يُعدّ الحسين بن منصور الحلاج واحداً من الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. لا تذكر المصادر التاريخية الكثير عن أصول الحلاج وأخبار الفترة المبكرة من حياته، ولكن نعرف من المعلومات القليلة التي وصلتنا أن جد الحلاج كان مجوسياً فارسياً. وأنه -أي الحلاج- ولد في مدينة واسط بالعراق، وانتقل إلى البصرة في شبابه، ثم سافر إلى بغداد بعدها ليشتهر بين العامة والخاصة. تختلف الأقوال في تفسير تسمية الحسين بن منصور بالحلاج. تذكر بعض الآراء أنه عُرف بذلك الاسم نسبةً إلى أبيه الذي كان حلاجاً للقطن. وتذكر آراء أخرى أنه سُمي بهذا الاسم لأنه كان يعرف ببعض الحوادث قبل أن تقع، ولذلك اشتهر باسم "حلاج الأسرار".
من الأمور المهمة المتعلقة بشخصية الحلاج أن سيرته قد رويت بطرق مختلفة في السرديات المذهبية السنية والشيعية والصوفية. وهو الأمر الذي يعكس ثراء تلك الشخصية وتأثيرها العميق في حركة تطوير الفكر الإسلامي
عاش الحلاج حياة قلقة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. ويذكر المؤرخون أنه قد أُعدم في زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 309هـ، الموافق للسادس والعشرين من آذار/مارس سنة 922م. يتحدث ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" عن التجربة القاسية التي مر بها الحلاج قُبيل وفاته، فيقول: "صُلب هو وصاحبه ثلاثة أيام كل يوم من ذلك من أوله إلى انتصافه، ثم ينزل بهما فيؤمر بهما إلى الحبس... وأخرج من الحبس فقطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه ثم أُحرق بالنار".
من الأمور المهمة المتعلقة بشخصية الحلاج أن سيرته قد رويت بطرق مختلفة في السرديات المذهبية السنية والشيعية والصوفية. وهو الأمر الذي يعكس ثراء تلك الشخصية وتأثيرها العميق في حركة تطوير الفكر الإسلامي.
وجهة نظر أهل السنة والجماعة: ساحر، حلولي، حلال الدم!
اهتم مؤرخو أهل السنة والجماعة بالحديث عن الحلاج في الكثير من مصنفاتهم. عمل هؤلاء المؤرخون على توضيح الأسباب التي دعتهم للقول بتكفيره وتفسيقه واتهامه بالابتداع والشرك. على سبيل المثال أورد الخطيب البغدادي في كتابه "تاريخ بغداد" بعض الروايات التي تذكر أن الحلاج قد سافر إلى الهند لتعلم أساليب السحر والخداع، وأنه لمّا رجع للعراق تمكن من استمالة الناس إليه بالأكاذيب والخرافات. ومن ذلك أنه كان يتفق مع بعض أتباعه فيدعون العمى والمرض، ثم يقوم بشفائهم أمام العامة، فيعتقد الناس حينها أنه ولي مبارك صاحب كرامات. في المعنى نفسه ذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" أن الحلاج كان يمارس بعض الحيل التي أنطلت على العامة والبسطاء، ومنها أنه كان "يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم... ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوا في بيوتهم ويتكلم بما في ضمائرهم"!
اهتم أهل السنة والجماعة كذلك بنقد الأشعار الغامضة التي أنشدها الحلاج وذاعت بين الناس، ومنها:
عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي/يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
أَدَنَيتَني مِنكَ حَتّى/ظَنَنتُ أَنَّكَ أَني
وَغِبتُ في الوَجدِ حَتّى/أَفنَيتَني بِكَ عَنّي
يا نِعمَتي في حَياتي/وَراحَتي بَعدَ دَفني
وأيضاً:
ألا أبـلـغ أحـبائـي بأنـي/ركـبت البـحر وانـكسر السـفـيـنـة
على دين الصليب يكون موتي/فلا البطحاء أريد ولا المدينة
اتُّهم الحلاج من قِبل الكثير من علماء أهل السنة بأنه كان يدعو إلى الحلول والاتحاد، بمعنى أن الله يحل في الإنسان، أو أن الله يتحد بالإنسان في وحدة واحدة. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى شارحاً هذه التهمة: "وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الْآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ". وفي السياق نفسه قال شمس الدين الذهبي في كتابه سيّر أعلام النبلاء "كان الحلاج قد ادعى أنه إله، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت".
بشكل عام، وجه فقهاء أهل السنة والجماعة مجموعة من الاتهامات إلى الحلاج. كانت أبرز تلك الاتهامات هي ادعاء الألوهية، وادعاء النبوة، وممارسة السحر والكهانة، والقول بالحلول والاتحاد. ومن ثم وقف أغلب هؤلاء الفقهاء مع الحكم بتعذيب الحلاج وإعدامه، ولم يشذ عنهم إلا القليلون، ومن أشهرهم الفقيه الحنبلي أبي الوفاء بن عقيل (المتوفى 513هـ).
وجهة نظر الشيعة: كذاب ادعى البابية
تتفق وجهة النظر الشيعية مع وجهة النظر السنية في رمي الحسين بن منصور الحلاج بتهم الكذب والسحر والبدعة والمروق عن الدين. رغم ذلك تضيف وجهة النظر الشيعية بعداً جديداً لشخصية الحلاج عندما تذكر أنه كان واحداً من الأدعياء الكذبةَ للبابية.
يؤمن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري -وهو نفسه المهدي المنتظر- قد غاب عن الأنظار في سنة 260هـ. بحسب التقاليد الشيعية فإن الإمام تواصل مع أتباعه عن طريق أربعة من السفراء المتعاقبين. مات أخر هؤلاء السفراء في سنة 329هـ. ودخل الإمام عندها في فترة الغيبة الكبرى التي لا تزال مستمرة حتى اللحظة.
تذكر المصادر الشيعية أن الكثير من الأشخاص ادعوا أنهم سفراء/أبواب للإمام الغائب في الفترة من 260- 329هـ. كان الحسين بن منصور الحلاج واحداً من هؤلاء الأدعياء بحسب المصادر الشيعية. يقول باقر شريف القرشي مقرراً ذلك الاعتقاد في كتابه "حياة الإمام المهدي" أن الحلاج كان "كذاب مضل، منحرف عن الحق، ادعى النيابة عن الإمام المنتظر عليه السلام وأخذ يراسل أعيان الشيعة بذلك".
يذكر محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة" أن الحلاج حاول أن يجتذب إليه كبار رجال الشيعة في زمنه، وأنه قد راسل أحدهم وهو أبو سهل النوبختي، وطلب منه أنه يؤمن بكونه -أي الحلاج- باباً للإمام. رفض النوبختي التصديق بكلام الحلاج وقتها، وعمل على إثبات كذبه، وطلب منه أن يعيد إليه سواد شعره ليتأكد من صدق دعواه. فلمّا سمع الحلاج هذا الرأي انصرف عن النوبختي بعدما تأكد من فشله في اجتذابه إلى دعوته.
في السياق نفسه، يذكر محمد بن الحسن الطوسي في كتابه "الغيبة" أن دعوة الحلاج باءت بالفشل في إيران. يذكر الطوسي أن الحلاج سافر إلى مدينة قُم وحاول أن يدعو لنفسه بين أهلها باعتباره نائباً للمهدي المنتظر. ولكن علي بن بابويه القمي -المعروف بالصدوق الأول- تصدى له وأهانه وطرده من المدينة.
ويذكر الطبرسي في كتابه "الاحتجاج" أن الحلاج كان من ضمن الرجال الذين خرج التوقيع الشريف -الرسائل التي كان المهدي يبعثها مع سفرائه إلى شيعته- بلعنهم والبراءة منهم على يد السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي.
من هنا، رفض الشيعة أفكار الحلاج وعدّوها نوعاً من أنواع الضلال والكفر والزندقة. يقول محمد بن علي بن بابويه القمي -المعروف بالشيخ الصدوق- في كتابه الاعتقادات في دين الإمامية إن: أتباع الحلاج المعروفون باسم الحلاجية "يتركون الصلاة وجميع الفرائض".
كما ذكر الشيخ المفيد في كتابه "تصحيح اعتقادات الإمامية" أن "الحلاجية ضرب من أصحاب التصوف، وهم أصحاب الإباحة والقول بالحلول... قوم ملحدة وزنادقة يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم، ويدعون للحلاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزرادشت المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم، وهم أبعد من الشرائع والعمل بها من النصارى والمجوس".
وجهة النظر الصوفية: ولي صالح وإمام من أئمة الإسلام
على النقيض من الطابع السلبي الذي اتصفت به شخصية الحلاج في الرأيين السني والشيعي، قُدم الحسين بن منصور الحلاج في الذاكرة الصوفية باعتباره واحداً من أعظم الزهّاد الذين عرفتهم الحضارة الإسلامية على مر القرون. استند ذلك الرأي إلى مجموعة من الحقائق التاريخية، ومنها أن الحلاج تتلمذ -في الفترة المبكرة من حياته- على يد مجموعة من كبار الصوفية في العراق، ومنهم كلّ من الجُنيد بن محمد، وأبي الحسين النوري، وعمرو بن عثمان المكي. يذكر الخطيب البغدادي عن أحمد بن الحسين بن منصور الحلاج أن أباه لم يكتف بممارسة التصوف والزهد في العراق فحسب، بل إنه عمل كذلك على نشر الإسلام في بلاد خراسان وآسيا الوسطى.
ينقل أحمد على لسان أبيه قوله: "إني قد وقع لِي أن أدخل إِلَى بلاد الشرك وأدعو الخلق إلى الله عز وجل". بحسب تلك الرواية فقد نجح الحلاج في مسعاه نجاحاً عظيماً. وسرعان ما انتشر أتباعه الذين أسلموا على يديه في كلّ من خراسان، وبلاد ما وراء النهر، وتركستان، والهند.
وجه فقهاء أهل السنة والجماعة مجموعة من الاتهامات إلى الحلاج. كانت أبرز تلك الاتهامات هي ادعاء الألوهية، وادعاء النبوة، وممارسة السحر والكهانة، والقول بالحلول والاتحاد. ومن ثم وقف أغلب هؤلاء الفقهاء مع الحكم بتعذيب الحلاج وإعدامه
من هنا سنجد أن كبار الصوفية قد وقفوا في صف الحلاج، وبرؤوه من تهم الشرك والكفر والبدعة التي نسبها إليه فقهاء السنة والشيعة. على سبيل المثال دافع أبو حامد الغزالي في كتابه "مشكاة الأنوار" عن الحلاج، وعمل على تفسير العبارات الغامضة الواردة في أشعاره، فقال: "العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذلك حالاً ذوقياً. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضاً. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم 'أنا الحق' وقال الآخر 'سبحاني ما أعظم شأني!'، وقال آخر 'ما في الجبة إلا الله'. وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه 'أنا من أهوى ومن أهوى أنا'".
في السياق نفسه يروي ابن عطاء الله السكندري في كتابه "لطائف المنن" عن أستاذه أبي العباس المرسي أنه دافع عن الحلاج. وقال: "لم يثبت عنه -أي الحلاج- ما يوجب القتل، وما نُقل عنه يصحّ تأويله نحو قوله: 'على دين الصّليب يكون موتي'، ومراده أنه يموت على دين نفسه فإنه هو الصّليب، وكأنه قال: أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنه يموت مصلوباً".
بشكل عام، عرض محمد حجازي الجيزي في كتابه "مفاتيح الغيوب وتعمير القلوب" الرأي الذي اتفقت عليه الأغلبية الغالبة من الصوفية في أمر الحلاج، فقال: "اعلم أن الحلَّاج عند محققي العلماء، مجمعٌ على ولايته، ومعرفته بربه عزَّ وجلَّ، ما يُنسب إليه من غير هذا كذبٌ وبهتانٌ عليه، فيجب اعتقاد ولايته وصدقه، وأنه ركنٌ من أركان طريق الحق سبحانه، وإمامٌ من أئمة المسلمين، ولكنه كان له أعداء أغراهم إبليس به، فآذوه وافتروا عليه، ولا تلتفت إلى هذه المخالفات المزورة عليه، وقد وصفه بالولاية، والجمع بين العلم والعمل غير واحدٍ من أكابر الأئمة".
من جهة أخرى، أكد الكثير من المستشرقين على أهمية أفكار الحلاج في إثراء النزعة الروحية في الإسلام. ينقل طه عبد الباقي سرور في كتابه "الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي" أقوال بعض من هؤلاء المستشرقين. فيذكر قول المستشرق المجري إغناس غولدتسيهر: "لقد أثَّرت صيحة الحلَّاج الصوفية -معرفة الله- تأثيراً عميق الأثر، في الحياة العلمية الإسلامية". كما ينقل قول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: "كان الحلَّاج يحرك الجماهير، وينادي بالإصلاح، ويبشر بفكرة الحكومة المثالية التي تقيم الشريعة على نغمات المحبة والعبادة الخالصة لله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت