"رمضان الخير والبركة"؛ هكذا عُرف شهر رمضان الذي تكثر فيه المنح والعطايا للجميع، ويوسع خلاله الكثير من الأغنياء والملوك على الفقراء والمحتاجين في جميع دول العالم، خاصة ذات الصبغة الإسلامية منها، وأصبحت المؤسسات بأشكالها تمنح مكافآت إضافية للعاملين بمناسبة هذا الشهر، سواءً في أوله أم آخره.
وعرفت مصر التوسيع في المنح والعطايا خلال شهر رمضان منذ أزمنة بعيدة، لكن كان لعصر سلاطين المماليك (648-923 هـ/ 1250-1517م)، النصيب الأكبر من ذلك.
طبخ الأرز باللبن وتوزيعه
اهتم سلاطين المماليك بالتوسيع في البر والإحسان طوال شهر رمضان، وكانت هناك عادات في بداية الشهر عندهم، ففي صباح أول أيامه كان يصعد المحتسب (شخص يعينه السلطان لمراقبة الأسواق والدكاكين والتفتيش على المكاييل والموازين) والقضاة الأربعة، إلى القلعة، لتهنئة الوالي المملوكي، فيخلع عليهم "قفاطين" (جمع قفطان، نوع من الملابس)، كما جرت العادة.
وفي الأيام الأولى من الشهر، اعتاد السلطان أن يجلس في ميدان القلعة، ويتقدم إليه الخليفة والقضاة الأربعة بالتهنئة، ثم يستعرض كميات الدقيق والخبز والسكر والغنم والبقر المخصصة لصدقات رمضان، يعرضها عليه المحتسب، فينعم على الأخير وكذلك كبار رجال الدولة، بحسب محمد كامل في مؤلفه المعنون بـ"خريف المحروسة".
بالرغم من السمة الغالبة على العصر المملوكي من التوسيع على الفقراء في شهر رمضان، إلا أن بعض السلاطين عُرفوا بكثرة عطاياهم وبذلهم المعروف خلال هذا الشهر، وعلى رأسهم المنصور سيف الدين قلاوون
بركة شهر رمضان كانت تعم في جميع الأرجاء، فداخل بيوت الأعيان في الدولة المملوكية، كانت مآدب الطعام تمد للناس، ولا يمنع من يريد الدخول، وكانت لهم عادات وصدقات في ليالي رمضان يطبخون فيها الأرز باللبن، ويملؤون منه قصاعاً (مثل الإناء) كثيرة، ويوزعون منها على المحتاجين.
ولا يتوقف الأمر عند إطعام عدد كبير من الفقراء في كل بيت، وإنما يمنحونهم بعد ذلك دراهم أيضاً، بجانب الكعك المحشو بالسكر والعجمية وسائر الحلوى، ويشير حسن عبد الوهاب في مؤلفه المعنون بـ"رمضان"، إلى أن "أحمال السكر والمكسرات ولحم الضأن كانت تُعدّ لتوزيعها على الفقراء في هذا الشهر، تحت إشراف المحتسب وناظر الدولة".
السلطان قلاوون... أول من زاد في أعطية شهر رمضان
وبالرغم من السمة الغالبة على العصر المملوكي من التوسيع على الفقراء في شهر رمضان، إلا أن بعض السلاطين عُرفوا بكثرة عطاياهم وبذلهم المعروف خلال هذا الشهر، وعلى رأسهم المنصور سيف الدين قلاوون.
يروي الدكتور محمد المنسي قنديل، في كتابه "لحظة تاريخ" أن السلطان قلاوون يعد أول من زاد في أعطية شهر رمضان، فقد أعطى أوامره بأن تفرق على الفقهاء والعلماء "توسعة"، أي مبلغاً إضافياً من المال لعيالهم، واستمر الأمر على ذلك طوال فترة حكمه (1279-1290).
وإلى جانب ذلك، شهد عصر السلطان قلاوون توزيع كميات كبيرة من السكر خلال شهر رمضان، نظراً إلى شغف المصريين بصناعة الحلوى، ويؤكد ذلك محمد فتحي عبد العال في مؤلفه "تأملات بين الدين والعلم والحضارة"، بقوله: "بلغت كمية السكر المنصرفة لصنع الحلوى (مثل القطايف والكنافة)، في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، عام 745 هـ، ثلاثة آلاف قنطار، قيمتها ثلاثون ألف دينار، منها ستون قنطاراً في كل يوم من أيام رمضان".
وفي هذا السياق، روى المقريزي في كتابه الأشهر "السلوك لمعرفة دولة الملوك" أن "السكر الجاري في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون كان ألف قنطار، فبلغ في هذا الشهر (رمضان) ثلاثة آلاف قنطار ونيف، ولم يوجد في بيت المال شيء لكثرة الزيادات في الرواتب".
ذبح 25 بقرة يومياً وتوزيع لحومها
وبعد مرور فترة غير قصيرة، كان المصريون على موعد مع سلطان آخر وضع شهر رمضان على رأس أولوياته، هو الظاهر سيف الدين برقوق (1382-1389)، الذي اعتاد طوال إمارته وسلطنته، وتحديداً خلال الشهر المبارك، أن يذبح في كل ليلة خمسة وعشرين بقرة، يتصدق بلحومها بعدما تطبخ، ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي، على أهل الجوامع والمشاهد والخوانك والربط وأهل السجون، وفقاً لـلمقريزي.
ويوضح ابن تغري بردي، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، أنه كان لكل إنسان في عهد السلطان برقوق رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقي البر، سوى ما كان يفرّق في الزوايا من لحم الضأن، فيعطي في كل يوم لكل زاوية خمسين رطلاً وعدداً من أرغفة الخبز، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك، بحسب حالهم.
ويذكر فؤاد مرسي في مؤلفه "معجم رمضان" أن الظاهر برقوق اعتاد أن يوسّع على الفقراء والمساكين في شهر رمضان، قبل تولّيه إدارة البلاد، وسار على سنته من أتى بعده من السلاطين، فأكثروا من ذبح الأبقار وتوزيع لحومها.
إطعام 5 آلاف نفس يومياً
وكان الملك الظاهر بيبرس البندقداري (1260-1277)، يرتب في أول شهر رمضان في مصر عموماً والقاهرة خصوصاً، مطابخ لأنواع الأطعمة لتوزيعها على الفقراء والمساكين، ويؤكد المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، أنه كان "يطعم في كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس".
وبلغ من اهتمام سلاطين المماليك بالتوسيع على الفقراء والمساكين في شهر رمضان، أن دون ذلك في حجة وقف السلطان حسن بن قلاوون (1347-1351)؛ إذ جاء فيها: "يصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان ثمن عشرة قناطير من لحم الضأن، وثمن أربعين قنطاراً من خبز القرصة، وثمن حب الرمان، وأرزاً وعسلاً، وحبوباً وإبزاراً، وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ بها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر المذكور، زيادة على ما هو مرتب في ليالي الجمع"، بحسب ما نقل فؤاد مرسي في كتابه "معجم رمضان".
كما اشترط بيبرس الجاشنكير المملوكي (1308-1309)، أن يوزع في ليالي الجمع من شهر رمضان نصف رطل مصري من الحلوى على الصوفية والفقراء في الرباط الذي أنشأه أو ما يسمى بـ"الخانقاه"، وكذلك في ليلة ختم القرآن في التاسع والعشرين من كل رمضان، على أن يضاعف نصيب شيخ "الخانقاه"، وأن تكون الحلوى عجمية معمولة من الدقيق المستخرج من القمح والعسل المحلي بالسكر والخشخاش وماء الزعفران واللوز.
إعتاق ثلاثين رقبة في رمضان
وكما هو الحال في الوقت الحالي حين يفرج عن بعض المسجونين على ذمة بعض القضايا بمناسبة الاحتفالات بذكرى ما أو بالأعياد، دأب سلاطين المماليك على إعتاق ثلاثين رقبة، بعدد أيام الشهر الكريم، بالإضافة إلى أنواع التوسيع على العلماء بالأخص.
كانت هناك حالات على النقيض من ذلك، منها ما حدث من السلطان الغوري (1501-1516)، الذي كان الأبخل بين كل هؤلاء السلاطين، وكانت حينما ترفع له قضايا تستلزم الدعم المالي، يرد على المشايخ: "الخزائن فارغة يا مشايخ، والجند طلباتهم كثير"
وبالرغم من تأكيد المرويات التاريخية على سياسة التوسيع التي اتبعها المماليك في رمضان، إلا أنه كانت هناك حالات على النقيض من ذلك، منها ما حدث من السلطان الغوري (1501-1516)، الذي كان الأبخل بين كل هؤلاء السلاطين، وكانت حينما ترفع له قضايا تستلزم الدعم المالي، يرد على المشايخ: "الخزائن فارغة يا مشايخ، والجند طلباتهم كثير"، فيعيد المشايخ الكرة لاستعطاف السلطان: "فالناس مساكين وعيالهم كثير"، فيواجههم بعباراته البليغة: "العيال لا يملكون إلا البكاء، لكن الجند يلعبون بالسيوف والمكاحل يا مشايخ"، وفقاً لما ذكره محمد فتحي عبد العال.
سرقة الخزينة السلطانية في رمضان!
بالطبع لم يكن الأمر يمر بهذه الصورة على مدار السنوات الطويلة، وإنما كان لا بد أن تقع بعض الأحداث التي تعكر صفو الأيام، وكان ذلك من نصيب السلطان الأشرف شعبان (1363-1376)، فقد فكر في التوسيع على الفقراء أيضاً، كما فعل سلفه، لكنه اكتشف أن الخزينة السلطانية قد سُرقت، واختفت منها عشرون ألفاً من الدنانير الذهبية، وارتج القصر لهذه الواقعة، خاصة أن الخزانة كانت في غرفة نوم السلطان!
جاءت ضخامة الواقعة بسبب أن السلطان كان قد تناول طعام السحور ونام، والجميع قد حذروه من النوم بعد السحور، بمن فيهم الأطباء، لكنه فعل ذلك، واختفت العشرون ألف دينار، ولم يكن أمامه إلا الشك في خدمه وعبيده المقربين، وكانت المفاجأة عندما اعترف الجميع على "خوند سوار باي"، جاريته الأثيرة.
وهنا يقول المنسي قنديل في كتابه "لحظة تاريخ": "وضع السلطان محظيته في السجن فلم تعترف. أمر بضربها بالسياط فتحملت وخرجت بعد سنوات تهمهم بكلمات غامضة، تحكي عن تجربة السجن الطويلة، ولا أحد يدري إن كانت قد سرقت النقود أم لا".
هذه الواقعة ذكرها مؤلف كتاب "تأملات بين الدين والعلم والحضارة" أيضاً وبالتفاصيل ذاتها، لكنه أكد أن "خوند سوار باي على الرغم من ضربها بالسياط لم تعترف، وخرجت من السجن بعد سنوات عدة وهي عجوز فاقدة السمع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...