حلم وعزيمة، تنمّر وقسوة، صعود مدوٍّ، وطعنة من الخلف، ثم سقوط من على مشارف القمة؛ تماماً مثل الأساطير الإغريقية القديمة، تنسج بطلة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف قصتها، التي بدأت في "تيارت"، وتعثرت في "نيودلهي".
في الخامس والعشرين من آذار/ مارس الجاري، وبينما كانت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، تستعدّ لملاقاة الصينية يانغ لي، في نهائي بطولة العالم للسيدات (وزن 66 كيلو)، المقامة حالياً في نيودلهي، فوجئ الجميع بقرار الاتحاد الدولي للملاكمة استبعاد إيمان خليف، بسبب ارتفاع هرمون الذكورة "التستوستيرون"، بشكل مفرط في جسمها!
من جانبها، نشرت اللجنة الأولمبية الجزائرية، بياناً أعلنت فيه خبر استبعاد إيمان خليف، مؤكدةً على أن اللجنة سوف تتكفل بالمرافقة الطبية لإيمان ودعمها استعداداً للدورة الإفريقية المؤهلة إلى أولمبياد باريس 2024.
بداية امرأة شجاعة
نشأت إيمان في بيئة اجتماعية قاسية جداً، وسط عائلة كانت هي الطفلة الأكبر فيها. أُلقيت على كاهلها وهي صغيرة، مسؤوليات كبيرة، فاضطرت إلى العمل وبيع المطلوع (الكسرة) على قارعة الطريق، لجلب قوت يومها ومساعدة أهلها وإخوتها الصغار.
كانت تحلم بأن تكون ملاكمةً صلبةً، مثلما كانت الحياة صلبةً وقاسيةً معها، واستطاعت أن تشقّ طريقها بمفردها في عالم الفن النبيل، غير ملتفتةٍ إلى الكمّ الهائل من عبارات التنمّر على شكلها وتشبيهها الدائم بالرجال، لأنها كانت تدرك في قرارة نفسها أنها أنثى، ولم ترَ نفسها غير ذلك، وتتسلح بالصبر لتفادي الانكسار، لأنها لم تخلق نفسها ولم تختَر شكلها، فآمنت بنفسها وكسرت كل الحواجز أمامها.
من قرية نائية في ولاية تيارت غرب البلاد، سطع نجم الشابة اليافعة، وأصبحت الرقم الأصعب فلا تستطيع أي ملاكمة أخرى مجابهتها في وزنها، وسيطرت على البطولة الوطنية ثم الإفريقية والمتوسطية، ونالت المرتبة الثانية في البطولة العالمية.
تحولت إيمان إلى مشروع بلد بأكمله، تحضر لتغزو المحافل الدولية، خاصةً الألعاب الأولمبية، فبمستواها يمكن أن تبسط سيطرتها على الحلبة لسنوات عدة.
إيمان خليف تتحدث
"كثيراً ما تعرضت في حياتي للتنمر بسبب شكلي الذي لم أخلقه"؛ هكذا تحدثت إيمان خليف، إلى جمهورها في مقطع فيديو قصير، عبّرت فيه عن غضبها من التنمّر الذي عانت منه كثيراً، والذي توجّه شعورها بالظلم من "المؤامرة" التي تعرضت لها مؤخراً، لإقصائها من النهائي على حد تعبيرها.
ولم يفت البطلة الجزائرية، أن تؤكد للجميع أنها لن تصمت حتى تستعيد حقها.
على الجانب الرسمي، وقفت الدولة الجزائرية ممثلةً في وزير الرياضة، مع البطلة الجزائرية، وصرّح الوزير للإعلام بعد استقباله خليف في مكتبه، بأن اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي لم تقبل الطعن الذي قدّمته بلاده، وقد ألمح الوزير إلى شكوكه في نوايا الاتحاد الدولي قائلاً: "دائماً ما تُجرى التحاليل قبل النهائي، وهذا التحليل أُجري يوم 16 آذار/ مارس، وظهرت نتائجه يوم 23 آذار/ مارس". وأكد على دعمه المطلق لإيمان خليف، والاهتمام البالغ الذي توليه "السلطات العليا" في الجزائر من أجل رد الاعتبار إليها.
وكان الرئيس الجزائري عبد الحميد تبون، قد غرّد مهنّئاً البطلة إيمان خليف، بصعودها إلى الدور النهائي، وذلك قبل أن يتم استبعادها على يد الاتحاد الدولي.
هل تآمر المغرب على الجزائرية إيمان خليف، حتى لا تكون أول عربية تتوَّج بلقب بطولة العالم؟
دور المغرب في القرار
في حديثها المسجل، أشارت إيمان خليف إلى "المؤامرة" التي أطاحت بها، فمن تحديداً كانت تقصد؟
رصيف22، توجّه إلى المسؤولة عن الملاكمة النسائية في الجزائر، منال محرزي، لنستوضح منها من تآمر على خليف، فأجابتنا: "الصين والمغرب، ثم استطردت قائلةً: هذه الاتهامات ليست من نسج الخيال، فالصين تعلم بأن إقصاء إيمان يمهّد لها الطريق لتتويج ملاكمتها في النهائي، وذلك كان بإيعاز من المغرب الذي وقف عائقاً أمامها، حتى لا تكون الملاكمة الجزائرية أول لاعبة عربية وإفريقية تتوَّج بلقب بطولة العالم".
تضيف محرزي: "أنا هنا لا ألقي التهمة مجاناً. المسؤولون المغاربة منذ 2020، يضعون إيمان خليف تحت أعينهم، ويشون بها في كل مرة للهيئات الدولية والحكّام خلال المنافسات، وبسببهم أجرت فحصاً في السنغال، لمنعها من التأهل إلى الألعاب الأولمبية ولم تنجح خطتهم".
المدهش أن إيمان لم تبدأ بممارسة الرياضة منذ الأمس، بل منذ 2017، وهي ملاكمة دولية منذ 2018، فكيف يستبعدونها اليوم بحجة ارتفاع هرمونات الذكورة لديها، برغم أنها مثل كل الملاكِمات الأولمبيات تتكفل اللجنة الأولمبية بمتابعتها عبر تطبيق صارم، ترسل من خلاله نتائج التحليلات الخاصة بالمنشطات والهرمونات، وكثيراً ما كانوا يرسلون ممثلهم ليأخذ عيّنات منها بشكل فجائي؟
اختتمت محرزي حديثها إلى رصيف22، بالقول: "ما عجز عنه هؤلاء قبل عامين، حققوه الآن، وكل هذا حتى لا يرفرف العلم الجزائري".
غياب تام للدبلوماسية الرياضية
"ما حدث للملاكمة إيمان خليف يشوبه الغموض"؛ هكذا يستهل الناقد الرياضي الجزائري حسين جناد، حديثه إلى رصيف22، مستغرباً، "فبرغم تضارب التصريحات، تبيّن أن الإقصاء جاء بعد تحاليل طبية خضعت لها الملاكمة إيمان خليف، ليبقى السؤال المطروح حالياً هو: هل هذا الهرمون المكتشَف في جسم الرياضية هو هرمون جديد؟ أم خُلق في جسمها منذ ولادتها؟ وإن كان موجوداً في جسمها منذ ولادتها، فأين هي نتائج التحاليل الطبية التي يخضع لها كل رياضي طوال مسيرته الرياضية، خاصةً أن إيمان خليف تمارس رياضة الملاكمة منذ سنوات، وشاركت في تظاهرات رياضية عدة وخاضت منازلات عدة؟".
يواصل حسين جناد حديثه إلينا مؤكداً أن إقصاء بطلة جزائرية بهذه الطريقة، هو انعكاس لضعف جبهة الدفاع من الجانب الجزائري، وغياب كلّي للدبلوماسية الرياضية، مضيفاً: "إن الصراعات الداخلية التي تعيشها الملاكمة الجزائرية، تؤثر على مسيرة أبطالنا".
مخاوف جناد، تتقاطع مع كلام أحد الملاكمين المحترفين الذين شاركوا في الألعاب الأولمبية الأخيرة، والألعاب المتوسطية في الجزائر، والذي رفض الكشف عن هويته، بسبب ما وصفه بالمحيط المتعفن للملاكمة في الجزائر، قائلاً لرصيف22: "في الماضي، كانت الجزائر ممثلةً في شخص نائب رئيس الاتحاد الدولي للملاكمة، ورئيس الاتحاد الإفريقي للملاكمة، إلى جانب أعضاء في الاتحاد الدولي والإفريقي والعربي، بينما حالياً تفتقد الجزائر أي تمثيل على جميع المستويات، بسبب انشغالها في صراعاتها الداخلية، فما حدث اليوم لإيمان لم يكن ليحدث في وقت سابق، حين كان مسؤولونا 'متغلغلين' في كل الهيئات الدولية".
هل ما حدث اليوم لإيمان خليف، كان سيحدث حين كان مسؤولو الجزائر 'متغلغلين' في كل الهيئات الدولية؟
صراعات داخلية تهدد القفاز الجزائري
الحديث عن ترهّل اتحاد الملاكمة الجزائري وتفتته، لم ينقطع طوال السنوات الماضية، إذ يعاني الاتحاد من صراعات داخلية واتهامات بالفساد، ومتابعات قضائية وتراشق بالتهم، وهو ما أفضى إلى سحب الثقة من رئيسه السابق نور الدين فزيل فرحات، في عملية صاحبها الكثير من الجدل، واعتراض الاتحاد الدولي للملاكمة، الذي طالب الأسبوع الماضي في رسالة شديدة اللهجة، وجّهها إلى اللجنة الأولمبية الجزائرية، بتفسيرات عن سبب إقدام أعضاء الجمعية العامة للاتحادية الجزائرية للملاكمة على سحب الثقة من فزيل فرحات، كما طالب بتسوية الأمر لتفادي تجميد جميع نشاطات الملاكمة الجزائرية على المستوى الدولي.
بين اتحاد مفتت، وتنمّر لا يتوقف، ومؤامرة محتملة أو متوهمة، تظل إيمان خليف رمزاً لكل فتاة عربية، ورسالةً إلى الجميع مفادها: نعم نحن نقدر على تخطّي الفقر والظلم والقسوة، والنجاح برغم أنف كل شيء، وإيمان فعلتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...