لم أكن دوماً كما أنا الآن. كنت أرغب في كثير من الأمور التي لا أرغب فيها الآن.
كنت أريد أن أكون أماً، أو للدقة كنت أريد أن تكون لدي بنت أو بنات. واخترت أسماءً كثيرةً لهن، حتى أني كتبت قصائد باسم واحدة منهن بالتحديد. لائحة الأسماء تضمنت أسماء صبيان أيضاً، لأن جنس المولود لا علاقة الأمنيات بشأنه. كنت أقول: "سأتزوج، وأخلّف طفلةً ثم أطلّق والدها وأصبح أمّاً عزبةً وأحب من أريد". وكل هذا عكس ما أرغب فيه الآن، ومنذ زمن لم يعد قصيراً.
لم أحمل ولم أتزوج وأقول بكل فرح إن هذا كان من حسن حظي. الوقت وهو يمر أخذني بعيداً عن عذوبة فكرة الأمومة، وصولاً إلى الاشمئزاز منها ومن المنتظر منها.
لم أحمل ولم أتزوج وأقول بكل فرح إن هذا كان من حسن حظي. الوقت وهو يمر أخذني بعيداً عن عذوبة فكرة الأمومة، وصولاً إلى الاشمئزاز منها ومن المنتظر منها
أشمئزّ من تأكد الآخرين من حتمية رغبتي في الأمومة ومن أمنياتهم لي بتحققها وانتظارهم لها بالنيابة عني ومن حساسيتهم تجاه "لا أمومتي". أشمئزّ من صور الحوامل وهنّ يلمسن بطونهن ومن خلفهن يحيطهن أزواجهن بأيديهم المتشابكة مع أيديهن فوق بطونهن، ومن تورم الأقدام والأكل بشراهة والغثيان. أشمئزّ من العواطف الفائضة التي ترافق الحمل والألم الذي تعيشه النساء في أثناء الولادة وقبولهن خوض هذا الألم بالرغم من علمهن بقسوته. أشمئزّ من فكرة تجمهر طاقم طبي أمام مهبلي لإخراج طفل منه، ومن اتّساع مهبلي بعد الولادة، وترهّل بطني، والحيض الذي سيستمر أسابيع والأثداء التي ستصبح مخزن طعام، والوجع الذي ينتج عن مصّ ورضاعة هذا الطعام. أشمئزّ من زيارات ما بعد الولادة، ومن كلمات الشكر بعد استلام كل هدية، ومن الخراء المتكرر والبكاء المتكرر والتقيؤ المتكرر. أشمئز من أن الأمومة كانت ستتحكم بي لوقت طويل وستتجاهل رغباتي ومزاجي ولن تسمح لي بممارسة الجنس إلا وفق جدول يلائمها أولاً.
لا أحتمل فكرة هذا الحب الكثيف المقرر سلفاً، والمُتوقع مني إثباته في كل لحظة حتى عند انعدام القدرة والإحساس بهذا الحب.
لا أحتمل فكرة هذا الحب الكثيف المقرر سلفاً، والمُتوقع مني إثباته في كل لحظة حتى عند انعدام القدرة والإحساس بهذا الحب. يثير استيائي مجرد التفكير في حرماني من أموال ومدّخرات كثيرة كسبتها بكل قرف الدنيا وتعبها وكل الاستيقاظات المبكرة الإلزامية لأصرفها على طبابة الآخرين ودراستهم وملابسهم! نعم، هم آخرون حتى لو كانوا أطفالي الذين وضعت لائحةً بأسمائهم في فترة ما. أمتعض من ضرورة تورط الأمهات في نشاطات أولادهن وما ينتج عنها من توصيل واستلام، ومن علاقات مع أهالي أولاد آخرين بحجة الأولاد. أما العودة قسراً إلى جو المدرسة والتدريس والتشجيع على النجاح والاستيقاظ باكراً، فتلك قصة أخرى، قصة مرعبة تحتل جزءاً كبيراً من أسباب رفضي للأمومة. أضف إليها قصصاً مرعبةً أخرى على شكل أسئلة حول نشأة الكون وسرعان ما كنت سأجد نفسي مجبرةً على الإجابة عن سؤال بشأن هدف الوجود ثم المحاكمة بسبب أنانيتي لإحضار كائنات إلى هذا الكوكب من دون أخذ إذنهم! نعم كانوا سيريدون مني تخيير الحيوانات المنوية: هل تفضلون الدخول إلى مهبل ومن ثم منه إلى الدنيا؟ أم نتجنّب المهبل وتكتفون بالواقي ومن ثم مزابل الكوكب؟ وسيكون عليّ أن أجد أجوبةً تلائم مكانتي كأم حكيمة ومحبة وملمة بكل أمور الكوكب والعلوم والطب والهندسة والجمال وعلم الاجتماع، في حين أن معلوماتي العامة في كل المجالات تكاد تكون معدومةً!
لا يمكنني استيعاب المجهود والصبر المطلوبين لتحمل كل أنواع الأسئلة الذكية والغبية وهواجس ضرورة الإجابة عليها بشكل دقيق، وهذا يعني البحث الدقيق لإيجاد الإجابات الدقيقة من دون الخوف من ندم استخدامها أو من لومي على مضمونها يوماً ما. لا يمكنني تحمل مسؤولية أمنهم وأمانهم وشبعهم وفرحهم وتوفير ظروف وأدوات بعض نجاحاتهم وسعادتهم... وكأنني كنت قد وفّرت لنفسي أدوات النجاح أصلاً، إلا إذا عددت أن أطفالي سيكونون من أدوات نجاحي. نجاح معبّد بمشاعر ووظائف مرهقة وكثيفة وواجب يستمر إلى الأبد، واجب أن أكون الأم!
لم أدندن يوماً أغاني الأمهات. تثير نفوري من كمّ التضحية الممنوحة والمتباهى بها وإنكار الذات في سبيل الحب غير المشروط. وأنفر أيضاً من دموع الأمهات وبناتهن في عيد الأم السنوي
لم أدندن يوماً أغاني الأمهات. تثير نفوري من كمّ التضحية الممنوحة والمتباهى بها وإنكار الذات في سبيل الحب غير المشروط. وأنفر أيضاً من دموع الأمهات وبناتهن في عيد الأم السنوي، ومن سهرة العيد العائلية -التي تتوسع لتضم زوجات الأبناء وأزواج البنات- وخطة شراء هدايا مناسبة لإظهار تقديرهم لأمهاتهم، هدايا مذيّلة بعبارة: "ما في شي بيفيكي حقك".
أرفض أن أضحي بهذا الكم من بقية تفاصيل الحياة والوقت والمزاج والمشاعر، وأرفض أن أقلق كل هذا القلق، وأرفض حباً غير مشروط.
أرفض أن أكون المرأة المنهكة في إعلانات أدوية وجع الرأس، وإعلانات حليب الأطفال الذي يساعدهم على النمو، وإعلانات معقمات المنازل ومسحوق الغسيل والصابون الذي يحمي أيديهم وعائلتي!
أرفض أن أضحي بهذا الكم من بقية تفاصيل الحياة والوقت والمزاج والمشاعر، وأرفض أن أقلق كل هذا القلق، وأرفض حباً غير مشروط.
أرفض أن أصبح مرتهنةً ومسلوبةً ومحكومةً من أطفال لدي سلطة أن أبقيهم حيوانات منويةً غير ملقحة وتسبح في قنوات بعيدة عني، لأني إن تخليت عن هذه السلطة سأُسلب وأُرتهن وأُحكم لا محالة.
أرفض أن أشحذ الراحة والوقت، وأرفض أن أقوم بدور الأم، وأرفض أن أقدّم تضحيات الأمومة.
أنا محظوظة جداً بأن العلاقات التي كان يمكن أن تؤدي إلى زواج أو حمل ومن ثم أمومة، لم تستمر، ومستعدة لتكرار اختبار الحزن الذي تركته حينها تلك النهايات في روحي، طالما سأحصل على نهايتي الحالية، وسأبتسم في كل مرة أعي فيها واقعي الخالي من الأمومة.
أعرف أن لدى الأمهات لوائح طويلة وصادقة في مديح الأمومة، أو لنكن واقعيين بعد كل ما ذُكر أعلاه: مديح جوانب كثيرة من الأمومة. مشاعر لا أنكر روعتها لأني أراها وأسمع عنها من كل الأمهات من حولي، وأعرف أن المشاعر والأحاسيس التي تجتاح المرأة في أثناء الحمل وعند الولادة لا تتكرر ولا تشبه مشاعر أخرى، وأن مشاعر الأمومة تخفف كثيراً من وطأة وإرهاق واجبات الأمومة وتغير مجرى وأهداف وألوان الحياة لأصحابها، ولكنني أشكر كل الظروف التي أعاقت حصول أمر كهذا لي كي لا أصبح أسيرة هذه المشاعر والحب، وكي لا تتغير أهدافي المرتبطة بي حصراً وإن كانت تافهةً.
أعرف أن لدى الأمهات لوائح طويلة وصادقة في مديح الأمومة، أو لنكن واقعيين بعد كل ما ذُكر أعلاه: مديح جوانب كثيرة من الأمومة. مشاعر لا أنكر روعتها لأني أراها وأسمع عنها من كل الأمهات من حولي
قدرتي على الحب هائلة، لكن لا يتوفر لدي مزاج يسمح بما يشترطه حب الأمومة من تفرغ لواجباته وقلق وحتى فرح. مزاجي لا يتقبّل ديمومة سيطرة هذا الحب على عواطفي ووقتي، ولا إلزامية تحضير الوجبات اليومية والتأكد من أن تكون ليس فقط لذيذةً بل صحية أيضاً. ولا أريد تحمّل وزر التربية على بعض القيم وتمنّي أن تثمر، ولا أريد تحمّل مسؤولية نتائج أفعال وأقوال أحد. أنا من معتنقي مبدأ الـtrials & errors، وهذا ليس مذهباً تعتنقه الأمهات في أمومتهن. الطاقة على هذا الكم من الاهتمام والمتابعة والحضور أكبر مما يمكنني توفيره، وأكبر مما أريد سلبه مني لتوفيره لمهام الأمومة. ليست لدي القدرة على هدر هذا الكم من كل شيء لأجل الارتباط الأبدي المرهق بأمومتي، بدءاً من لحظة الولادة وحتى بعد أن تصبح لأطفالي في يوم ما حياة أوسع فأصير جزءاً من اتساعها، وصولاً إلى أن أصبح جدّةً.
والأمومة ليست قدري، و"هبة" الأمومة العالمية التي منّ بإمكانية حصولي عليها وجود مهبل لي، أهبها، وأنا بكامل امتناني لمهبلي، لمن ترغب بها وتتمناها
كيف أبقى امرأةً بعد أن أصبح أمّاً؟ ثم جدّةً!
أختار أن أكون فقط امرأةً وأبقى فقط امرأةً. وسأكتفي بمداعبة طفلة عندما أستلطف أحداهن، ثم أعطيها لأمها لتبكي على كتفها.
كيف أبقى أنا بعد أن أتخلى عن كسلي وأنانيتي ومزاجي؟
أختار أن أبقى أنا برغم فراغ مساحتي وكسلي في تعبئته.
والأمومة ليست قدري، و"هبة" الأمومة العالمية التي منّ بإمكانية حصولي عليها وجود مهبل لي، أهبها، وأنا بكامل امتناني لمهبلي، لمن ترغب بها وتتمناها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...