تحوّلت سهرات ليالي الشتاء التي كانت تقضيها نساء الريف في الساحل السوري، أيام زمان، مع بعضهن البعض، إلى لقاء نهاري طوال أيام فصل الشتاء الطويل الذي يمر عليهن، وذلك من أجل الخروج إلى الطبيعة والبحث عن الحشائش البرّية "السليق"، التي نبتت بعد هطول الأمطار في البساتين والسفوح الجبلية، والتي يعددنها "نعمةً من الله بعيدةً عن لعنة الاحتكار وطمع التجار وارتفاع الأسعار التي كبّلت معيشتهم".
في ذلك الريف، تتفق النساء في ما بينهن كل يومين أو أكثر، على أن تخبر إحداهن الأخريات، بعد مراقبتها الطبيعة، بأنها شاهدت أحد أنواع الحشائش قد نما فوق الأرض، لتُعلن أن موسم القطاف قد حان.
قبل الخروج، تجتمع النسوة على شرب القهوة الصباحية، ويتبادلن الأخبار والأحاديث عن نكهات حشائش الطبيعة ولذتها وفوائدها، وعن موسم العام السابق، والكميات التي قطفنها ووفّرن من خلالها شراء الغذاء المكلف جداً هذه الأيام، إذ لا توجد عائلة إلا وتحبّ تناولها، وتقضي النساء جلّ نهارهن في البرية، بينما يتفرّغن لإعداد الطعام لأسرهن قبل حلول العصر، فيعدن وبحوزتهن طبخات عدة تكفيهن أياماً عدة.
وخروج النساء الريفيات مع بعضهن لا يصحّ مع الجميع، فكل جارة تتفق مع عدد معيّن من النساء اللواتي تتوافق معهن وتحبّهن، وفي حال خرجت من دون إعلام "الشلة" أو الفريق الذي تخرج معه عادةً، فذلك سيثير الحساسيات.
هذه الحشائش الخضراء التي تنبت في البساتين والسفوح "السليق أو حشائش الشتاء"، أصبحت وجباتٍ غذائيةً للعائلات يتم طهوها بطرائق عدة، ومع أن هذا ليس جديداً على نساء الأرياف في الساحل، اللواتي يعددن ذلك إحدى طرائق الترفيه والتخفيف من أثقال الحياة، إلا أنها ازدادت بكثرة خلال سنوات الحرب.
"الحيلة والفتيلة"
تضع أمّ علي، إيمان الحفة، من قرية خربة الجوزية، الكيس تحت إبطها والسكين بيدها اليمنى، كغيرها من النساء اللواتي يرافقنها إلى الحقول لقطاف القريصة والخبيزة ولسان الثور، من بساتين الدروقيات التي يبدأ فيها الموسم، وتروي لرصيف22، أن في منزلها الذي يقع في ريف اللاذقية الشمالي، تنتظرها العائلة كي تجلب معها طبخات عدة من حشائش الشتاء الطيبة اللذيذة لتكفيهم أياماً عدة.
أم علي تُفاجأ كغيرها بارتفاع الأسعار يومياً: "معقول نحن بلد زراعي وما فينا نشتري الخضرة؟ وإذا بدنا نشتري منتحاسب على سعر الدولار، ووقت بدنا نبيع منتجاتنا بياخذوها بأرخص الأسعار؟"
تقول: "السليق ستغنيني عن شراء طبخات من المحال، إذ أصبحت مكلفةً جداً هذه الأيام، فالمعيشة لم تعُد تحتمَل، والخضروات والفواكه التي تُزرع جميعها محلياً متوفرة، ولكن بأسعار عالية لا نستطيع حتى التفكير في شرائها، فهنا العائلة، سواء التي تعمل في الزراعة أو التي فيها موظفون، لا يمكنها شراء الخضروات بشكل مستمر من السوق".
أم علي تُفاجأ كغيرها بارتفاع الأسعار يومياً: "معقول نحن بلد زراعي وما فينا نشتري الخضرة؟ وإذا بدنا نشتري منتحاسب على سعر الدولار، ووقت بدنا نبيع منتجاتنا بياخذوها بأرخص الأسعار؟"، علماً بأنه لا يتوافر دخل في الأرياف من غير الزراعة التي لم تعُد تجدي نفعاً، فالحمضيات أسعارها منخفضة عند بيعها للتجار، بينما تكون مرتفعةً في المحافظات الأخرى، وزراعتها أصبحت تخسّر ولا يمكن استبدالها بزراعات أخرى، وحتى ذلك يحتاج إلى تكاليف.
سنوات الجوع
تحكي أم علي (38 سنةً، وتعمل موظفةً في الدولة ولا يكاد يكفيها راتبها الشهري لأسبوع)، والحسرة ترتسم على وجهها، عن الأيام الصعبة التي تمرّ بها البلاد وحالتها الصعبة كأحوال غيرها من نساء الأرياف البسيطات، ففي هذه الفترات يستعيضون عن شراء الفروج واللحم اللذين حلّقت أسعارهما عالياً بالبحث عن فطر الهليون المعروف لديهن بأنه لحم بلا عظم، يُقلع ويُقطع ويُغسل وتتفنّن في إعداده، فـ"لطالما كان عماد موائد الفلاحين الفقراء قديماً، وعاد حالياً إلى موائدنا بكثرة، وهذه الحشائش لا تنبت في جميع المناطق الريفية، فنبات 'القريصة' ينمو في الأراضي الجبلية المرتفعة بين أشجار الزيتون، وفي المناطق الحراجية بين أشجار الصنوبر، أما 'لبيس القطة' فتنمو في جميع الأراضي المشجرة بالزيتون، وقسم بسيط منها بين أشجار الحمضيات، في حين تنمو حشائش 'الخبيزة' في الأراضي الرطبة والسهلية على عكس سابقاتها من الحشائش".
اقتربت منا إحدى أقارب أم علي، وقد أتت من مدينة اللاذقية لترافق أقاربها في قطاف الحشائش من البراري، وهي في الستين من العمر وتُدعى أم تمام نافلة ميا، وهي برغم تقدّمها في العمر وبُعد سكنها عن جبل أبو خليل في قرية خربة الجوزية وقرية الدروقيات وجبال الدقاقة في ريف اللاذقية الشمالي، تأتي لقطاف "القريصة، ولبيسة القطة، وأبو الغصون، والهندباء، والسليقة".
تستذكر أم تمام، حكايات الجدّات وقصصهن عن سنوات الجوع أيام الاحتلال الفرنسي، فحينها كانت الأرض في الساحل السوري هي الطبق، "وكانوا يدوّروا متل ما عم نساوي هلق، على الأعشاب والحشايش حتى قدام ما تزهر منها السلبين والخبيزة والحميضة واللوف والهندبة والقريصة ولبيسة القطة ولسان التور وغيرا وغيراتا، وبعدها إجى الجوع بسنة الأربعة وأربعين، وصارت كل الضيعة تاكل مخلوطة (خبز مخلوطة وعشتفون)، وسنين الجوع رجعت ع الناس والفرق بين الماضي والحاضر إنه حالياً أغلب المواد والخضروات المحلية متوفرة، بس ما فينا نشتريها لأنها غالية".
يبدأ موسم الحشائش البرية في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، وينتهي في أوائل نيسان/ أبريل، لذا تقول أم تمام: "بدّي حاول اقطف أكبر كمية من الأعشاب لحتى تكفيني أسبوع طبخ ووفّر شوية مشترى من المحال التجارية، حتى يلّي ساكنين بالريف أرحم لسه من المدينة لأن عندن شوية حطب يطبخوا عليه أما نحنا فبدنا نداري الغاز منشان ما نصرف كتير وننقطع منو".
التجار يتلاعبون بالفلاحين، فكل عام يرفعون سعر صنف واحد من الحمضيات، ويقوم الفلاح بالتركيز عليه أكثر من غيره ظنّاً منه أنه سيبقى محافظاً على السعر العالي، ليُفاجأ بعد أكثر من عام بأن سعر هذا الصنف قد انخفض كثيراً
أما أم محمد، مرشدة حسن، التي تبلغ من العمر ستين عاماً، فتحدّثت إلى رصيف22، بغضب عن الواقع الذي تعيشه وعن تخلّيها عن تربية الأبقار لعدم قدرتها على الاستمرار في شراء الأعلاف التي ترتفع أسعارها يومياً، إذ أصبحت تشتري مشتقات الحليب من السوق، وما أن انتهت من العمل بالأجرة في قطاف الزيتون، حتى بدأت حالياً بالعمل في قطف ثمار البرتقال عند أحد التجار وتتقاضى يوميةً مقابل ذلك، "وإذا بدنا ناكل لحمة منجيبها ع فترات طويلة وأوقات، ننتظر الأعياد التي تقام في الساحل، فالقرى برغم ارتفاع الأسعار ما زال أهلها يتمسّكون بطقوس العيد، ولكن بعدد ذبائح قليل مقارنةً بأيام ما قبل الحرب، ويطبخون البرغل مع اللحم، وما في أطيب من لقمة العيد المقري عليها كلام الله".
الهليون لحم بلا عظم
يمكن للإنسان، حسب أم محمد، أن يعيش على فطر الهليون، فهو أقوى من اللحم، وهو غذاء تام، وفوائده كثيرة تقي من الأمراض، وقد كان مصدراً لغذاء الإنسان منذ عهود طويلة، "ومنجي ندوّر عليه لنحوّشه" من جبل أبو خليل حيث ينمو بكثرة، في أوائل كل سنة، فرائحته وطعمه كاللحم تماماً.
تتفنّن نساء الأرياف في طهي الحشائش ويعددن منها الأطباق التي يقدّمنها للأقارب والمعارف لتناولها، لا سيما التي يتم صنعها بالتعاون بين بعضهن البعض، كالفطائر على التنور والكبة، ويتم تقديم الفطائر المحشوّة بالحشائش للأسرة والضيوف، وهي تغني عن شراء الفروج أو اللحمة التي أصبح سعر الكيلوغرام منها مكلفاً جداً، إذ إن هناك أولويات في المنزل ولا يمكن شراء الفروج بشكل دائم.
