تقف فتاة "محجّبة" في مرمى العين، داخل فضاء "مغلق"، لا تسمعُ فيه سوى الموسيقى وطقطقات كُرات البلياردو. تستوي هذه الفتاة جيّداً على طاولة البلياردو، لتدخِل الكُرات الحمراء، بما أنّ خصمها "الذكر" تكلّف بالصفراء، وفق قوانين اللّعبة. تمسك العصا بإحكام وفق زاوية رمي تحيل على احترافية عالية في اللعب. أدخلت هذه الفتاة كراتها السّبع، ثم حسمت بإنزال الكرة السوداء رقم 8 في الثقب الركني بطريقة ممتعة.
طوال لعبها مباريات متتاليةً عدة، كان واضحاً كيف أن عينيها مشدودتان إلى الطاولة، وإلى قواعد الفيزياء المتحكّمة في طرائق اللعب إجمالاً. كان واضحاً أيضاً، كيف أنها تستمتع، تضحك، وتمرح، غير مباليّة لكثير من الأعين التي تلاحظها. لم ترتبك، وأشهرت ورقة عفويّتها وانصبّ تركيزها كله على اللعب، وعلى الفوز، وعلى صفّ الكُرات بعناية وإدخالها في الحفر، وعلى أهم شيء: تفاصيل الحكاية. حكاية أنثى داخل "مكان" ظننّاه جميعاً، ذكوريّاً: البلياردو.
حدث هذا المشهد في مدينة مكناس المغربية، وبطلة المشهد هي فتاة مغربية تبلغ من العمر 27 سنةً، تُسمّى تيملي بلعيد. هذه الفتاة لم تبدِ أيّ تردد في الحديث إلى رصيف22، ما دامت تأتي دائماً إلى هذا الفضاء لتُناوش الرغائب الجامحة والدفينة: رغبات الفرح في مكان لا يُخمّنه أحد.
فضاء "ذكوريّ"
حين وافقت تيملي بالعيد، على الحديث إلينا، أصرّت أن تعيد كلّ شيء إلى الدرجة صفر، أي إلى أول مرة ولجت فيها فضاءً مليئاً بطاولات البلياردو. تقول بلعيد: تعرّفت على هذه اللعبة قبل أزيد من ثلاث سنوات، بعد أن اصطحبتني صديقة لي معها إلى أحد نوادي البلياردو. أحببت كثيراً صوت الكرة البيضاء حين تصطدم ببقية الكرات المطلوب إدخالها في إحدى حفر الطاولة الستّ. كان ذلك الصوت يشعرني بنوع من القشعريرة، وكأنّ نفحةً من هرمون الدوبامين تُفرَز في أحشائي تلقائيّاً.
تضيف بلعيد، وهي تتحدّث بحماستها الطفولية، أنّها تلعب بشكل جيد. وتوضح قائلةً: لأنني ألعب منذ ثلاث سنوات، فقد راكمت خبرةً لا بأس بها في اللعب. لكن مع ذلك أرى أنه ما زال ينقصني الكثير من الجهد للاستمرار في التطور أكثر. المشكلة أننا في المغرب ليست لدينا أندية متخصصة في مواكبة المتعلمين للّعبة وصقل قدراتهم ومهاراتهم، أي أنّ ما بلغته من حرفية راجع إلى جهدي الخاص، فحين ألعب أجد أنني أمارس شيئاً من طقوسي وما أحبّ القيام به.
في المقابل، تتأسّف المتحدثة لأن "البعض يعدّ البلياردو لعبةً رجاليةً فحسب"، مبرزةً أنها "ليست ذكوريةً على الإطلاق، ولكن تمّ السّطو عليها من طرف الذكور، لكن حديثاً وفي مسابقات دولية للّعبة، نلاحظ نساءً يتفوّقن أيضاً في اللعب ويكشفن عن علوّ كعبهنّ في هذه اللعبة تحديداً".
بيد أنّ المشكلة، كما تفسرها بلعيد لرصيف22، أن الفضاءات الحاليّة في المغرب "تمنع" الكثيرات من الفتيات من ارتياد نوادي البلياردو، وذلك لسبب بسيط هو أنّ هذه الفضاءات في الوقت الحالي لا ترحّب بالفتاة المغربية كيفما كانت حساسيّة تفكيرها أو قناعاتها. بمعنى أنها فضاءات فيها تدخين وأحياناً كلمات خادشة للحياء أو نابية، وهو ما لا تستطيع تحمّله معظم المغربيات حتى لو كنّ متحررات أو علمانيات. ليس الكلّ مثلنا قادرين/ ات على وضع تصوراتهم/ ن أمام باب النادي والدخول بفكرة واحدة: أنا هنا لألعب، لأستمتع.
ليست لعبة البلياردو ذكوريةً على الإطلاق، ولكن تمّ السّطو عليها من طرف الذكور، لكن حديثاً وفي مسابقات دولية للّعبة، نلاحظ نساءً يتفوّقن أيضاً في اللعب
تتماهى ياسمين الرايسي، مغربية من الرباط ومحبّة للّعبة، مع تيملي بلعيد، وترى أنّه "في زمن الناس هذا، لم تعد التوقيعات الجندرية ذات معنى أو ذات قيمة كبيرة. فلم يعد جزء كبير من حياتنا اليومية حكراً على الذكور كما لم تعد أشياء عديدة حكراً على الإناث؛ حتى أنّ التّسويق اهتدى إلى هذه الحقيقة، ليبتدع سلعاً جديدةً بتوقيع الجنسين unisexe، لكنّ مجتمعنا ما زال ينظر إلى البلياردو كفضاء ذكوري بالمطلق، لأنّه مجتمعٌ ذكوريّ في حمضه النوويّ أصلاً".
الرايسي البالغة من العمر 28 سنةً، ترى في حديثها إلى رصيف22، أنها ناضجة بما يكفي لكي تقرر أين تذهب، والأماكن التي تحبّذ أن تدلف إليها، مبيّنةً أنّها لا تتحرّج في الذهاب إلى أماكن مكتظّة بالذكور، ما دامت تعي يقيناً بأنّها ستفرض على الآخرين احترامها كما ستحترمهم. ولهذا تقول: لا مشكلة عندي في أن أمارس رياضةً أو نشاطاً يُعدّان، وفق الكثيرين، ذكوريّين، بما أنني أختار ذلك طواعيةً وبحرّية، خصوصاً أنني أحبّ لعب البلياردو ولا أعدّه مجرد ترفيه أو تسلية، بقدر ما أراه رياضةً ذهنيةً، تعتمد على الكثير من التركيز، والدقة والإتقان.
في زمن الناس هذا، لم تعد التوقيعات الجندرية ذات معنى أو ذات قيمة كبيرة. فلم يعد جزء كبير من حياتنا اليومية حكراً على الذكور
وأمَّا زينب باحاج (21 سنةً)، من مدينة فاس، فتقول ما مفاده بأنّها ليست مواظبةً على اللّعب بشكل روتينيّ، لكنها توضح: "يحدثُ بين الفينة والأخرى أن أذهب إلى نادي البلياردو للّعب. أفعل ذلك لأنها أصلاً لعبة أُريد لها أن تكون غامضةً بالنسبة لنا نحن الإناث. أعدّ لعبي البلياردو بمثابة عناد لفكّ الكثير من الألغاز اللصيقة بهذه العوالم. مستواي في اللعب جيد، ليس ممتازاً كفاية، لكنّي أستمتع حين أقوم بذلك. شعارات المساواة أوضحت بالملموس أنّ الأحكام الظنية تجاه النساء مجرد ادّعاءات فقط، وأنّنا حين نلعب أي لعبة نُضاهي الذّكور فيها. نحن ندرسُ معاً، ولا أجدُ في الأمر مشكلةً في أن نتقاسم فضاء البلياردو أيضاً".
فضاء غير آمن؟
حين ندخل في نقاش عن النساء والبلياردو، تبدأ معادلة الفضاء الآمن وغير الآمن تلوح في كامل الأفق. ومن ثمّ، تبيّن زينب باحاج، أنّ هذه محنة حقيقيّة، بما أنّ الفتاة حين تكون في البلياردو تلفت الأنظار، وتصير الأعين تتلقّفها كالطّريدة المذعورة. أحياناً هذه النظرات تربك الفتاة في أثناء اللعب وتفقدها تركيزها وعفويّتها، خصوصاً أنّ وضعية اللعب تُعدّ "عيباً" وفق الثّقافة الذكورية السّائدة.
لكلّ هذا، وتفادياً لكلّ المشكلات المماثلة، تحكي زينب أنهن يجتمعن كفريق نسائي، ويقمن بكراء النادي كاملاً لساعات في مدينة فاس، ويلعبن بكلّ أريحية وبتركيز مطلق ومرح أكثر. "هذا يكرّس الفجوة بين الجنسين طبعاً، لكنه أسلوب حمائيّ جيد، فالفتاة تريد اللعب وتحبّ ذلك، وهناك كوابح قد تمنعها، لذلك من الجيّد أنّ هناك الحقّ في كراء الفضاء"، تختمُ زينب.
هذه محنة حقيقيّة، بما أنّ الفتاة حين تكون في البلياردو تلفت الأنظار، وتصير الأعين تتلقّفها كالطّريدة المذعورة
تيميلي بلعيد، تتقاسم معنا قصة تعنيها بشكل حصريّ، فتتحدث بفخر واضح: أعتقدُ أنني صرتُ معروفةً في الكثير من النوادي، هنا، في مكناس. وفي معظم الأماكن التي أذهب إليها للّعب يدرك مرتادوها أنني هناك للّعب وليس لشيء آخر، ويحترمونني، خصوصاً أن أصحاب هذه الأماكن يؤمنون باللعبة، أكثر ممّا يعدّونها رأسمالاً أو شيئاً مدرّاً للدخل. لهذا يحرصون على أن تسود أجواء أخويّة في معظمها، وأن يكون الفضاء مريحاً للذكور والإناث على حد سواء. هناك بعض الأماكن التي قد تشهد تجاوزات خطيرةً، ومن ثمّ لا أثر لي في تلك النوادي التي لا تقدّس اللعبة في حدّ ذاتها.
ولكن الخطير، أنّ "ثمّة تصوّراً نمطيّاً يرى أن الفتاة التي ترتاد نوادي البلياردو هي فتاة بلا أخلاق". لكنّ ياسمين الرايسي، تستفسر، هنا، "عن المعنى المقصود بالأخلاق، بما أنّ هذه التصورات لم يعد لها مكان بينناً ولم تعد ذات قيمة في عصرنا. إنها تصورات نابعة من عقول متحجرة تجترّ تنميطات قديمة وخطابات ماضوية تكرّس نوعاً من العقم الفكري بكلّ ما يضمره من كراهية تجاه النساء. نقيّم الإنسان اليوم ليس بجنسه أو بالأماكن التي يرتادها، بل بإنجازاته وسلوكياته المواطنة وحضوره في الفضاء العام، الذي ينعكس في مستواه الفكري والأخلاقي".
أعتقدُ أنني صرتُ معروفةً في الكثير من النوادي، هنا، في مكناس. وفي معظم الأماكن التي أذهب إليها للّعب يدرك مرتادوها أنني هناك للّعب وليس لشيء آخر، ويحترمونني
ثمّ تعليقاً على محنة التحرّش الجنسيّ الذي يمكنُ للفتاة أن تصادفه في نوادي البلياردو، تجدُ الرايسي أنّ في الأمر تعويماً للنقاش، يتخفى في الواقع لكي يحمّل المرأة مسؤولية تعرضها للتحرش، أي أنه يصرف النظر عن المُتحرّش وعن التحرش الجنسي الذي هو مشكلة تربوية قديمة تتجدد باستمرار.
وكخلاصة تقول الرّايسي: التحرش الجنسي لم يكن يوماً مشروطاً بفضاء معيّن أبداً، بقدر ما يرتبط بتربية المُتحرش ابتداءً. فيمكن للمرأة أن تتعرض للتحرّش وهي تغادر المسجد مثلاً، وحتى أنها قد تتعرض للتحرش وهي في طريقها إلى وضع شكاية جنسية عن التحرش، كما قد يتمّ التحرش بها داخل المخفر وهي تقرر وضع شكاية عن جريمة متصلة بالتحرش.
رؤية من الخارج...
داليكسي مونتوجا (25 سنةً)، فتاة كولومبيّة تقطن في المغرب، وترتاد نوادي البلياردو للّعب بين الفينة والأخرى. عبر التواصل مع مونتوجا، راهن رصيف22، على أنّ ينظر إلى حضور المغربيات المحتشم في فضاءات البلياردو بعيون امرأة أجنبيّة، لكن من دون أي إسقاطات ممكنة.
وفق ملاحظتها، فإن الحضور النسوي في فضاءات البلياردو في المغرب ما زال محاصراً، كما ما زال حضورهنّ في الفضاء العام إجمالاً يشكو من خصاص ما. تقول داليكسي مونتوجا: منذ وصولي إلى المغرب، أدركت هذه الفجوة بين المغرب وبلدي الأصل كولومبيا. هنا، في المغرب، ما زالت المرأة تُقدَّم في دورها التقليدي "المنزلي" في كثير من الأوساط. وهذا نابع، بالضرورة، من الصّور النمطية ذات الأسس الدينيّة والثقافيّة والمجتمعيّة. ومن هذه الزاوية أيضاً، يمكن فهم عدم ذهاب العديد من المغربيات إلى فضاءات معيّنة على غرار البلياردو.
مونتوجا تشدد، في تواصلها مع رصيف22، على أنه "برغم الفوارق الكثيرة بين المغرب وكولومبيا مثلاً في هذا الجانب، فإنّ التمييز ضد المرأة موجود أيضاً في بلدي الأمّ. أنا أيضاً في بلدي أحاول تجنّب مراقبة أي ذكر لي أو أن يتحسسني ببصره. لذلك عدلتُ عن الذهاب إلى أماكن عدة. أتصوّر أن أحد الأسباب هو أن الأماكن العامة مرتبطة ثقافياً بمشكلة التلصص على النساء".
تقول المتحدثة: في البلياردو أو في غيره، نحن كنساء، علينا أن نفكر في الطريقة التي نلبس بها، الطريقة التي نتصرف بها والطريقة التي نتحدث بها في الفضاءات العامة والمختلطة. هذه أزمة كونية لكن الأمر في المغرب يبلغ مستويات مرعبةً ولافتةً. أنا متأكدة من أنّ معظم المغربيات لا يشعرن بالأمان في الفضاء العام، فالتحرش في الشوارع يحدّ من تنقلهنّ وولوجهنّ إلى العديد من الأماكن التي يرغبن في ولوجها أو التي تشكل عالماً غامضاً بالنسبة إليهنّ.
تجملُ مونتوجا عادّةً أنّ الدخول إلى مكان مليء بالرجال كنوادي البلياردو يعدّ، لا محالة، تحدياً صعباً بالنسبة إلى الكثير من النساء، وتميل غالبيتهنّ إلى تجنّب ولوجها بأي ثمن. ففي هذه الأماكن سيشعرن، بطريقة ما، بأنهنّ مراقبات، ومضَايقات، وأنّ هناك أحكاماً ظنيةً وصوراً نمطيةً تتقاذفهنّ في المحيط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت