كادت رحلتي تنطلق من القاهرة إلى الهند في العاشرة صباح إحدى أيام شهر رمضان، وكانت تلك المرة الأولى التي أقوم برحلة خلال شهر الصوم.
لم أجرب قط قضاء رمضان خارج مصر، فمنذ أن شرعت في الالتزام بالصيام وأنا في السابعة من عمري، وأنا أعيش أجواء رمضان المصرية، وتداعياتها من مظاهر، مثل ارتداء الملابس الفضفاضة، وعدم الاقتراب من مساحيق التجميل، وفي بعض الأوقات كنت أضع الحجاب أو أتجنب الخروج قبل الإفطار.
المطارات لا تعرف الصوم
ظلت الأجواء الرمضانية تحيط بي حتى وصلت إلي صالة السفر، وكأنك تنتقل من عالم إلى آخر عند دخولك المطار حتى لو كنت في أشد الدول محافظة، لكن المطار يعتبر البوابة التي تنتقل بها إلى عالم يبيح ما كان محظوراً منذ دقائق معدودة.
الإفطار مباح للمسافرين.
بالنسبة لمن كانت نشأتهم بين أسرة ومجتمع متدين فالأمر مبرر، الإفطار مباح للمسافرين، ولكن الأمر ليس دينياً فقط، فبالتواجد داخل قاعة الانتظار بين العديد من الجنسيات والديانات الأخرى، يتحول تناول الطعام والمشروبات المفضلة وحتى التدخين إلى وسيلة حتمية لتمضية وقت الفراغ.
الأمر لا يختلف كثيراً بالمناسبة على متن الطائرة، خاصة إذا كانت وجهتك أوروبية أو آسيوية، في تلك اللحظة فقط إن كنت مازلت صائماً ستصبح غريباً، وستختبر مشاعر متناقضة لتلك التي في شوارع مدينتك المسلمة، كما لو كنت تمضغ علكة أو تشرب ماءً في الشارع.
عدوى الصيام
رغم رحلاتي حول العالم إلا أن أول رمضان أمضيته خارج مصر في مدينة "مومباي" الهندية لم و لن أنساه ما حييت.
في بلدي القاهرة، تختلف مشاعر المرأة الصائمة عن الرجل في شهر رمضان، بالتأكيد تمر أيام لا تتمكن فيها إحدانا من الصيام لسبب بيولوجي، ويجد البعض ذلك فرصة للانتقاص من المرأة، يفسرونه بـ"ناقصات عقل ودين"، فالنساء لا يصومن رمضان كاملاً، ورغم ذلك لم يرني أحد يوماً أفطر جهرة، بل كانت أمي تقول من الأفضل أن تظلي صائمة، وتناولي فقط الماء قبل موعد الإفطار بدقائق معدودة.
شاركني أصدقائي الهندوس الصيام، فهم يعتقدون أن الصيام خصيصاً من أجل أمنية ما يدفعها إلى التحقق، مما جعلني أتساءل: هل صيام غاندي من أسباب انتصاره؟... طعم رمضان في الهند
كنت أمارس الصيام بالعدوى حتي لو لدي رخصة دينية بعدم الصيام، فأنا لن اتجرأ علي استخدامها حتي في المنزل، إلى أن قضيت أول رمضان لي في مومباي الهندية.
مدينة صاخبة، استوائية، ولا بد أن أباشر عملي بشكل طبيعي، عند خروجي من المنزل، والسير فقط لدقيقتين، شعرت بأن هناك شيء مختلف، ليس هناك رمضان، ليس هناك مقاهي مغلقة، ولا مطاعم تضع طلاءً أبيض علي زجاجها، مجموعات من الناس يلتفون حول بائعي الوجبات السريعة، والأغاني تنبعث من أماكن متفرقة.
لم أفاجأ، فأنا مدركة بأنني أعيش في بلد ديانتها هندوسية، لكنني كنت مشوشة مما أراه، فإذا كان الصوم مشقة وسط الصائمين فكيف سيكون الأمر وسط تلك الأجواء؟
كما راودتني فكرة، ربما انبثقت من عقلي الباطن، وغذتها مشاعر ضيقة الأفق، فقلت لنفسي: هل من المعقول أن الله لن يحول تلك المدينة إلى حطام حالاً؟
ولكن، وسط هذه الأجواء تجلى لي معنى آخر للحرية لم أختبره في شهر رمضان في بيتي ومع أسرتي وأصدقائي في القاهرة، الصوم والإفطار أصبح مسئوليتي وحدي، ولن يهتم الآخرين إن كنت صائمة أم لا.
أجواء رمضان في الهند
علي الرغم من أن الأجواء تبدو كأيام بقية العام إلا أن هناك أجواء رمضانيه في الهند ستراها في بعض الأحياء والشوارع التي يشغلها مسلمون، ما بين بائعي أطعمة رمضان، والتي تتكون من مقبلات مثل السمبوسك، وشطائر اللحم، والفواكه. نعم ستجد من يقوم بشراء تلك الأطعمة وتناولها أمام البائع في وضح النهار وقبل أذان المغرب، دون تذمر أو استياء من المارة أو البائعين المسلمين، ستجد فقط أجواء مختلفة داخل المساجد، وتحديداً بعد صلاة التراويح حيث يجتمع المصلون لمشاركة بعضهم البعض هدايا، تحمل طابعاً دينياً مثل سجاجيد الصلاة والتسابيح وكتيبات أو مصاحف.
حتى الآن لم تظهر علي شاشة السينما الهندية مشهد واحد يظهر طقوس إفطار رمضان في البيوت الهندية المسلمة، رغم وجود العديد من المشاهد التي تظهر الترابط و الشعائر الدينية للشهر، وحتى العلاقات القوية بين الهندوس والمسلمين في أفلام مثل "ماي نيم إز خان"، للنجم العالمي شاروخان، وفيلم "باراجنجي باهيجان" للنجم سلمان خان، والعلاقات القوية والاحترام المتبادل بين مختلف العقائد.
معايير فساد الصيام أصبحت مختلفة أمامي بعض الشيء، فالعناية بمظهري للخروج لا يفطر حتى ولو استخدمت بعض مستحضرات التجميل، والخروج عارية الشعر أو مرطبة اليد أو أياً من الأشياء التي تجعل شكلي مهندماً، وهذا ما رايته في بنات الهند المسلمات
أما بعيداً عن الشاشة، فستجد أن سلمان خان لا يمر رمضانه دون أن يقيم ولائم للإفطار، ويرسل مساعدات مباشرة للمحتاجين، واعتاد أن يقدم فيلمه في عيد الفطر هدية للملايين من عشاقه. وهذا ليس حال سلمان فقط، بل إن شاروخان يقوم بدور مشابه لمساعدة الفقراء، ويشتهر أيضاً بالإفطار الذي يقوم فيه بالطهي بين ضيوفه، ويقدم لهم الطعام بيده للحصول على الأجر، ويشارك العديد من الضيوف والفنانين صيام ذلك اليوم، لمشاركة النجم الهندي دعوته و إبداء الاعجاب بما يقوم به.
مؤخراً أيضاً انضم نجوم عديدة لهذا الماراثون الخيري، وأبرزهم النجمة كارينا كابور، التي تشارك زوجها المسلم سيف علي خان جميع الطقوس والشعائر الدينية الخاصة بدينه، وأيضاً عامر خان، وأكشاي كومار، وأيضاً نجمة هوليوود مغربية الأصل نورا فتحي.
الإفطار في الهند
بما انني قادمة من بلاد تجد وليمة رمضان أمر أساسي، وجزء لا يتجزأ من طقوس الشهر، فأياً كان مستوى الأسرة ستجد وليمة مجهزة بكل ما هو طيب و شهي و دسم، أما في الهند فالأمر مختلف تماماً، سفرة الإفطار تتكون من بلح مجفف، وفواكه طازجة مقطعة بحجم صغير، ومقبلات مثل السمبوسك أو كما يطلقون عليها "ساموسة"، وبعض من لفائف الجبن أو اللحم المفروم بعد الإفطار يتم أخذ راحة لمدة ٤ ساعات حتى موعد انتهاء المغرب والعشاء والتراويح، وعودة الجميع من أعمالهم، وهنا تقدم وجبة اليوم الرئيسية في الحادية عشر مساءً، يليها الذهاب إلي "الجيم" للشباب، والخروج في نزهة للمشي لمدة ساعة أو أكثر لكبار السن. ويتبقى فقط وجبة السحور، التي غالبا ما تتكون من زبادي أو لبن بالكركم لمنع العطش، وبيضة مسلوقة في بعض الأحيان.
الصوم ليس شأناً دينياً فقط
صدمني تواجد فريضة الصيام لدى الهندوس، واكتشفت فيها ثلاثة معانٍ جديدة، أضافت لثقافة الصوم لدي:
1 - المشاركة
يحب الهندوس الذين صادفتهم هناك في مومباي مشاركتنا طقوس الصيام الإسلامية، فهم يعتبرون الصوم طقساً روحانياً يرتقي بالجسد والروح، ويعزز مبدأ التحكم في الشهوات، لذلك كان يستغل أصدقائي الهندوس شهر رمضان لمشاركتي الصيام في بعض الأيام من شهر رمضان، ليس أصدقائي فقط بل تلك العادة تعتبر أمر طبيعي بين الهندوس والمسلمين في الهند خاصة في أيام الجمعة.
2 – تحقيق الأحلام
ليست المشاركة فقط هي الدافع لصيام الهندوس، ولكن هناك معتقد قوي بأن الصيام من أجل أمنية ما يدفعها إلى التحقق، وهذا ما كان يقوم به الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي، مما جعلني أتساءل: هل صيام غاندي من أسباب انتصاره على الإنجليز دون حرب بالأسلحة؟ توارث إرث الصيام لغرض سياسي الشعب الهندي وبعض حكامه، فرئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي يستغل أوقات فراغه المفضلة في الاعتكاف في كهف، وممارسة الصوم والتأمل داخله، يكرر ذلك خاصة اذا ما كانت هناك جائحة مثل كورونا أو أمر خطير تمر به بلاده.
3 – فرصة لإنقاص الوزن
بالإضافة إلى أغراض دينية واجتماعية وسياسية، يعتبر بعض الهندوس الصوم فرصة جيدة لاتباع نظام غذائي صحي، يساعد علي تحسين الصحة وخسارة الوزن.
في الظاهر، يبدو وكأنه لا رمضان هناك بشكل عام، فالحياة تسير نهاراً في إيقاعها المعتاد، ولكن بين الأصدقاء والجيران، وعندما تتشكل الصورة بشكل شخصي يمكنك أن ترى أجواء رمضانية، مع اختلاف وحيد: حريتك الكاملة في الصوم والإفطار.
4 – الحرية في رمضان
في بومباي، لا تخشى نظرات المحيطين بك أو إصدار الأحكام، فالأمر متروك لرغبتك وعزيمتك واعتقاداتك الشخصية.
لابد أن أشير أن معايير فساد الصيام أصبحت مختلفة أمامي بعض الشيء، فالعناية بمظهري للخروج في نهار رمضان لا يفطر حتى ولو استخدمت بعض مستحضرات التجميل، والخروج عارية الشعر أو مرطبة اليد أو أيا من الأشياء التي تجعل شكلي مهندماً، وهذا ما رايته في بنات الهند المسلمات، سواءً اللاتي صادفتهن في العمل أو المسجد او أي مكان آخر.
لن أخفيكم سراً بأن كل تلك الاختلافات، في الصيام بين الهند والقاهرة، جعلني على عكس ما يتوقعه البعض، أرى أكثر أن الله جميل ويحب الاختلاف، ويضعنا داخل اختبارات نفسية ليجعل لنا حرية الذهاب له بمحض إرادتنا، وهنا سيكون الأمر أروع من الصيام خوفاً من العقاب الإلهي أو حتى الوصمة الاجتماعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه