يتزايد عدد المؤثرين وصنّاع المحتوى في المغرب، يوماً بعد يوم، والكل يعملون جاهدين لمضاعفة مداخيلهم وتحقيق أرباح مهمة عبر المنصات الرقمية. فمنهم من يعمل في التسويق الرقمي مع ماركات معينة، أو مؤسسات بعينها، ومنهم من يروّج للسياحة أو الثقافة والفن أو الطبخ والتجميل أو بعض الجوانب المعرفية والغرائبية، ولكن البعض الآخر، وهم الأكثرية، يفضّلون عرض حيواتهم الخاصة للمشاهدة عبر ظاهرة "روتيني اليومي"، التي خلقت الجدل في الفترة الأخيرة، خاصةً بعد تجاوزها العديد من الضوابط والقيم الأخلاقية، إذ تم الحكم بالسجن على "فتيحة روتيني اليومي"، وزوجها، بالسجن سنتين نافذتين، بعد نشرهما فيديو يتعلق بالتبرّز، وقبلهما اليوتيوبرز المعروفة بـ"أمي نعيمة"، في فترة الحجر الصحي، بسبب إنكارها لوباء كورونا ولمخاطره.
"محاولات للتأطير"
لأن هذا الفضاء المفتوح يحتاج إلى الكثير من الضبط، فإن السلطات المغربية، بما فيها المديرية العامة للضرائب، تعمل منذ عام 2019، على محاولة ضبط المشهد "السيبراني"، وتحصيل المبالغ الكبيرة التي تضيع على الدولة، والتي تُعدّ بالمليارات، إذ قامت بتحديث وسائل وتقنيات عملها لجرد المؤثرين وصنّاع المحتوى، وقامت بمراسلة العديد من المنصات الرقمية، كما أرسلت إشعارات للمؤثرين من أجل تسوية وضعيتهم الضريبية، قبل الإقدام على الاقتطاع التلقائي من حساباتهم البنكية.
مداخيل بعض المؤثرين في المغرب تتجاوز 100 ألف درهم شهرياً، أي ما يعادل دخلاً سنوياً يُقدَّر بمليون و200 ألف درهم (100 ألف دولار)
خاصةً أن من ضمن 5 آلاف صانع محتوى مغربي، حسب مديرية الضرائب، فإن ألفاً فقط، أي نسبة 20 في المئة منهم، هم الذين يعملون بطريقة قانونية، ويؤدون ضرائبهم، أما الـ80 في المئة المتبقية، فلا يصرّح المنضوون تحتها بها، وتالياً يضيّعون على الدولة عائدات ضريبيةً مهمةً، إذ قدّرت المديرية مداخيل هذه الفئة من 2017 إلى 2020، ما بين 4 أو 5 مليارات درهم (نحو 460 مليون دولار)، ولهذا أعلنت مؤخراً عن عزمها فرض الضريبة التلقائية على أولئك الذين لا يصرّحون بمداخيلهم، والذين يقدَّرون بـ4 آلاف صانع محتوى. لكن هل فرض الضريبة والسجن من الأساليب الرادعة والناجعة لتخليق المشهد وضبطه؟
الأغنياء الجدد
يُطلَق على صنّاع المحتوى والمؤثرين الذين تمكّنوا في ظرف قياسي من مراكمة ثروات مهمة، وكشفوا عنها هم أنفسهم في فيديوهات يستعرضون فيها بحبوحة العيش التي صاروا ينعمون بها وممتلكاتهم من فيلات وسيارات وملابس وغيرها من وسائل البذخ، وصف "الأغنياء الجدد"، الذين يُجمع الكل على "تفاهة" المحتويات التي يقدّمونها، والتي لا تتطلب منهم تكويناً أو مستوى دراسياً معيّناً. يكفي فقط التوفر على هاتف ذكي وعلى الكثير من الجرأة والوقاحة لتقديم محتوى يحرّك الغرائز والشهوات، أو يثير الفضول عبر التلصص على الأشخاص وفضح الأعراض، إذ أضحت وسيلة "للاسترزاق والتسول والدعارة"، عن طريق عرض الجسد والحياة اليومية لمجموعة من ربات البيوت، ضاربين بعرض الحائط كل القيم والأخلاق ولاهثين وراء المال الذي يكسبونه عبر فيديوهات تافهة وفاضحة، تبيّن أن أغلب المتابعين لها هم من خارج المغرب، وبالتحديد من دول الخليج، حسب بعض الدراسات الحديثة.
ضمن 5 آلاف صانع محتوى مغربي، فإن ألفاً فقط، أي نسبة 20 في المئة منهم، هم الذين يعملون بطريقة قانونية، ويؤدون ضرائبهم
لتحقيق الأرباح تكفي مراكمة الفيديوهات التي تحترم خوارزميات معيّنة، حيث تصل في يوتيوب إلى 80 ألف درهم في الشهر بالنسبة إلى صانع 2 أو 3 فيديوهات في اليوم، شريطة أن يصل عدد مشاهديها إلى 400 ألف لكل فيديو. أما في إنستغرام فتصل "الستوريات"، أو القصص، إلى 100 ألف درهم بالنسبة إلى المنشور الواحد، شريطة أن يكون لدى صاحبها عدد محدد من المتابعين، وتكون بذلك منصةً مدرّةً للدخل أكثر من يوتيوب وفيسبوك، لأنها تمكّن أيضاً من الحصول على نسب مهمة من مبيعات المنتوج المروّج له في إطار التسويق الرقمي، إذا ما تم استعمال روابط "العروض الخاصة" على صفحات المؤثر، كما يستفيد من السفريات، ومن التعويض على الساعة، إذا ما تعلّق الأمر بافتتاح متجر معيّن، إذ يمكن أن يصل التعويض إلى 30 ألف درهم (نحو 3 آلاف دولار).
وفي أحدث منصة، ألا وهي منصة تيك توك، فإن المداخيل تتباين حسب عدد المتابعين، فمن لديه 10 آلاف متابع، فإنه يتقاضى في المتوسط من 2،000 إلى 3،000 درهم، وكلما ارتفع عدد المتابعين ارتفعت الأرباح أيضاً.
الضرائب والتحصيل الإجباري
بعد إعلان يوتيوب في السنة الماضية، عزمه اقتطاع ضرائب محددة من منتجي المحتوى على منصته في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي خطوة قد يطال أثرها صنّاع المحتوى القاطنين خارج الولايات المتحدة، بادرت مجموعة من البلدان إلى دراسة وضع صنّاع المحتوى لديها، ومن ضمنها المغرب، إذ قامت المديرية العامة للضرائب بجردٍ لصنّاع المحتوى، وإرسال إشعارات لمجموعة من "المؤثرين" وأصحاب القنوات على منصة يوتيوب، تطالبهم فيها بالتصريح بالمداخيل التي يحصلون عليها لقاء الأنشطة التي يزاولونها على وسائل التواصل الاجتماعي.
أوضحت المديرية في بيان لها، اطّلع عليها رصيف22، أن "مداخيل بعض المؤثرين في المغرب تتجاوز 100 ألف درهم شهرياً، أي ما يعادل دخلاً سنوياً يُقدَّر بمليون و200 ألف درهم (100 ألف دولار)، وهو ما يدخل ضمن شريحة الدخل التي تُفرض عليها نسبة اقتطاعات ضريبية تعادل 38 في المئة"، مشيرةً إلى أنه "في حال كان الدخل الصافي الخاضع للضريبة يصل إلى 100 ألف درهم، فإنه يتعين على الحاصل عليه أداء مبلغ سنوي للضريبة على الدخل يعادل 432 ألف درهم (43 ألف دولار).
فقدت المالية العامة المغربية ما يقدر بـ300 مليون دولار من الضرائب، لأن غالبية صناع المحتوى يتهربون من دفعها. أمام هذا الوضع قرّرت مديرية الضرائب أن تتخذ إجراءات صارمة: إما الدفع، أو الاقتطاع مباشرة من الحسابات البنكية... أو السجن
بخصوص الطرائق التي يمكن من خلالها معرفة مداخيل صنّاع المحتوى والمؤثرين، ذكر البيان أن إدارة الضرائب تتوفر على مجموعة من الوسائل التي تتيح لها تحديد المداخيل، التي يحصلون عليها، مبرزةً أن عدد المتابعين والمشتركين يكفي لمعرفة المداخيل المفترضة لكل واحد منهم، هذا بالإضافة إلى موقع "سوشال بليد" ومصلحة إعلانات غوغل "غوغل أدسنس"، وغيرهما من الوسائل التي يمكن عبرها معرفة مداخيل هؤلاء المؤثرين بالتحديد. كما أن من يتلقون مداخيل بالعملات الأجنبية، عليهم تسوية أوضاعهم لدى مكتب الصرف، وذلك عبر التصريح بتلك المداخيل للمكتب، والتقيد بضوابط قوانين الصرف.
وأفاد البيان أنه على المؤثرين وصنّاع المحتوى الذين توصلوا بإشعار إدارات الضرائب، "تسوية وضعهم، وإلا سيتم اللجوء في حال عدم الاستجابة إلى طرق التحصيل الإجباري، بما في ذلك الحجز لتحصيل المستحقات الضريبية، التي في ذمة المعنيين بالإشعارات".
كشفت التقديرات الأولية أن المستحقات التي تطالب بها مصلحة الضرائب هؤلاء المؤثرين تتجاوز مبلغ 17 مليون درهم (1.7 مليون دولار)، علماً أن هذه الأرقام تُعنى فقط بالسنوات الأربع الأخيرة. ويتعلق الأمر بملفات تهم عشرات المؤثرين.
"الضريبة غير منصفة"
قال عبد الرحمان الرائس، الفائز بجائزة أحسن صانع محتوى في الويب في المغرب لعام 2021، عن برنامجه "العاديون"، في تصريح لرصيف22، إن إلزامية الضريبة على صنّاع المحتوى في منصة يوتيوب بالنسبة إليه غير منصفة، لأن المنصة نفسها تقتطع 30 في المئة من الأرباح، ولهذا دعا الحكومة إلى مراجعة الأمر وإيجاد حلول منصفة للكلّ، عادّاً أن الضرائب والعقوبات السجنية ليست وسائل ردع، ولن تحدّ من المحتويات التافهة، التي تتناسل كل يوم.
"مداخيل قناتي لا تغطّي تكاليفي الشخصية وتكاليف فريق العمل، وإلى اليوم ما زلت أصرف على المحتوى الذي أقدّمه"
يضيف الشاب الأمازيغي الذي يسلّط عبر برنامجه "العاديون"، الضوء على قصص إنسانية لأناس بسطاء في مناطق نائية في المغرب، أن "المحتويات المغربية المقدمة عبر جميع مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية متنوعة وتلبّي جميع الأذواق، والمشاهد هو الذي يختار المحتوى الذي يرغب في رؤيته، وبصورة عامة فهي تقدّم صورةً مصغرةً عن المجتمع المغربي بكل تناقضاته".
ويوضح أن أرقام المداخيل التي يسمع بها خيالية، قد تنطبق على المحتويات التافهة التي تعتمد التكرار ونشر عدد كبير من الفيديوهات في اليوم، وتحقق نسباً عاليةً من المشاهدة، أما المحتوى الجاد مثل الذي يقدّمه هو في "العاديون"، فضعيف: "مداخيل قناتي لا تغطّي تكاليفي الشخصية وتكاليف فريق العمل، وإلى اليوم ما زلت أصرف على المحتوى الذي أقدّمه، على أمل أن أصل يوماً إلى تحقيق الاستقلالية المالية من صناعة المحتوى".
قناة "العاديون" لعبد الرحمن الرايس"
يؤكد الرائس، أنه نشر في الشهر الماضي حلقتين من برنامجه على قناته في يوتيوب، ولكن لم تتجاوز أرباحهما 350 يورو، بالرغم من أن المحتوى الذي يقدّمه يحتاج إلى مصاريف السفر وفريق العمل (أربعة أفراد)، كما أن مرحلة المونتاج تأخذ منه وقتاً طويلاً، فالحلقة الواحدة تحتاج من أسبوعين إلى ثلاثة، لهذا فهو يضطر إلى القيام بأعمال أخرى بالموازاة مع صناعة المحتوى.
