كنت قادمة ممتلئة بحماس البدء في عمل جديد، عندما سألني الطبيب البشري: "انتِ ايه اللي جابك هنا؟"، بمزيج من الشفقة والسخرية من حماسي، فما ينتظرني لا يستحق الحماس. كان ذلك في الوحدة الصحية في قرية مصرية نائية، تقع على بعد ساعتين من منزلي، تشبه قرية طرشوخ الليف التي عمل بها عاطف في مسلسل "بالطو".
كنت طوال حياتي الشخص القادم من مكان بعيد، لأن الأقدار شاءت أن أولد بالدلتا في بلد يعاني من مشكلة المركزية، حاولت تعديل مكان العمل ليكون في نفس مدينتي، أُخبرت أنه يجب أن أكون متزوجة لأستطيع العمل في مستشفى قريب من منزلي، لكني لكوني عزباء، كنت أتكبد مشقة السفر، ساعتين ذهاباً وساعتين رجوعاً.
نوضع تحت ضغط مجتمعي هائل في عمر الثامنة عشر؛ سن الالتحاق بالجامعة، ونقرّر مصيرنا في هذا السن الصغير، ونحن لانعرف ميولنا جيداً، أو ماذا نحب ونكره، ولم نجرّب لنعرف، ولا نعرف ماذا يحتاج سوق العمل.
ما سبّب احباطي فيما بعد هو أن آمالي، بعد دراسة خمس سنوات في كلية صيدلة، انتهت للعمل في مكان معدوم الخدمات. كنت أطمح للعمل في مصنع أدوية أو شركة كبيرة، أو حتى منظمة الصحة العالمية، كمعظم الطلبة في الكليات العملية، الذين يملؤهم الطموح، ولا يعرفون ماذا تخبئ لهم الحياة بعد الدراسة. كان أهلنا يخبروننا بضرورة المذاكرة والاجتهاد، تماماً مثل والد "عاطف" في مسلسل "بالطو"، الذي قام ببطولته الممثل الشاب عصام عمر، لنصبح أطباء نابهين مثل مجدي يعقوب.
نوضع تحت ضغط مجتمعي هائل في عمر الثامنة عشر؛ سن الالتحاق بالجامعة، ونقرّر مصيرنا في هذا السن الصغير، ونحن لانعرف ميولنا جيداً، أو ماذا نحب ونكره، ولم نجرّب لنعرف، ولا نعرف ماذا يحتاج سوق العمل
وبعد انتهاء الدراسة أصبت بإحباط كبير، لأن العمل يختلف تماماً عن الدراسة، واحدة من أكبر مشاكل التعليم في مصر، فلا يهيّئنا التعليم لسوق العمل، يمكن أن تعتبر سنوات الكلية بمثابة محو أمية، ليس أكثر.
كان ذلك من أسباب حنقي وغضبي الدائم، وإحساسي بضياع سنوات عمري هباءً، لكن بمرور الزمن أدركت أن الخطأ كان أكبر مني، وأن "العيب في النظام"، كما يقول الإيفيه الشهير.
كنت أنوي إلغاء "التكليف" أو العمل الحكومي الذي يقدم عليه الصيادلة، لكن الجميع أخبرني أن وظيفة الحكومة مضمونة، وإن "فاتك الميري اتمرغ في ترابه"، بمعنى حافظي جيداً على العمل الحكومي، لأنه ثابت ويؤمن لك معاشاً مضموناً، أما العمل الخاص فهو على كف عفريت. كان ذلك قبل أزمة تأخر تكليف الصيادلة، التي نتج عنها عدم استلام دفعة 2020 للتكليف حتى الآن.
وافقت على العمل الحكومي من باب التجريب، لكن ما وجدته كان محبطاً، اكتشفت أن صحة المرضى أو توفر الدواء ليس هو المهم، لكن أهم ما في هذه الوظيفة هو دفتر الحضور، يجب أن أحضر في تمام الثامنة والنصف حتى لا يفوتني إمضاء الحضور في الدفتر، وإلا لن يكون لحضوري معنى.
بخلاف ذلك، لا مجال للتعلم أو التطور في هذا المكان، ولا حتى مجرد الإحساس بالرضا الوظيفي. كثير من الأوراق والعُهد والمشاوير لمديريات الصحة. لم تضايقني بساطة الجمهور الذي أتعامل معه، على العكس، كنت أتمنى إفادة الجمهور المتردد على الوحدة، والذي لا يستطيع الذهاب لعيادة خاصة، لكن ساءني ضعف ميزانية وزارة الصحة، فحتى "القفازات الطبية" يشتريها الطاقم الطبي.
في الوحدة الصحية وجدت الأزمات ذاتها التي عانت منها أمي التي عملت طبيبة في وزارة الصحة في الثمانينيات، من ضعف الإمكانيات الطبية، حتى أدوات النظافة يجمع ثمنها العاملون ليشتروها بأنفسهم، ويتحملون ثمن إصلاح الآلات الطبية إذا تعطلت، أما التفتيش الطبي فيهتم بحضور الموظفين وغيابهم فقط، لكن لا يكترث بنقص المستلزمات الطبية، فتلك ليست وظيفته. يتحمل قسم التمريض، ومعظمه من النساء، أيضاً أعباءً بالغة بسبب نقص أعدادهن، لا توفر لهن الوزارة حتى سيارة ينتقلون بها لتوصيل الطعوم إلى المنازل ولحملات طرق الأبواب، فيسيرون في المطر وفي الطين ليوصلوا الطعوم للأطفال.
في الوحدة الصحية وجدت الأزمات ذاتها التي عانت منها أمي التي عملت طبيبة في وزارة الصحة في الثمانينيات، من ضعف الإمكانيات الطبية، حتى أدوات النظافة يجمع ثمنها العاملون ليشتروها بأنفسهم، ويتحملون ثمن إصلاح الآلات الطبية إذا تعطلت
أتذكر أن أمي لم تكن أبداً راضية عن عملها طوال ثلاثين سنة في وزارة الصحة، وكانت تنعت نفسها بأنها فاشلة وظيفياً، ولم تحقق شيئاً في حياتها، رغم أن الخطأ لم يكن أبداً خطأها، إنما هو فشل متخذي القرار الذين يقتطعون دائماً من ميزانية الصحة والتعليم لتنفيذ خطة التقشف، وفشل من وزارة الصحة التي لا تراعي الأدوار الاجتماعية للنساء، فحُرمت أمي من الترقي الوظيفي لأن أوقات التدريب لا تناسب دورها كأم.
في المستشفى هناك هيراركية، أو ترتيب هرمي، ويحتل قمة الهرم الطبيب البشري، وقبل حدوث عجز كبير في الأطباء وبسبب هجرة الأطباء البشريين كان القانون أن مدير الوحدة يجب أن يكون الطبيب مثل عاطف، وليس الصيدلي أو طبيب الأسنان، لكن تم تخطي الترتيب الهرمي وأصبح في مقدور الصيدلي أن يصبح مديراً للمستشفى أو الوحدة بسبب وجود عجز في أعداد الأطباء البشريين، وهي المشكلة الحادة التي يعاني منها القطاع الطبي، فتسبب ضعف المرتبات في استقالة 11 ألف طبيب في 3 سنوات فقط.
في الوحدة مررت بالكثير من أحداث مسلسل "بالطو"؛ وجدت من يطلب مضاداً حيوياً بدون داع، حتى لو كان مصاباً بصداع، كأنه ترياق أو دواء سحري، وفي الحقيقة إن سوء استخدام المضادات الحيوية أو الإفراط في استخدامها يشكل خطراً بالغاً على البشر، لأنه يسبب مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وهي مشكلة عالمية. سمعت أيضاً عن أطباء يشغلّون العيادات الحكومية كعيادة خاصة، تماماً مثل الدكتور سمير، طبيب الأسنان بمسلسل "بالطو".
أصابني العمل بوزارة الصحة باكتئاب بالغ، لم يكن ذلك ما أطمح إليه أبداً، كنت أتمنى خدمة الناس، وأن يكون لي دور ما في المجتمع، لكن انتهى الحال بي إلى الجلوس على مكتب لتدوين التذاكر الصحية. ندمت كثيراً على الالتحاق بتلك الكلية، تمنيت أن يرجع بي الزمن لأكتشف خدعة حياتي، وهي أن كليات القمة خدعة، أنا حتى لست طبيبة أخفّف آلام المرضى، فعملي هامشي تماماً في المنظومة الصحية، يمكن أن يقوم به روبوت.
كانت اللحظة الوحيدة التي أشعر بها بالرضا عندما أشعر أنني أفدت مريض أو مريضة بمعلومة طبية ولو ضئيلة، فلم تكن خبرتي كبيرة تماماً مثل عاطف، لكن بعد عامين من الملل والاكتئاب قررت أن أفوت الميري، وأستقيل من وزارة الصحة، كيلا تضيع حياتي هباءً، والبحث عن نفسي في مهنة أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع