شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
معيار طبقي يحدد رفاه الفرد... الاقتصاد السياسي للموز في تونس

معيار طبقي يحدد رفاه الفرد... الاقتصاد السياسي للموز في تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 3 أبريل 202309:15 ص

بعد عقود من شيوع بيع الموز في تونس، بكميات وافرة، طول العام، وبعد سنوات من انتقالي إلى بلاد الغرب، حيث يُعتبر الموز أرخص أنواع الفاكهة، ما زال مشهد كومة الموز الكبيرة في مركز التسوق، بلونها الأصفر المميز، يثير داخلي بهجةً طفولية، رغم أنني لا آكل الموز منذ سنوات طويلة.

شأني شأن أبناء جيلي، عشتُ في بلاد كان الموز فيها غير وفير. أتذكر جيداً بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان الموز يحلّ ضيفاً عزيزاً على تونس في شهر رمضان حصراً. كان حضوره المتقطع على موائدنا مصدر فرح للأطفال، وسبب نزاعات عائلية.

نشأتُ في عائلة من الطبقة الوسطى، وحالنا حال قطاع واسع من التونسيين، كنّا نشتري كيلوغراماً من الموز مرتين أو ثلاث مرات في أسبوع رمضان. ولأن الكيلوغرام يتألف من نحو خمسة قرون، كانت أمي مجبرةً على أن تقسم كل قرن إلى نصفين كي تعمّ بركات الموز النادر على الجميع، فيما كنا نُبجّل جدتي بموزة كاملة حباً واحتراماً لها.

كان الموز جزءاً من أحلام الطفولة، فكنّا دائماً نتخيل عالماً مليئاً بالشوكولا والحلوى والموز. لكن مع نهايات القرن العشرين، بدأت تلك الندرة تتبدد شيئاً فشيئاً، وصار حضور الموز يتجاوز شهر رمضان إلى بقية أيام السنة. لم يكن ذلك وليد الإنتاج المحلي، إذ لا ينمو شجر الموز في تونس لأسباب مناخية، ولكنه كان وليد نمط الاقتصاد السياسي الجديد الذي دخلت فيه البلاد، في بداية العشرية الأخيرة من حكم الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن عليّ.

فاكهة الموز تأتينا من وراء البحار وتلخص أكثر من أي منتج آخر قصة تحوّل البلاد من هيمنة رأسمالية الدولة التي سادت لعقود منذ الاستقلال، إلى رأسمالية المحاسيب الزبائنية التي تسلمت قيادة المرحلة الأكثر تعفناً في عهد بن عليّ.

موز رأسمالية الدولة

في أعقاب الاستقلال، كانت البرجوازية التونسية عاجزةً، لأسباب بنيوية، عن القيام بمهام التراكم الرأسمالي، لذلك توجه النظام الذي كانت قاعدته الاجتماعية الطبقة الوسطى، المكونة من صغار الكسبة وصغار الفلاحين، نحو نمط رأسمالية الدولة، أي أن تقوم الدولة بمهام هذا التراكم من خلال الإشراف المباشر على تشغيل القطاعات الثلاثة: الصناعة والزراعة والخدمات.

هذا التوجه جعل الدولة تتحول إلى غول يملك السلطة والثروة معاً، وفي شبه استقلال عن الطبقات الاجتماعية. وكان هذا النموذج من الحكم هو السائد في العالم العربي، لا سيما في مصر وسوريا والعراق والجزائر. وضمن هذا النموذج، كانت علاقة الدولة بالشعب علاقة مقايضة طبقية: توفر الدولة الوظائف والحاجات الأساسية للفرد مقابل أن يدين لها بالولاء والطاعة.

داخل هيكل المقايضة الطبقية هذا، ظهرت العديد من المؤسسات الاقتصادية التي ستقوم على مدى عقود بتشغيل هذه العملية، على رأسها صندوق التعويض الذي يقوم بدفع فوارق دعم الدولة للمواد الأساسية مثل الحبوب والسكر والزيوت، وكذلك الديوان التونسي للتجارة الذي يحتكر عمليات استيراد المواد الأساسية من الأسواق الخارجية.

واستقر حال التونسيين على هذا النظام البسيط من الإنتاج والتوزيع والولاء. وحتى عندما سلكت الدولة مسلك الانفتاح الاقتصادي النسبي بداية السبعينيات، كانت حذرة في اقترابها من الهيكل القائم على المقايضة الطبقية. فقد كان الرئيس الحبيب بورقيبة يعتقد أن قاعدته وقاعدة نظامه تتشكل أساساً في الطبقات الوسطى، ذات التعليم الجيد، والتي يجب أن يحافظ على مستوى عيشها كي يحافظ على تماسك النظام.

لكن الدولة التي كانت تحتكر السلطة والثروة لم تكن فقط توفر المواد الأساسية، من خلال سيطرتها الحصرية على عمليات الاستيراد، بل حتى المواد غير الأساسية مثل الشاي والقهوة والموز. وقبل شهر رمضان بأيام، كانت تستورد سفينة موز من إحدى دول الموز، الإكوادور في أغلب الأحيان، ترويحاً عن الصائمين، أو تمنح تراخيص حصرية لبعض التجار كي يقوموا بعملية الاستيراد لصالحها.

سعر الموز كان باهظاً، قياساً بمعدل الأجور العام، وثابتاً بأمر من الدولة. أذكر أنه كان في التسعينيات محدداً بدينارين ونصف، عندما كان الدينار يفوق في قيمته التبادلية الدولار الأمريكي.

كان الموز جزءاً من أحلام الطفولة، فكنّا دائماً نتخيل عالماً مليئاً بالشوكولا والحلوى والموز

عشية رمضان، يظهر على شاشة التلفزيون الحكومي رجل بربطة عنق وملامح صارمة، تقدّمه مذيعة الأخبار على أنه مسؤول في وزارة التجارة، يعلن عن كميات بيض الدجاج والبطاطا والموز التي وفرتها الحكومة لشهر رمضان، ولا يفوته أن ينسب هذه الوفرة إلى سيادة رئيس الجمهورية، صانع التحوّل المبارك.

لكن هذه الندرة لم تكن مديدة بالنسبة إلينا، نحن سكان المدن والبلدات الحدودية الواقعة على حواف ليبيا، ذلك البلد الذي يأتيه الموز رغداً طيلة أيام العام. كان والدي يتردد أحياناً إلى "الجماهيرية" ويعود محملاً بصندوق موز، أو أقل قليلاً، بحسب نزوات أعوان الجمارك على الحدود، إذ يُجبَر أحياناً على التخلي عن بعضه كهدية لأعوان الحرس على طول الطريق، كي لا نُحرم منه كله.

كان موز ليبيا أطيب مذاقاً وأصغر حجماً. وكنّا صغاراً نجمع الملصقات الصغيرة التي توضع على قرون الموز وحبات التفاح القادمة من طرابلس الغرب، سيراً على عادة الناس في مدينتنا الصحراوية وشغفهم بكل ما هو برّاق. كان الناس لا يلقون بالكراتين أو العلب أبداً.

ثم جرت مياه القرابة تحت جسور السلطة، فتخلت عن احتكارها لاستيراد الموز لصالح حفنة من محاسيبها من رجال الأعمال، وصار الموز وفيراً.

موز رأسمالية المحاسيب

في التسعينيات، وضع بن عليّ أسس نظامه الجديد. طبّع العلاقات مع العقيد معمّر القذافي، بعد سنوات من القطيعة والأزمات خلال عهد بورقيبة، فاتحاً بذلك أبواب التبادل الحدودي، الرسمي وغير الرسمي، لا سيما لسكان المناطق الحدودية.

أما داخلياً، فقد تخلص من جناح داخل الطبقة البرجوازية التقليدية، لم يكن مكتفياً بالثروة، بل يريد البحث عن مواقع داخل السلطة، فيما قدّم جناحٌ آخر من هذه البرجوازية فروض الولاء والطاعة، وركب موجة النظام الجديد.

كان زواج بن عليّ بليلى الطرابلسي بداية علاقة ستجمع السلطة والثروة داخل نموذج نظام قرابة أقلي سيسيطر على الثروة، محروساً بقوة النظام السياسي. في هذا السياق الجديد، برزت عائلة بن عليّ، إخوته وأبناء إخوته، من جهة، وعائلة زوجته وأصهاره، بوصفهم طليعة هذه الطبقة الطفيلية التي تشكلت على عجل. وكان التكوين الأساسي والقاعدي لهذه الطبقة مجموعة من رجال الأعمال والتجار والأعيان في المناطق الحدودية، يدور نشاطهم الأساسي حول تبادل المنافع من خلال خدمة الأسر القريبة من الرئيس، ضمن نمط شديد الطفيلية يقوم على التهريب والتجارة ونزع الملكية. حتى أن الشركات الـ220 التي تمت مصادرتها من عائلة بن علي وأصهاره بعد الثورة مثلت أقل من 1% من فاتورة الأجور، لكنها احتكرت 21% من أرباح القطاع الخاص، أي أكثر من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما يزيد قليلاً عن 233 مليون دولار عام 2010.

فاكهة الموز تأتينا من وراء البحار وتلخص أكثر من أي منتج آخر قصة تحوّل تونس من هيمنة رأسمالية الدولة التي سادت لعقود منذ الاستقلال، إلى رأسمالية المحاسيب الزبائنية التي تسلمت قيادة المرحلة الأكثر تعفناً في عهد بن عليّ

لم يكن الموز بعيداً عن يد هؤلاء. بدأت نتائج التحالف بين قرابات الرئيس ورجال الأعمال تظهر في الأسواق مع بداية القرن الجديد. قبل ذلك ومنذ نهاية التسعينيات بدأت المناطق الحدودية تشهد حضوراً لافتاً للموز في أسواقها، إذ كان التهريب قد بلغ درجةً من التطور على طرفي الحدود بين تونس وليبيا.

كانت جماهيرية العقيد القذافي تعاني من الحصار الاقتصادي الذي فُرض عليها بسبب تفجير طائرة لوكربي، لكنها مع ذلك كانت تزود الجنوب التونسي بعدد واسع من أنواع المواد الغذائية والمنزلية، وكان الموز من بينها، فيما تستقبل بدلاً منها الأدوية والخمور.

في ذلك الوقت، عرض العقيد القذافي شراء جميع الموز المزروع في منطقة البحر الكاريبي. كان مستعداً لدفع أسعار أعلى للفاكهة مقارنة بالدول الأوروبية من أجل تحرير منطقة البحر الكاريبي من "القبضة الخانقة" لمنظمة التجارة العالمية، كما كان يقول، واعداً بمِنَح وقروض تصل إلى أكثر من 21 مليون دولار وهو مبلغ كبير لاقتصادات الجزر الصغيرة.

لكن نظام القرابة المسيطر في تونس كان قد زحف على أجهزة الدولة، بتقديم المزايا أو بالإكراه، وأوجد له عناصر قوية داخل الجهاز الأمني وخاصة داخل الجمارك التي ستكون الورقة الرابحة في يده لسنوات، من خلال تسهيل عبور الواردات من الموانئ والمعابر دون رقابة أو رسوم.

يروي ابن أخ زوجة الرئيس ليلى الطرابلسي، عماد الطرابلسي، والذي كان أحد رموز نظام القرابة والمحسوبية في عهد بن عليّ، في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة في العام 2017، قصة سيطرته على تجارة الموز في البلاد، من خلال سيطرته على جهاز الجمارك قائلاً: "في العام 2004، تواصل معي أحد رجال الأعمال، وكان يعمل سابقاً مع عمي، بسبب غرامة فرضتها عليه الجمارك بعشرين مليون دينار (15 مليون دولار بحسب سعر صرف عام 2004). فاتصلتُ بعمتي (زوجة الرئيس)، فتم إلغاء الغرامة وإقالة مدير الجمارك. ثم شرعت في العمل معه، وبدأنا في تجارة الموز، فقد كان قبل عام 2004 يخضع في استيراده إلى تراخيص تمنحها الدولة للتجار قبل شهر رمضان، ولكن بداية من العام 2004 تم تحريره من هذه القيود، بحكم الاتفاقية التجارية بين تونس والاتحاد الأوروبي، فقمنا بتأجير مخازن كثيرة ومن خلال قوة التخزين هذه، نجحنا في السيطرة عملياً على تجارة الموز".

في حين يعجز التونسيون اليوم عن تحصيل بعض المواد الأساسية مثل السكر والزيوت والحليب، تصرّ السلطة على تحديد سقف أسعار الموز، لأنها تدرك رمزية هذه الفاكهة التي تحولت مع الزمن إلى معيار طبقي يحدد رفاه الفرد

ويتابع: "كنّا نتحكم في السوق، ومسالك التوزيع. وكنا نقوم، من خلال نفوذنا داخل الموانئ، بتعطيل عمليات تفريغ الموز الذي يستورده منافسونا، فقد كانت الجمارك تعمل لصالحنا. كما كنا نستغل فرصاً عديدة لتهريب الآلاف من صناديق الموز من داخل الميناء دون أن ندفع الضرائب، لذلك كانت أسعار الموز زهيدةً".

ومن بين رموز تلك المرحلة رجل الأعمال المسجون حالياً شفيق جراية، والذي كان يُعرف في أوساط التجار التونسيين بـ"شفيق بنانة"، لأنه دخل عالم البزنس من باب تجارة استيراد الموز، بالتحالف مع عائلة أصهار الرئيس بن عليّ، مطلع القرن الحالي.

الموز بعد الثورة

بعد ثورة 2011، لم تطرأ تغييرات جذرية على تجارة الموز في البلاد. ساهم تحرير التجارة من احتكار الدولة ومن احتكار نظام القرابة في دخول فاعلين جُدد، لكن أسعار الموز لم تعد زهيدةً على النحو الذي كانت عليه عند العشرية الأولى من القرن الحالي، فقد ساهم تدهور قيمة الدينار التونسي في ارتفاع تكاليف الاستيراد، وبالتالي أسعار البيع.

في المقابل، واصلت الحدود مع ليبيا مهمتها في تأمين تدفق الموز القادم من الأسواق الليبية نحو المدن الحدودية، شأنه شأن بقية المواد الغذائية. ولم يعكّر صفو ذلك المدّ سوى الاضطرابات التي كانت تشهدها ليبيا، ولا سيما الغرب الليبي، خلال صراعات الميليشيات المسلحة أو فترات إغلاق المعابر أو تشديد المراقبة على الحدود الصحراوية.

لكن سعر الموز واصل الصعود إلى معدلات غير مسبوقة، وعاد مرة أخرى إلى قائمة فاكهة الأغنياء والميسورين، فلم تعد الطبقات الفقيرة ولا المتوسطة قادرة على دفع ثمنه، فقد بلغ سعر الكيلوغرام أخيراً حوالي 10 دنانير (حوالي 3.21 دولاراً)، وهو مبلغ كبير قياساً بمعدلات الأجور ودخل الطبقة الوسطى، الأمر الذي دفع السلطات إلى تحديد سقف لأسعاره، مع أنه مادة غير أساسية.

هكذا، وفي حين يعجز التونسيون اليوم عن تحصيل بعض المواد الأساسية مثل السكر والزيوت والحليب بسبب نقص الإنتاج المحلي وعجز الدولة عن الاستيراد، بسبب ضعف رصيدها من العملة الصعبة، تصرّ السلطة على تحديد سقف أسعار الموز، لأنها تدرك رمزية هذه الفاكهة التي تحولت مع الزمن إلى معيار طبقي يحدد رفاه الفرد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard