شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حين

حين "تلعب" الدعايات مع الأمهات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الجمعة 31 مارس 202312:31 م

هذه المرة، وهي الثالثة على التوالي، لم تسلم الجرة، واضطرّت شركة فودافون لسحب دعايتها التلفزيونية المخصّصة لمناسبة عيد الأم، العيد الذي وافق هذه السنة مَقْدَم شهر رمضان، وهو شهر الدعايات بقدر ما هو شهر المسلسلات.

يبدأ الإعلان المحذوف بالفكرة الرئيسية مباشرة: شقيقتان يبدو أنهما توأمتان، تسأل إحداهما الأم: "إنتي بتحبي مين فينا أكتر؟". تبدي الأم انزعاجاً من السؤال لأن "أنا معنديش الحاجات دي خالص". لكن سيدة حاضرة، ربما كانت إحدى الضيفات، تسأل الأم في اللحظة نفسها عن كلمة سر شبكة الإنترنت المنزلي، فتخبرها الأم في حرج " love Leila 2010 I" (أحب ليلى 2010). في إفصاح واضح عن الابنة التي تفضلها الأم.

هذه المرة، وهي الثالثة على التوالي، لم تسلم الجرة، واضطرّت شركة فودافون لسحب دعايتها التلفزيونية المخصّصة لمناسبة عيد الأم.

بالطبع، كان اختيار البنتين كتوأمتين مقصوداً، حتى لا يُفهم اختيار كلمة السر على أنه – مثلاً – اختيار لاسم الطفل الذي جاء إلى الدنيا أولاً، كما هو الحال في كثير من البيوت.

بعد هذا المشهد الافتتاحي، تتالى في الإعلان نفسه المواقف المختلفة معبرة عن نفس المفهوم؛ تفضيل واضح لأحد الأبناء على حساب آخر، فنرى إحدى الأمهات تعد وجبة طعام ترحيباً بعودة ابن مسافر، لكن الوجبة في الحقيقة هي المفضلة للابن الآخر، وتبكي إحدى الأمهات في حفل تخرّج ابنها بينما لا يبدو عليها التأثر في حفل تخرّج ابنتها، وتشتري أم أخرى نوع المربى المفضل لابنتها، بينما تطلب من بقية أولادها أن يعدّوا طعامهم المفضل بأنفسهم. بعد هذه المشاهد التي قال الكثيرون على مواقع التواصل إنها أيقظت لديهم صدمات/traumas  قديمة. يقول الإعلان محاولاً أن يبدو خفيف الظل: "مش مهم فيه ابن مفضل أو لأ. المهم إن ماما هي المفضلة عندنا كلنا. اشتريلها هدية بخصم 20%!".

تحاول الدعايات التلفازية، بوصفها في النهاية أحد أشكال التعبير الفني، أن تختبر حدودها عاماً بعد عام. منذ اختارات فودافون أن "تلعب مع الأمهات" وهي تختبر تلك الحدود، قبل عام، وفي إعلان بثّته تحت شعار "كل سنة وكل أم تستاهل تفكّ شوية"، جرّبت الدعاية أن تكسر الصورة التقليدية للأم التي تشتاق إلى أولادها الغائبين، الذين تسهر الليل مفكرة فيهم، قلقة على سلامتهم.

اختارات فودافون أن "تلعب مع الأمهات"، وفي إعلان بثته تحت شعار "كل سنة وكل أم تستاهل تفكّ شوية"، جرّبت الدعاية أن تكسر الصورة التقليدية للأم التي تشتاق إلى أولادها الغائبين، الذين تسهر الليل مفكرة فيهم

في الدعاية المشار إليها، تودع أم ابنها الذاهب في مغامرة ما. تطلب منه أن "ياخد باله من نفسه"، تغلق الباب خلفه ببطء وبمصاحبة موسيقى تكاد تكون حزينة، تتحول إلى موسيقى راقصة ما أن ينغلق الباب وتبدأ الأم في الرقص ابتهاجاً. كذلك تفعل أم أخرى أكثر شباباً وهي تسلّم طفلتها إلى مدربة الباليه، وتغادر صالة التدريب راقصة على الموسيقى نفسها، أم ثالثة تتخذ خطوة أبعد وتحول غرفة ابنها المغترب إلى صالة تدريب. لا تحفل حتى بأن تخبره، يخبره أبوه عبر الهاتف: "أمك عملت أوضتك صالة جيم يا عمرو".