وفي حال اتفقت النساء، كما تقول أم محمد، بعد الانتهاء من قطاف الحشائش على صناعة فطائر (القريصة ولبيسة القطة والسلق وغيرها)، على التنور، يتم التعاون والتجهيز ليوم الخبز على التنور، وقد ارتبطت أعمال الخبز بالنساء ولم يكن من عادة الرجال أن يخبزوا على التنور، بخلاف حالهم في أفران المدينة، فتجثو على المصطبة (المضلة)، واحدة أو أكثر من البنات والنساء اللواتي يتعاونّ على تقريص الفطائر ومناولتها للصقها على جدران التنور بوساطة الكارة، وعند الانتهاء تحصل كل امرأة على حصة من الفطائر اللذيذة تكفيها أياماً عدة، كما تغتنم النساء فرصة اللقاء على التنور لتفرغ كل واحدة منهن ما في جعبتها من أحاديث علنية وسرّية وما لديها من مستجدات.
السمسار هو الأقوى
تُسهب أم محمد في الحديث، لتقاطعها أم علي، وتقول: والله حياتنا صارت صعبةً، والتاجر في سوق الهال أصبح شريك الفلاحين في البستان من خلال "مهنة السمسرة" التي تخدمه وحده فقط، لأنه يجني الأرباح أضعافاً مضاعفةً وهو جالس خلف مكتبه في المدينة، مقابل ذلك يجني الفلاح نسبةً قليلةً فقط من تكاليف زراعة الحمضيات أو غيرها، وهذا ما سبّب هجرة الكثيرين لزراعة الحمضيات، بالإضافة إلى أنهم يتلاعبون بالفلاحين، فكل عام يرفعون سعر صنف واحد من الحمضيات، ويقوم الفلاح بالتركيز عليه أكثر من غيره ظنّاً منه أنه سيبقى محافظاً على السعر العالي، ليُفاجأ بعد أكثر من عام بأن سعر هذا الصنف قد انخفض كثيراً مقابل ارتفاع سعر صنف آخر".
يمكن للإنسان، أن يعيش على فطر الهليون، فهو أقوى من اللحم، وهو غذاء تام، وفوائده كثيرة تقي من الأمراض، بهذه الكلمات تعوّض أم محمد عن عدم قدرتها على شراء اللحوم...
وتضيف: "الحجة الحاضرة دائماً أن السوق التصديرية هي التي تطلب الصنف، وتالياً يرتفع سعره، وحتى هذه اللعبة أصبح الفلاح على دراية بها، ولكن لا حول له ولا قوة، علماً بأن التاجر في سوق الهال لا يخسر أبداً، فدائماً يربح من دون جهد أو عناء، بينما الفلاح يخسر ويصبح مديوناً وينتظر الموسم حتى يبيع محصوله ولا أحد ينصفه، وخلال الحرب هو الذي قدّم المساعدة للدولة باستمراره في الزراعة برغم كل الظروف".
وتكمل أم علي: "كل فلاح لديه معاناته، ففلاح الحمضيات له معاناته، وفلاح الفواكه كذلك الأمر، وحالياً بعد تحسّن أسعار زيت الزيتون توجّهنا نحو الاعتناء بالزيتون وقطع أشجار الحمضيات والفواكه واستبدالها بأشجار الزيتون، ولا يختلف الحال بالنسبة لمربّي الأبقار إذ كانت غالبية البيوت في القرى لديها أبقار، أما حالياً فقد أصبح وجودها نادراً في القرى، إلا عند عدد قليل، لارتفاع تكاليف تربيتها".
وتشير إلى أن "الحال بالنسبة إلى سمسار البقر كذلك، فهو شريك المربّي من خلال السمسرة، إذ يوجد عدد من تجار الأبقار يتفقون ويتآمرون في ما بينهم على المربّين في القرى، وعندما يسمع أحد التجار بأن فلاحةً ستبيع بقرةً 'وتكون مضطرّةً'، يدفع لها سعراً قليلاً جداً ويخبر التجار الباقين بأن يتردّدوا عليها ويدفعوا سعراً أقل ليجبرها على البيع بسعر قليل لا يحقّق الربح لها، بينما يربح التاجر في يوم أو يومين أكثر من المربية بأضعاف مضاعفة".
ويرفض التجار في سوق الهال الرد على ما تقوله أم علي، وما يجمع عليه الفلاحون في هذه المنطقة، وأحدهم اكتفى بالرد على تساؤلات رصيف22، قائلاً إن "قوانين السمسرة وأسعار الحمضيات في سوق الهال تحدَّد من نقابة سوق الهال التي تعطي صلاحيةً للتجار في التسعير"، وهذا الحديث يعني أن ما يجري، ليس أقلّ من احتكار ممنهج ومغطّى من قبل النقابة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.