شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
السجن أو عيادات الطب النفسي… جيل الألفية في مصر بلا خيارات

السجن أو عيادات الطب النفسي… جيل الألفية في مصر بلا خيارات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 27 سبتمبر 201907:39 م

منذ بداية الألفية الجديدة ونحن نسمع عن جملة "جزر منعزلة" لوصف ما يحدث داخل المجتمع المصري، تعيش شرائح اجتماعية في مناخ نفسي واجتماعي منفصل عن الشرائح الأخرى، ليس فقط في المساحات المكانية، ولكن بين كل جيل وآخر، الجميع يعيش في قوقعة زملائه وحيه ومدرسته وجامعته وعمله.

لا يمكن لشاب مصري في بداية سنواته الجامعية أن يذهب في أيام العيد، الجو الاحتفالي العام، دون أن يستغرب العالم خارج حارته، أو قريته، أو حيه، هجين غير متجانس، قلق، ومضطرب.

سأتحدث هنا عن تلك الجزر التي لامستها في حياتي الشخصية، سواء من خلال علاقاتي الخاصة، أو احتكاكي في المناطق السكنية التي تنقلت بها في القاهرة، أو داخل العائلة.

حياة "الأندر إيدج"

يكفي أن تتحدث لمدرّس مرحلة إعدادية أو ثانوية، أو أحد أصدقائك ممن لديه ابن في تلك المراحل، حتى تعرف أن الأجواء التي يعيش فيها جيل الألفية اختلفت تماماً.

قال صديقي المدرس الثانوي بقرية في أقاليم الدلتا، ووافقه مدرس آخر بوسط البلد في العاصمة، إن الطلبة في هذا العمر باتوا يشعرون بأشياء سلبية لم نكن نشعر بها إلا في منتصف العشرينيات.

في قرية بأقاليم مصر، باتوا يختارون طريقة مبتكرة للانتحار، وهي تناول سم الفئران، ويتم "التحفظ على القضية" باعتبارها حالة تسمم أو مرض مفاجئ، بسبب الخوف من الفضيحة. حالات الانتحار وسط طلبة الثانوية قليلة، ولكن حجم الإحباط الذي يشعرون به يجعلهم غير مبالين بالقيم والأخلاق، ولا حتى بالتحصيل الدراسي، فهم يعلمون جيداً أن ما ينتظرهم في المستقبل غير واضح، بسبب ما يرونه: الإخوة في البيت "يكسرون الثلاثين" عاماً، بلا عائلة أو وظيفة لائقة، منطوون ومكتئبون.

الإخوة في البيت "يكسرون الثلاثين" عاماً، بلا عائلة أو وظيفة لائقة، منطوون ومكتئبون.

إضافة إلى غياب كامل للأنشطة الرياضية والثقافية، والتي كانت موجودة عندما كنا صغاراً، في الأقاليم والأحياء الشعبية بالقاهرة، حتى التوجه الديني المتشدد، وهي مساحة كثير من أبناء الثمانينيات مروا بها، وصبوا فيها غضبهم ونقمتهم على العالم، لم يعد موجوداً.

يعيشون في غياب كامل للأنشطة الرياضية والثقافية، في الأقاليم والأحياء الشعبية بالقاهرة، حتى التوجه الديني المتشدد، المساحة التي مررنا بها، وأعدنا اكتشاف أنفسنا من خلالها، وشكل رفضنا لها "هوياتنا"، لم تعد موجودة
جيل الألفية يتربى الآن في مناخ من العقاب والخوف المستمر من كل شيء، من كتابة بوست أو ضغطة لايك على فيس بوك، الخوف والمزيد من الخوف، الخوف على حياة فقد مقومات الحياة بالنسبة لهم

لقد اختار العديد من أبناء جيلي النمط الديني المتشدد في شبابهم، وكان جهاز الأمن العام والمخابرات العامة، وتسيطر عليها قيادات المخابرات العسكرية الآن، يفرق بين متدين متشدد وآخر، فكل من لا يدعو لحمل السلاح وليس له نشاط سياسي، يمكن أن يربي لحيته، أو يتحدث كيف يشاء عن الشأن العام، وعن حلمه في "دولة إسلامية"، طالما أنه غير منضم لتنظيم إسلامي. كثير من زملائي وأصدقائي وأقاربي في نهايات الثانوية العامة وبدايات الفترة الجامعية كانوا متشددين دينياً، وبشكل أو بآخر، كان ذلك نوعاً من التفريغ النفسي لواقع يصعب التعايش معه، كانت مرحلة مهمة في مشوار نضجنا وفهمنا، وساعدتنا الحرية النسبية تلك في أن نفهم أنفسنا بشكل أفضل، لتتحول مكتبتي بمرور العمر من كتب مثل "نيل الاوطار" للإمام الشوكاني، وكتب الأصول للشيخ الألباني، و"الحلال والحرام" للقرضاوي، تدريجياً إلى كتب "نحو فقه جديد" لجمال البنا، و"مجتمع يثرب" لسيد القمني، وكتب الباحثة اليمنية أبكار السقاف، ثم إلى الجهة الأخرى لكتب فراس سواح، ونبيل فياض، وصادق جلال العظم.

الأمن في خدمة التقاليد والأسرة

كانت حالات هروب الفتيات في جيلنا مقتصرة على فتيات جامعيات، أكملن تعليمهن في وسط أسري غير متعلم، وغالباً بسبب فرض الزواج عليهن من شاب أمي أو متواضع التعليم، اليوم يكفي أن تذهب أمام محطة قطار رمسيس بالقاهرة في أي مساء تشاء لترى الفتيات الهاربات، حيث أصبحت الحديقة التي أمام مترو رمسيس مرتعاً لطلاب المتعة العابرة، والقوادين، لالتقاط الفتيات الأميات الهاربات من جحيم العائلة والزوج.

بعض الأسر تنسج قصصاً للجيران أن بناتهم أو أخواتهم أو زوجاتهم ذهبن إلى القاهرة أو الاسكندرية للاستجمام مع قريبة هناك لتداري "عارها".

والآن، هناك حالة بارزة وملحوظة من "الانفلات" داخل الأسرة الواحدة، والسوشيال ميديا تدفع كثيراً من الشباب والبنات للهرب في عمر مبكرة جداً، وخاصة المدن السياحية البعيدة عن محافظات الدلتا والقاهرة. الآن وعلى عكس الماضي، تكفي أن تكون بطاقتك مكتوب عليها أنك من قرية أو منطقة عشوائية، حتى تحتجزك الكمائن إذا كنت فتاة، ويبلغون أهلك، ويعيدونك للأسرة، لا مهرب.

هنا تأتي ظاهرة شباب وبنات وسط البلد، رغم أن المنطقة باتت خطرة من الناحية الأمنية، حيث المساكن والمقاهي عرضة للتفتيش المستمر، إلا أن مقاهيها الرخيصة، وقربها من فعاليات ثقافية وفنية مجانية أو بأسعار رمزية، جعلها مكاناً جاذباً لشباب وفتيات الطبقة الوسطى من العصاميين والطموحين محدودي الدخل، والمهاجرين من الصعيد والأقاليم، ومنطقة خصبة لحدوث ثورات وانتفاضات أخرى.

"التكنولوجيا" و"سوق الخليج"

التكنولوجيا وتقلص سوق العمل في الخليج، من المتغيرات الخارجية الهامة. جيلنا من مواليد النصف الأول من الثمانينيات، وكل الأجيال الثلاثة على الأقل التي سبقتنا كانت أمام خيارين: إما الذهاب إلى دولة خليجية، حيث الثراء السريع والسهل والعمل "في أي شيء"، أو الذهاب للقاهرة لاقتناص أحلامك. أقول لزملائي من الصحفيين والنشطاء، إنه رغم صعوبة ما مررنا به في السنوات السابقة ولكن أشباهنا الآن من الأجيال الأصغر سناً ليس أمامهم أي خيار، لا سوق عمل محلي، ولا سوق خليجي، ولا يحظون بما حظينا به من مساحة للكتابة، أو التمثيل، أو أنشطة ثقافية أو فنية أخرى. تقلصت الأنشطة الثقافية بسبب إجراءات التقشف، وأغلقت الكثير من الصحف والمواقع المستقلة، فقط مواقع يمكن ألا تكمل عددها أصبع الكف الواحدة، وتم تأميم بقية الصحف الخاصة، وأجواء النشر الآن، رغم سهولته، إلا أنها بشروط "قمعية" و"سخيفة"، وفي مناخ طارد للاختلاف والإبداع، خاصة إذا كان بعيداً عن المجال الروائي.

