أتذّكر صباحاتي المستعجلة في البيت. كنتُ أول المستيقظين، من أخواتي طبعاً، لأن أبي لا يعرف النوم إلاّ في جلبة النهار. إلى غرفة نوم أهلي أتوّجه بأقدام تطفو ولا تمشي. نوم والدتي خفيف يستأثر بأقل حركة مباغتة. تعوّدت المشي الى غرفتها بصمت محدق ،أنا التي حتى مفاصلي وأوتاري تتحدّث بصوت مرتفع أبداً.
أقف عند باب الغرفة ولا أدخل، أسترق النظر الى أي من علامات بقائها على قيد الحياة: وجنة زهريّة، حركة قفصها الصدري مرتفعاً وغائصاً في غيمة سريرها الابيض، نفسٌ مشحون، سعلة جافة، عراك رموشها بين اليقظة والاسترسال في النوم، شخير هديره متقطع. بعد الاطمئنان، أحضّر فطوري وشنطتي المدرسيّة، أجدل شعري ثلاث مرات، ثم ألفّه مشدوداً معصوراً على نفسه، وبعيون يدي اليمنى أخطّه كحرف "واو" كبير، وربطة الشعر في يدي اليسرى تستقبل دائرة الواو بعناق قاس.
أنظر الى نفسي في مرآة رواق البيت وأتوجه الى الباب الرئيسي لأفتحه. يصدر الباب عويلاً قصيراً، بسببه أسمح لنفسي بتفوّه أوّل كلمتين: "باي ماما". صوت أمي يصلني خافتاً من قعر نومها العميق: "باي حبيبي"، وتلك هي إشارتي أن العالم ما زال بخير.
أنا الآن أم. أذّكر نفسي كل صباح، بعد توطيد إيماني بنفسي وبعالمي، أنّي هامّة لأولادي، لأني أنسى وأتناسى.
حين أعارتني جسدها لتسعة أشهر، فتكتُ به يميناً ويساراً، لم أترك بقعة جلد إلاّ واستبحتها للشمس ولأنظار الغرباء. ملكتُها وأسرْتُها وسلّطتُ نفسي عليها ربّاً
أطمئن على والدتي كل صباح بتلفون صوت وصورة. نتبادل الاطمئنان كسّر ثمين. لا تعطيني التفاصيل إلا حين أستجوبها. لا أرقام محددة ولا أسماء في حديثها، كله بالعنوانين العريضة. كأنها باخفاء المعلومات، ترسم الصورة كما تحبّذها هي لا كيف يراها العالم بأسره. لا جوع ينقضّ عليها، لا وجع يعيدها طفلة تئنّ وتحنّ لأمها، لا أنس ينكّس عليها كرامتها ولا غضب يعرّيها.
لا تزال هي. قوية بإنسانيتها، متفردة ولكن لا نجاة لها إلاّ ضمن المجموعة، راضية مرضية، يُعكّر صفوها لدقائق قبل أن تأتي لنفسها بالسكينة من جديد. هكذا أعرفها وهكذا أرسمها في مقلة عيني. بسببها يعيد العالم ترتيب نفسه من أجلي حين أطمئن عليها. لا تختفي الحروب ولا يخّف الألم ولا يجد اللاجئون فجأة فرجهم المنتظر، إنما تنبلج سحابة من ضوء دافئ فوق العالم كما أراه، كما أعيشه.
يردّني الخوف بنتاً صغيرة تقضم خطواتها نحو الباب، تنتظر صوت أمها على فوهة العالم.
حين أعارتني جسدها لتسعة أشهر، فتكتُ به يميناً ويساراً، لم أترك بقعة جلد إلاّ واستبحتها للشمس ولأنظار الغرباء من أطباء وممرضات، وللنتوء والانكمشات ما بعدها انفراجات. بنيتُ نظري من نظرها وقصمت من ظهرها لي سنداً، ارتشفتُ من نشاطها الحركة لدوامي. ملكتُها وأسرْتُها وسلّطتُ نفسي عليها ربّاً. غيّرت خرائط جسدها، فضاعت في نفسها لا تستكين إلاّ في تلاحم أذرعنا، واليوم ألبس ظلّها.
صوتها يتخمّر في أحجيات العالم، وحين أكتشف نفسي أو عن نفسي أراها أمامي شاخصة. تتوّقع لي العواصف وهي تتخمّر في سمائي، تعرفني حتى جذور النخاع. تؤنبني حين أتلكأ عن حبّ نفسي كفاية. تعاندني لما أغدق عليها بالهدايا. في أحاديثنا أُخفي عنها قلقي، لا أصارحها بخوفي عليها، هذا الخوف الذي رافقني منذ طفولتي، منذ وقوفي خلف بابها أتحيّن الموت لأواجهه عنها.
يردّني الخوف بنتاً صغيرة تقضم خطواتها نحو الباب، تنتظر صوت أمها على فوهة العالم. مقبض الباب بيدي وبيدي الأخرى عالمي يصارع البقاء، يتوقف على كلمة منها ليبقى بخير، لأبقى بخير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون