وتزيد من إثقال كاهل المواطنين والمؤسسات بأعباء إضافية، كما طالبت الهيئة بتفعيل إجراءات "تكون منطلقاً حقيقياً لإصلاح جبائي عميق وشامل يندرج ضمن إستراتيجية اقتصادية متكاملة وواضحة المعالم".
أكد المستشار الجبائي وعضو المجلس الوطني للجباية والأستاذ الجامعي، محمد صالح العياري، أن المداخيل الجبائية لسنة 1990، سجلت ارتفاعاً على الرغم من تخفيض قيمة الضريبة على الدخل من نحو 75 في المئة، بما في ذلك الأداءات النوعية، إلى 35 في المئة، وتحديد نسبة الضريبة على الشركات بنسبة 35 في المئة في مرحلة أولى، ليتم بعد ذلك الإبقاء على هذه النسبة للبنوك ولمشغلي شبكات الاتصال وللشركات البترولية والمساحات الكبرى و10 في المئة أساساً للفلاحة والتنمية الجهوية والصناعات التقليدية، و15 في المئة لكل الأنشطة الأخرى.
"كثرة الجباية تقتل الجباية"
كما فسّر التخفيض في الضريبة بارتفاع المداخيل الجبائية، لأن المطالب الضريبية لديها حد أقصى إذا تجاوزته نسب الجباية تصبح ردة الفعل سلبيةً، والنتيجة عكسيةً، أي الانخفاض في المداخيل الجبائية.
معطيات الإدارة العامة للأداء التي تبيّن أن نسبة الأشخاص، الذين لا يودعون تصريحاتهم الجبائية في الآجال القانونية أو لا يودعونها بتاتاً، تُقدَّر بما بين 50 و60 في المئة
لفت العيّاري، إلى أن رجل الاقتصاد الأمريكي آرثر لافر، المشهور بالنموذج الاقتصادي "منحنى لافر"، كان قد أوضح أن ارتفاع قيمة الجباية يرفع نسبة المداخيل في المنحنى، لكن بوصولها إلى حدّ معين من الارتفاع ينتج انحدار في المداخيل الجبائية وتالياً الزيادة في أداءات جبائية إضافية لا تعني بالضرورة ارتفاع المداخيل.
قال محدث رصيف22: "كعضو في المجلس الوطني للجباية، أكدتُ على هذه النظرية خاصةً إزاء إرساء مشروع الضريبة العقارية على الثروة. أعتقد أنها ستضاعف التهرب الضريبي في حين أن تونس تعيش وضعاً اقتصادياً متردياً، ولن يشجع هذا الإجراء على الاستثمار في الداخل ولن يحقق جلب استثمارات خارجية، والعديد من الدول سبقتنا إلى هذا الحل ولم يؤتِ أُكُله والعديد من المواطنين عمدوا إلى تهريب أموالهم إلى الخارج".
غير عادل... وتهرب ضريبي
وقيَّم الخبير، النظام الجبائي في تونس بالعادي وغير العادل، ملخِّصاً الضعف الكبير في المنظومة الجبائية في ثلاثة مستويات، أولها النظام التقديري للأداء الذي يساهم فيه فقط 420 ألف شخص بـ60 مليون دينار (نحو 19.7 ملايين دولار)، أي بمعدل 150 ديناراً للشخص سنوياً، وهي إحدى الحلقات الضعيفة في المنظومة الجبائية حسب تقديره. كما تساءل بخصوص استثناء بعض الأنشطة من النظام التقديري للأداء لتصبح في المستقبل خاضعةً للنظام الحقيقي: "هل أعدّت الإدارة نفسها من الناحية المادية والعملية والرقمية لمجابهة العدد المهول من المطالبين بالضريبة بعدد ضئيل من أعوان المراقبة الجبائية لا يتجاوز 1،700 عون، وبنسبة مراجعة جبائية لا تتجاوز 2.5 في المئة؟ ولماذا نقوم بإجراء لسنا قادرين على مسايرة انعكاساته على أرض الواقع؟".