الآن، لا توجد مكافآت، ولا هوامش للمعارضة، "كله ضرب ضرب ما فيش شتيمة".

يعتمد نجاح أي نظام في العالم، سواء في الدول النامية أو المتقدمة على منظومة الثواب والعقاب، المكافئة إذا سمعت الكلام، والعصا إن تجاوزت الخطوط الحمراء. من الشوكولاتة والنزهات والسماح بلعب الكرة في الصغر، والوظيفة والعمل والتربح وتكوين أسرة في الكبر. في عصر مبارك كانت أحزاب المعارضة ممولة من النظام نفسه، وكانت الكوادر الشبابية تدجن بوظائف ومناصب في الدولة، الكثير من كتاب ومثقفي الأجيال الأكبر سناً، الذين تظاهروا في الصغر واعتقلوا، تحولوا بمرور الوقت إلى معارضين شكليين، ومدافعين عن النظام وقت الخطر.

الآن، لا توجد مكافآت، ولا هوامش للمعارضة، "كله ضرب ضرب ما فيش شتيمة".

مراجعات جيل يناير

المراجعات الشخصية مهمة. خضنا معارك، انتصرنا وخسرنا، اتخذنا مواقف نفخر بها، وأخرى خذلنا فيها أنفسنا وآخرين، ولكن الناظر الآن لـ"شلل وسط البلد". كثيراً ما تسمع كلمات إهانة وتجريح وتشكيك في "نية" و"عمل" آخرين من نفس التيار، وكأننا نتجه إلى "عسكرة" الثورة، وحالات التنمّر الداخلي "منا وفينا" باتت بارزة، وغياب كامل للنقد الذاتي، وبعض الناشطات بات لها كتائب مختارة من غروبات سرية، وانتصار لـ"المجد" الشخصي مقارنة بالأفكار والقيم التي تربينا عليها في ميدان التحرير.

من جهة أخرى، يمكن أن تلاحظوا أن العديد من "النشطاء" باتوا يقدمون مراجعات شخصية لاختياراتهم، ويعلنونها على "السوشيال ميديا"، ويعيدون دراسة مواقفهم منذ فترة قليلة.

كبيرة هي الجراح والهزات النفسية التي مررنا بها، من المهم ألا نسمح لتلك الجروح أن تشكل شخصيتنا وطريقة تفكيرنا وعلاقاتنا، من المهم ألا نكرر حالة زينب المهدي، التي آلمتها خيانة أصدقائها وزملائها لها، وعاشت حياتها الأخيرة بلا عمل، وطردتها صديقاتها "الناشطات" من غرفتها لأسباب ليست موضع سياقها الآن، وعادت متنكرة لسنوات تمردها إلى بيت عائلتها، ولم تتحمل حياتها وانتحرت.

هذه الحالة التي يعيش فيها الآن جيل بأكمله، جيل الألفية يتربى الآن في مناخ من العقاب والخوف المستمر من كل شيء، من كتابة بوست أو ضغطة لايك على فيس بوك.

علينا أن نكون أكثر انفتاحاً وصبراً وتسامحاً مع الأجيال الأصغر، دون أن نمارس عليهم وصاية لا مبرر لها، هم يعيشون في أرض بلا سماء، بلا أفق، ومطلوب منهم أن يتعايشوا مع أجواء الخوف لا أن يصبروا. الخوف والخوف ومزيد من الخوف، على حياة فقدت كل مقومات الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image