لم يعد السفير الأذربيجاني لدى طهران إلى مهامه منذ تعرض السفارة إلى هجوم مسلح برشاش كلاشنكوف أدى إلى مقتل مسؤول أمن السفارة وإصابة اثنين من الحراس في 27 كانون الثاني/يناير الماضي، كما حذرت وزارة الخارجية مواطنيها من السفر إلى إيران. وقد كشف الهجوم على السفارة عن نار تحت الرماد في علاقة جوار معقدة في منطقة جنوب القوقاز، المنطقة التي تحكمها معادلات وتوازنات معقدة إقليمية ودولية، وكونها نقطة تماس بين روسيا وتركيا وإيران.
النظرة المتبادلة بين باكو وطهران هي أكثر خصومة وعدائية بعد حرب "ناغورنو كاراباخ"، بين أذربيجان وأرمنستان سنة 2020، إذ انتصرت باكو من خلالها لاستعادت أراضيها التي كانت تحت احتلال الأرمن، بدعم إسرائيلي وتركي وصمت روسي.
وتزامن تصعيد لهجة الانتقادات من قبل قادة أذربيجان بعد حرب 2020، ضد إيران وإغلاق مكتب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في باكو، تصعيد طهران كلامياً ومناورات عسكرية جراء تقارب الأولى مع إسرائيل وتركيا.
جذور العلاقة
ينتمي معظم سكان إيران وأذربيجان للطائفة الشيعية، وتستند علاقاتهم إلى صلات وتعاون وتاريخ ولغة مشتركة منذ قرون عديدة، وقد انفصلت باکو وحتى أرمينيا وجورجيا من الحكم الإيراني وانضمت إلى روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر بعد التوقيع على معاهدتي "كُلستان" و"تُركمانتشاي" بعيد خسارة طهران في الحرب مع موسكو. وبذلك فقد الإيرانيون سيطرتهم على منطقة القوقاز بشكل تام.
تخشى أذربيجان التأثير الديني الإيراني في مجتمعها العلماني، فهناك جمعيات شيعية موالية لإيران داخل أذربيجان، عملت باكو على شن حملة قمعية ضد بعضهم وتضييق الخناق على نشاطاتهم الدينية بحجة الانتماء لإيران
تشكل القومية الآذرية نحو ثلث سكان إيران البالغ عددهم 85 مليون نسمة، وهناك قلق تجاه النزعات الانفصالية للمناطق الأذرية الإيرانية، وتتهم باكو بأن طهران لم تسمح بحق التعلم بلغة الأم للأقليات التي تعيش في أراضيها، وهو ما تنفيه الأخيرة وتعتبره عملاً استفزازياً وتدخلاً في شؤونها الداخلية.
كما تخشى أذربيجان التأثير الديني الإيراني في مجتمعها العلماني، فهناك جمعيات شيعية موالية لإيران داخل أذربيجان، عملت باكو على شن حملة قمعية ضد بعضهم وتضييق الخناق على نشاطاتهم الدينية بحجة الانتماء لإيران، بعد تشديد الخلافات بين الجانبين.
تنتقد باكو، دعم طهران لأرمينيا المحتلة في حرب 2020 على منطقة كاراباخ، التي استطاعت أن تستعيد نحو 130 كلم من أراضيها الحدودية مع إيران، التي كانت تحتلها أرمينيا منذ 1990، وهكذا استولت باكو على جزء من الطريق السريع الرئيسي الذي يربط إيران بأرمينيا والطريق التجاري المهم للبحر الأسود وروسيا.
وأوقفت القوات الأذربيجانية الشاحنات الإيرانية المتجهة عبر أراضيها المستعادة إلى أرمينيا واعتقلت سائقين إيرانيين قبل سنتين، وفرضت ضرائب على دخول تلك الشاحنات، بسبب مرورها بطريقة غير قانونية وفق سلطات باكو، لترد طهران بإجراء مناورات عسكرية هي الأكبر منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
تغييرات جيوسياسية في القوقاز
يمكن القول إن إيران قبل أرمينيا خاسرة من انتصار أذربيجان في الحرب، فتعدّ طهران نتائج اتفاق السلام بين طرفي النزاع، الذي رعته موسكو وأنقرة، مؤشراً على ما تصفه بأنه مخطط، لإحداث تغييرات جيوسياسية بجوارها القريب القوقاز، عبر إزالة حدودها مع أرمينيا، وذلك من خلال السيطرة على الشريط الحدودي الممتد من جمهورية نخجوان الأذربيجانية الذاتية الحكم إلى بقية أراضي أذربيجان الذي يشكل الحدود الإيرانية الأرمينية، حيث يعد إقليم نخجوان الأذربيجاني أكبر منطقة جغرافية في العالم، تابعة لدولة لا ترتبط بها بممر بري، وتحيط بها أراضي دول أخرى من كل جانب.
أقرب قاعدة استخباراتية إسرائيلية
التخوف الأول والرئيسي هو التغلغل الإسرائيلي في منطقة القوقاز، فتشعر إيران أن عدوها الأول قد وصل إلى حدودها، وهذا ما لا يطاق بالنسبة لها.
تؤمّن باكو معظم احتياجات تل أبيب النفطية، وتمد الأخيرة الأولى بتكنولوجيا الطائرات المسيرة وأسلحة أخرى منذ سنوات، خاصة في الحرب مع أرمينيا. ووفقاً لتقارير مؤسسات دولية، تتربع إسرائيل منذ 2011 حتى 2022، على المرتبة الثانية بعد روسيا في تأمين المعدات العسكرية الأذربيجانية.
وسبق أن كشفت مصادر إسرائيلية وعالمية عن صفقات سنوية بمعدل مليار دولار كل عام لتزويد أذربيجان بطائرات مسيرة وبأنظمة الأقمار الصناعية الإسرائيلية.
افتتحت تل أبيب سفارتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي في باكو، بينما لم تفتح الأخيرة سفارة لها في إسرائيل، نتيجة للقلق الإيراني تجاه ذلك، إذ طالما أكدت طهران بأن علاقات جارتها مع إسرائيل هو تهديد لأمنها القومي.
بينما تؤكد التقارير الإيرانية بأن جارتها استضافت مرات عدة قادة إسرائيل بشكل سري خلال العقود المنصرمة، كما أكد في العام الماضي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أنذاك، سعيد خطيب زاده، أنّ بلاده تتلقى، منذ المواجهة العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا، تقارير عن حضور الإرهابيين والقوات الإسرائيلية داخل أراضي جمهورية أذربيجان بالقرب من الحدود الإيرانية، مؤكداً أن طهران أبلغت باكو بهذا الأمر، في حين نفت باكو على لسان أكثر من مسؤول بينهم رئيس البلاد إلهام علييف وجود قوات طرف ثالث قرب هذه الحدود.
وتتهم طهران تل أبيب بأنها تستغل علاقاتها مع أذربيجان للتجسس على أراضيها من خلال معدات متعددة منذ سنوات، منها المسيّرات. حيث تشير إيران بأن إدارة الحدود في الدولة الأذربيجانية هي المتلقي الرئيسي للمعدات الاستخباراتية المتقدمة والطائرات الإسرائيلية الهجومية بدون طيار.
علاقات وطيدة وحذر إيراني
وبالنظر إلى التصريحات العدائية الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين تجاه برنامج إيران النووي، والغموض الذي يُحيط بإحياء اتفاق فيينا بين إيران والقوى الكبرى، فإن طهران تنظر إلى أذربيجان اليوم بوصفها موقعاً محتملاً لشن ضربات عسكرية إسرائيلية مؤقتة ضد منشآتها النووية ومصانع صواريخها.
وبعد الأزمة التي طفحت بين إيران وأذربيجان، فقد صوت البرلمان الأذري في نهاية عام 2022، على قانون يتيح للحكومة افتتاح سفارة في الأراضي المحتلة لأول مرة منذ قيام دولة أذربيجان، وقد حصل ذلك بالفعل في الأشهر الماضية، كي تفتح صفحة دبلوماسية علنية جديدة مع إسرائيل، متناسية القلق الإيراني تجاه ذلك.
تجد باكو ضرورة في تعزيز تعاونها مع إسرائيل ومع تركيا ومع الولايات المتحدة الأميركية، حيث إنها منفردة غير قادرة على مواجهة أي أنشطة إيرانية قد تستهدفها، حسب ما يشار له من قبل خبراء آذريين ودوليين.
وسط دعم وتضامن آذريين إيرانيين لقرارات دولة أذربيجان مهما كانت تجاه أرمينيا وحتى إيران، يطالب الكثير من الإيرانيين، خاصة من أصول القومية الفارسية، باستعادة أراضي دولة أذربيجان إلى الوطن الأم
واستفادت باكو بشدة من المنظَّمات الداعمة لإسرائيل في دعم جهود ضغطها داخل أروقة السياسية في واشنطن، وهو دور موجه بدرجة كبيرة لتحييد جماعات الضغط الأرمينية المنافسة وانتقادات حقوق الإنسان اللاذعة الموجهة لباكو في الولايات المتحدة. وفي المقابل، ينتظر من أذربيجان أن تمنح المجال لتل أبيب كي تمارس نشاطاتها الاستخباراتية ضد إيران.
يستبعد أي صراع عسكري بين باكو وطهران، ولكن إن حدث ذلك فسرعان ما تتدخل تركيا وهي عضو الناتو لدعم حليفتها العسكرية أذربيجان، كما ستشهد طهران مخالفة من الداخل جراء وجود ملايين من القومية الأذرية في عموم إيران، خاصة في محافظتي أذربيجان الشرقية والغربية، الواقعتين في الشمال الغربي على الحدود مع أذربيجان وأرمينيا.
مطالبة بعودة أراضي أذربيجان إلى إيران
ووسط دعم وتضامن آذريين إيرانيين لقرارات دولة أذربيجان مهما كانت تجاه أرمينيا وحتى إيران، يطالب الكثير من الإيرانيين، خاصة من أصول القومية الفارسية، باستعادة أراضي دولة أذربيجان إلى الوطن الأم، واتخاذ موقف حازم تجاه الرئيس الآذري إلهام علييف.
ويزداد اتجاه الرأي العام في كلا البلدين نحو النظر إلى البلد الآخر نظرة عدائية وتنافسية، وعلى ما يبدو أن إيران وأذربيجان ماضيان بهذا المسار الاصطدامي في المستقبل المنظور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...