ثانياً، رأى الخبير أن النظام الجبائي غير عادل، لأن أضعف حلقة في الموظفين تدفع ضرائب في السنة أكثر من شخص له مهنة تدرّ عليه مداخيل مهمةً، موضحاً أن الأُجراء يتحملون الحسم من المورد، وتالياً يدفعون الضرائب كاملةً، لا لاكتسابهم حسّاً مدنياً متطوراً، بل لأنه ليست لديهم أي إمكانية للتهرب الضريبي وهم مرغمون على حسم الضريبة من المورد. وأشار إلى أن النظام التقديري للأداء لا يشمل عملية المراجعة الجبائية لبعض الأنشطة المربحة، في حين أن الأُجراء يتحملون الحسم من المورد مقابل نسبة مراجعة جبائية بـ2.5 في المئة بالنسبة إلى بقية المطالبين بالضريبة وتغيب بذلك العدالة الجبائية بين المتهرّبين والأُجراء.
ويرى المستشار الجبائي، أن الدولة غير قادرة حالياً على مجابهة التهرّب الضريبي، مبيّناً أنه ضد سنّ إجراءات جديدة تُحدث بلبلةً في صفوف التونسيين وتثير مخاوفهم، في حين أن الدولة غير قادرة على التطبيق الفعلي للإجراءات الجديدة على أرض الواقع: "هذه ليست الجباية وهذا ليس الإصلاح الجبائي الحقيقي، ولن نحقق العدالة الجبائية بهذه الطرائق غير المدروسة".
في تونس.. أضعف حلقة في الموظفين تدفع ضرائب في السنة أكثر من شخص له مهنة تدرّ عليه مداخيل مهمةً
يتجلى الضعف في النظام الجبائي وفقاً للخبير محمد صالح العياري، في القطاع الموازي الذي قدّره عدد من الخبراء في المجال الاقتصادي بنحو 35 و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 50 مليار دينار (164 مليون دولار)، مشدداً على أهمية العمل على التقليص من تأثير النظام التقديري للأداء على المنظومة الجبائية للرفع في المداخيل الجبائية وإدماج القطاع الموازي ضمن القطاع المنظم ليساهموا في دفع الضريبة وينخرطوا في الصناديق الاجتماعية ويدخلوا أموالهم في البنوك للرفع من السيولة المالية، وبهذه الطريقة يترتب دفع مهم لاقتصاد البلاد.
قدّر العياري نسب التهرب الضريبي بنحو 50 في المئة، استناداً إلى معطيات الإدارة العامة للأداء التي تبيّن أن نسبة الأشخاص، الذين لا يودعون تصريحاتهم الجبائية في الآجال القانونية أو لا يودعونها بتاتاً، تُقدَّر بما بين 50 و60 في المئة، واستناداً إلى تقارير وزارة المالية التي قدّمتها لمجلس نواب الشعب، والتي تفيد بأن نسبة التهرب الضريبي بالنسبة إلى النظام التقديري، تعادل 40 في المئة، لافتاً إلى أن التهرّب لا يمكن الحد منه والتحكم فيه بنسبة 100 في المئة، لكن عندما يقتصر فقط على 10 في المئة، سنتمكن من توفير 14.4 مليارات دينار لفائدة ميزانية الدولة على اعتبار أن المداخيل الجبائية لسنة 2022، مقدّرة بـ35 ملياراً (نحو 27.2 مليون دولار)، حينها لن تحتاج تونس لا إلى صندوق النقد الدولي ولا إلى الدول الشقيقة ولا إلى القروض الخارجية حسب رأيه.
جدير بالذكر أن صندوق النقد العربي كان قد أكد خلال سنة 2020، في العدد التاسع من "موجز سياساته"، "أن تونس من ضمن الدول العربية الأربع التي حققت معدلات دون المتوسط العالمي في مجال العبء الضريبي، بـ77.2 في المئة، مشيراً إلى أن تونس من ضمن المجموعة التي تتجاوز فيها الأعباء الضريبية نسبة 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...