"التربية لمحاربة التفاهة"
من جهتها، ترى المدوّنة أسماء تهامي، المتخصصة في الترويج السياحي على إنستغرام، في تصريح لرصيف22، أن المبادرات التي بدأت تأخذها الحكومة المغربية دليل على الوعي المتزايد بخطورة المضامين التافهة ووقعها السلبي سلوكياً ونفسياً على مختلف الشرائح، ولا سيما على الأطفال والمراهقين، عادّةً أن فرض الضرائب والعقوبات السجنية "بادرة تغيير حقيقي وبداية انفراج، بل تحول إيجابي على مستوى الوعي بخطورة الظاهرة المجتمعية، والرهان الآن هو أن تتواصل هذه المجهودات التشريعية، مع مراعاة المكتسبات التي حققها البلد في مجال حرية التعبير، لكيلا نسقط في تقييد الحريات، مع الاستفادة من التجارب الرائدة دولياً، مستحضرين في ذلك الخصوصية الثقافية للمغرب".
توضح تهامي، أن التصدي للمحتوى التافه يكمن في التوقف عن تشجيع مضامينه، ومراقبة ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، والاهتمام بالتربية الإعلامية في المؤسسات التعليمية، لأن "استئصال الظاهرة جذرياً ينطلق من البناء القاعدي".
التصدي للمحتوى التافه يكمن في التوقف عن تشجيع مضامينه، ومراقبة ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي
بخصوص تجربتها، تقول إنها قنوعة ولا تسعى وراء الرفع من نسب المشاهدة لديها أو "البوز"، إذ غالباً ما تكون له نتائج سلبية على المحتوى المقدّم، لأن ما يهمها كما تقول هو أن تشارك هواية السفر مع الآخرين والتعريف بالمغرب وبالثقافات الأخرى، وهي تقيس مستوى نجاح محتواها بمدى استفادة الآخرين منه.
وتوضح: "مداخيلي من المحتوى الذي أقدّمه لا تصل إلى 100 ألف درهم بتاتاً، فأنا أصرف على رحلاتي من مالي الخاص، وأقوم بشراكات وتعاون في إنستغرام وأحصل على بعض الأموال، ولكن ليس تلك المبالغ. لدي بطاقة مقاول ذاتي وأؤدي ضريبة تبلغ 2 في المئة عن كل شيء أحصل عليه من خلال شراكاتي مع مؤسسات أو برامج سياحية اشتغلت عليها. ومداخيلي بكل صدق تتراوح ما بين 40 ألف درهم و90 ألف درهم (ما بين 4 و9 آلاف دولار)، في السنة كلها، وليس في الشهر، وهذه هي المداخيل التي أؤدي عنها الضرائب".
التمييز بين صنّاع المحتوى
مصطفى الفكاك، الشهير بـ"سوينكا"، وصاحب "أجي تفهم"، يقول في تصريح لرصيف22، إن الهدف لديه من صناعة المحتوى هو الحاجة التعبيرية في الأساس، ولهذا يسعى دائماً إلى تطوير نفسه وتقديم محتويات جيدة، ولا ينكر اهتمامه بالجانب المادي أيضاً، ولكنه لا يضعه هدفاً رئيسياً، كما يفعل أصحاب المحتويات الترفيهية التي لا تتوفر على سكريبت، بل يهتم بالمحتوى ويراعي الأذواق ويقدم أعمالاً مقبولةً.
لا يرى "سوينكا"، في الضريبة أداةً عقابيةً، بل يرى أنها واجب وطني على كل صنّاع المحتوى والمؤثرين أن يلتزموا بأدائها، لكن شريطة التمييز بينهم، لأن هناك المحترف الذي يصرف أموالاً على عمله، وهناك من يقتصر على "السيلفيات" فقط، وتالياً ليس من العدل أن يؤدّوا القيمة الضريبية نفسها، ولهذا تجب مراعاة التكاليف التي صُرفت على المحتويات، ومن لا تكاليف له فيمكن أن يؤدي نسبة 38 في المئة كغيره من المواطنين.
وبخصوص العقوبات السجنية، يؤكد "سوينكا" أنها "قمع لحرية التعبير، ولن تكون أبداً وسيلة ردع، والتربية وحدها هي التي تردع، وكل الأساليب القمعية لا تعطي نتائج حميدةً. لا يجب أن نرفض الشخص المختلف عنا، بل يجب أن نتقبله وأن نحاول التقرب منه وتربيته، والتربية والحوار والاحتضان هي الحل قي رأيي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...