تتوالى الأمهات المبتهجات بعد: توديع الأطفال إلى أول يوم دراسي، النجاح في إرسالهم إلى النوم أخيراً، تركهم لدى الأهل من أجل سهرة لطيفة. ينتهي الإعلان برسالة "كل سنة وكل أم بتستنى ربع فرصة عشان تفك عن نفسها"، لكن الإعلان يسارع إلى تخفيف من الصدمة قليلاً: "لكن ما بتقدرش عشان بنوحشها"، فـ "ساعدها تفكّ عن نفسها واشتري لها هدية عيد الأم".

قال الكثيرون على مواقع التواصل إن هذه الدعاية أيقظت لديهم صدمات قديمة.

بدت الأمهات في كل لحظات "التخلي" تلك مجتهدات، أمينات، قائمات بواجبهن إلى اللحظة الأخيرة، فاستحققن لحظة الاستراحة تلك. الأمر الذي ساعد على تقبّل "كوميديا" رقص الأم بعد سفر ابنها أو توديع أطفالها من دون احتجاجات، بل ربما، بالصياغة المتقنة، بدت الدعاية دعوة إلى أن نخفّف عن الأم بعض أثقالها.

كان ذلك كسراً للصورة النمطية لكنه لم يكن جارحاً كالإعلان المحذوف هذا العام، مع أن كلاهما قدم صورة لا يمكن إنكار أنها حقيقية؛ تفضيل بعض الأهالي لبعض الأبناء على حساب آخرين. ورغبة الأم الصادقة في استراحة من كل شيء، بما فيه أبناؤها. كلاهما كان تجرؤاً أشد من صورة حقيقية أخرى للأم، كانت في إعلان الشركة نفسها قبل عامين.

آنذاك، تحت شعار "كل سنة وكل أم حامي حمى العيلة كلها"، كانت دعاية فودافون الأولى في اللعب مع الأمهات. تقدم الدعاية الأم وهي تنهر ابنها كي يكسر خوفه ويقفز إلى حمام السباحة خلال التدريب، وحين يكرّر المدرب كلمات الأم نفسها مطالباً الابن بالقفز، تتشاجر الأم معه، وتأخذ ولدها وتغادر. وحين تسخر أم من طريقة نجلها الشاب في ركن السيارة أثناء تعليمه القيادة، تغضب بعدها بثوان على سائق سيارة غريب يسخر من ابنها، وتدافع بقوة عن "ركنة" الابن التي كانت تسخر منها قبل لحظات.

مرة أخرى تتوالي المشاهد؛ أم تخبر ابنتها بأن الفستان الذي اختارته غير مناسب، لكنها توافق على شرائه لمجرّد أن البائعة في متجر الملابس قالت الأمر نفسه. أم شابة تدافع عن صوت طفلها المزعج في السينما في مواجهة شخص غريب رغم أنها هي نفسها كانت منزعجة، أم تشارك ابنتها في الفرجة على برامج هاتفها أثناء وجودهما لدى الضيوف، لأن السيدة المضيفة أبدت ملاحظة سلبية بخصوص ذلك السلوك. تنتهي الدعاية بالشعار "محدش هيقف في ضهرك قد مامتك. هي تقول عادي، لكن حد تاني؟ تاكله بسنانها، وعشان كده اشتري لها... إلخ".

ضربت الدعاية على محل ألم حقيقي، وأثارت أوجاعاً صادقة لا يفترض أن يثيرها إعلان تجاري، لذا كان سحب الإعلان سريعاً، ومن غير المؤكد أن ما أثاره من انزعاج سينسحب بالسرعة نفسها

حققت تلك الدعاية نجاحاً وأثارت الضحكات، تماما كما فعلت الدعاية اللاحقة بعد عام عن الأم التي تريد أن "تفك عن نفسها". الصورة غير المنطقية لكن المبرّرة في دعاية الأم "حامية الحمى"، والصورة غير التقليدية لكن المستحقة في دعاية الأم المحتاجة إلى الراحة، كلتاهما تجرّأتا على الصورة النمطية للأم المثالية المقدسة التي اعتاد أن يقدمها التلفزيون، أما الدعاية الأخيرة فقد تخطت حدود الجرأة إلى مرحلة التروما، لقد نسيت للحظات نفسها كدعاية تلفزيونية، وكادت تقدم نفسها كعمل درامي اجتماعي يعاني فيه الأبناء التمييز من قبل الأبوين، النكتة/ الإفيه في نهاية الدعاية لم يكن كافياً هنا، فقد ضربت الدعاية على محل ألم حقيقي، وأثارت أوجاعاً صادقة لا يفترض أن يثيرها إعلان تجاري، لذا كان سحب الإعلان سريعاً، ومن غير المؤكد أن ما أثاره من انزعاج سينسحب بالسرعة نفسها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image