واقفاً كجذعِ شجرةٍ عجوزٍ طالها اليباسُ وقُطّعت أغصانها، بانتظار ضربة الفأس الأخيرة التي تودي بها أرضاً، كنت أقف وسط الغرفة التي كانت غرفة الجلوس.
هنا كانت المجموعة التي تضم التلفاز و"الريسيفر" والهاتف وبعض القطع الخزفية التي تزيّنها، وهنا كنت أتمدّد على الأريكة وزوجتي على الأريكة الأخرى، وهنا كان يلعب ولداي، ريان وشام، وهناك كنا نضع كيس ألعابهما المبعثرة دائماً: الدب "ميمون" واللعبة "ليلى" و"خضور". أسماء ألعابٍ ما زالت حاضرة في ذاكرتي.
على الحائط كان هيكل العود الذي رَسَمَ عليه صديقي لوحةً لفتاةٍ تنظر إلى الأفق وتَدمع عيناها، وكتبتُ تحتها بالخط الديواني: "طالتْ نَوَىً وبَكَى من شوقِهَ الوتَرُ.. خُذني بِعَينيكَ واهْرُب أيُّها القمرُ".
هنا كانت ساعة الحائط، وعلى الحائط الآخر لوحةٌ لآيةٍ قرآنيةٍ مكتوبةٍ بخطّ الثّلُث. وقبل أن نخرج، وضعت المصباح الصغير في مقبس الكهرباء لكي أجده مشحوناً عند العودة، وفوق المكتبة عودي الجميل، وها أنا أداعب أوتاره بأغنية لناظم الغزالي.
ثم جاءت ضربة الفأس الأخيرة، لأجلس أرضاً واضعاً رأسي بين رجلي وأبكي. بكيت بقهرٍ، فلم أشعر بالذل والقهر والألم كما شعرتُ في تلك اللحظة. فتحت عينيّ لأرى ما تبقى من تلك الصورة الجميلة المنحوتة في ذاكرتي: بقي بعض الثياب المهشّمة، قصاصات ورقٍ مبعثرةٍ، وبيت العود، والكثير الكثير من الغبار الذي يعجّ به المكان. هُدِم حائط المطبخ بجانب الباب، ليس بقذيفة أو برميل أو أيّ شيء من هذا القبيل، بل نتيجةً لإخراج البراد عند "تعفيش البيت".
المكتبة: البداية
كل قطعةٍ من أثاث منزلنا لها حكايةٌ جميلةٌ في حياتنا، تانيا زوجتي وأنا. كانت تتأبط ذراعي وندور أسواق حلب لنجمعها قطعةً قطعةً، كلوحةِ فسيفساءٍ مؤطّرةٍ بألوان حبّنا، وكما يجمع الطفل مكعّباته، حتى يصل إلى الشكل الذي يمليه عليه خياله. قالت لي: "عليك شراء مكتبة تضع بها كتبك كي لا تبقى أسيرة الكراتين"، وفعلاً، انتقينا مكتبةً ووضعناها في غرفة الضيوف ورتّبتُ الكتب فيها. من بين تلك الكتب، كانت الأعمال الكاملة لمحمود درويش، ومحمد الماغوط، ومظفر النواب، والطيب صالح، وأنسي الحاج، والكثير الكثير من الروايات والدراسات التي كانت، بمجموعها، حوالي ثلاثمائة وخمسين كتاباً. كان لكل كتاب اشتريته ذكرى عزيزة، وحتى الكتب "المستعمَلة" التي كنت أقتنصها من تحت "جسر الرئيس" بأسعار بخسة أيام الجامعة، كانت كنزاً ثميناً بالنسبة لي.
كنت قد وضعت على رفّ المكتبةِ مقالاً كتبتُه قبل زواجي وأخرجته لكي يقرأه عمي، والد زوجتي، قبل تركنا البيت بفترة قصيرة. كان المقال (غير المخصص للنشر) بعنوان "هل الله موجود!" ، وهو عبارة عن قراءة في كتاب "البحث عن منقذ" للكاتب العراقي فالح مهدي، وفيه مقتطقات كفيلة بوضعي على الخازوق بالنسبة لهؤلاء الذين دخلوا بيتي، وكفيلة أيضاً بتكفيري ومكتبتي ووضعها في المحرقة واستخدام كتبها كوقود للتدفئة في الشتاء، وهو ما حصل لاحقاً بالفعل، عندما استوطنوا بيتي لستة أشهر تقريباً، ولم يجدوا ما يقيهم برد الشتاء سوى كتبي، غير مدركين أنهم أوقدوا النار في تاريخ من الذكريات الجميلة المدوّنة بالحبر السري في كل صفحة، بل وتحت كل سطر من سطور كتب تلك المكتبة.
في حوالي الساعة الثالثة من ظهر ذلك اليوم، سمعنا إطلاق الرصاص تحت شباك المنزل، فهرعتُ وأدخلتُ تانيا والأولاد إلى المطبخ "الأكثر أماناً"، نظراً لكونه بعيداً عن شبابيك المنزل المطلّة على الشارع، وجلست في زاوية أراقب ما يجري. لقد دخلوا الحي إيذاناً "بتحريره" من قوات النظام - كما كانوا يدّعون - في تلك الفترة. كانت المروحيّة تحوم فوق أحياء حلب الشرقية، عندما بدأنا نسمع أصواتهم يصرخون: اهبطوا إلى الطابق الأرضي في حال جاءت المروحية، وليدخل جميع المدنيين منازلهم.
كنت قد وضعت على رفّ المكتبةِ مقالاً كتبتُه قبل زواجي وأخرجته لكي يقرأه عمي، والد زوجتي، قبل تركنا البيت بفترة قصيرة. كان المقال (غير المخصص للنشر) بعنوان "هل الله موجود؟!"
كانوا قلّة ويحملون الرشاشات، وكان من بينهم رجل يرتدي اللباس الأفغاني ويسير بهدوء بعيداً عن الرصاص وهو يحتسي الشاي (في رمضان!!) الذي قدمه لهم أحد سكان الحي. هنا تأكدت أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ. انسحبوا بعد ساعةٍ تقريباً ليعودوا في اليوم التالي. رتّبنا حقيبة ثياب واحدةٍ وسافرنا وأهل زوجتي إلى بيتِ أهلي في السلميّة، على أمل العودة بعد أسبوع على أقل تقدير، بعد أن تهدأ الأوضاع، ولكن هذه الأيام السبعة استمرت سبع سنوات، وهذه الزيارة الطارئة للأهل في القرية باتت نزوحاً مضنياً، تبعه الكثير الكثير من المآسي والأحداث المؤلمة التي أثرت سلباً على حياتنا، تانيا وأنا. معاناة من نوع مختلف تركتُ لها فسحة أخرى في يومية جديدة من يوميات الحرب.
المكتبة: الحريق
مَن دخلوا بيتي في المرة الأولى كانوا يسمون أنفسهم "الجيش الحر"، وهم استوطنوا البيت لستة أشهر تقريباً. وأثناء استيطانهم هذا، وجدوا في دفتر الهاتف رقم موبايلي، فاتصلوا بي إلى السلمية، ودار حديث سألوني خلاله وبالحرف الواحد: "أنت سنّي أم علوي؟"، ثم قالوا لي: "سنحافظ على أثاث منزلك، ولكن سامحنا بـالمونة". هذه "المونة" التي اشتريناها بعد أن باعت تانيا طوقاً لها، استعداداً لأزمةٍ غذائيةٍ قادمةٍ. واستطردوا قائلين: "أما بالنسبة للأوراق التي وجدناها على رفّ مكتبتك (المقال)، فسوف نعرضها على الأمير وهو يقرر الإجراء اللازم". هنا توقعت فوراً أن الأمير سيهدر دمي، بناء على ما كنت أسمعه وأشاهده على قنواتهم الخاصة على التلفاز، وما وصلني من أخبارٍ عن السلطة الدينية والعسكرية التي يمتلكها هذا "الأمير"، والذي يسيّر الأمور بالطريقة التي تخدم مصلحة من يأتمر بأمرهم، وبغطاء ديني يسلب عقول ضعاف النفوس والجهلة الذين لا يفقهون شيئاً من الدين، إلا ما يمليه عليهم "أميرهم".
كنت أتقصّى أخبار بيتي من الجيران الذين بقوا في الحي، وعلمت منهم أن مكتبتي أحرقت على يد من استوطنوا البيت ليتدفّؤوا عليها في الشتاء، ولم يسلم إلا بضع كتبٍ كانت مبعثرة في أرض الغرفة، ومن بينها ديوان "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش وكتب أُخرى ساهمتُ في إخراج ومعالجة نصوصها، وأهدتني نسخاً منها زويا ميخائيلينكو رحمها الله، مديرة دار علاء الدين للنشر، حين كنت أعمل في الدار.
ثمة مجموعة مخصصة لنهب الأثاث وأخرى للشبابيك والأبواب، ومجموعة لسحب أسلاك الكهرباء، وأخرى للحديد، ومجموعة لنزع السيراميك والبلاط. هكذا، بات النهب تخصصّاً وتُطلق عليه تسميات... أما إحراق المكتبات فليست له تسمية
بعد خروج الجيش الحر من منزلي، قيل لي إن مجموعة تسمي نفسها "كتيبة شمس الإسلام" دخلته واستوطنته أيضاً، وهي عبارة عن مجموعة من "زعران" الحي الذين كانوا مع الحكومة في البداية، قبل أن ينقلبوا إلى الكفّة الأخرى.
لم يكن النهب نهباً للأثاث فقط، بل نهباً على مختلف المستويات، فثمة مجموعة مخصصة لنهب الأثاث وأخرى مخصصة للشبابيك والأبواب، ومجموعة لسحب أسلاك الكهرباء من حيطان المنزل، وأخرى للحديد، ومجموعة لنزع السيراميك والبلاط. هكذا، بات النهب تخصصّاً وتُطلق عليه تسميات مثيرة للسخرية. فمثلاً نهب الأثاث يُسمى "تعفيش"، وسحب أسلاك النحاس من الحيطان يُسمى "تنحيس" وهكذا.. حتى بات النهب ثقافة . أما إحراق المكتبات فليست له تسمية، ولا تُسعفني اللغةُ لأطلق تسميةً عليه.
المكتبة: النهاية
بعد إحراق مكتبتي، لم يعد يعنيني اقتناء مكتبة أخرى. فقدَ الكتاب قدسيّته بالنسبة لي، ليس انتقاصاً من قيمته، ولكن لأنني لم أعد أمتلك الشغف ذاته في اقتناء الكتب، بعد أن صار شراءُ كتابٍ ترفاً أنا في غنى عنه، في مقابل تأمين معيشة عائلتي، وفي وقتٍ وجدتُ فيه بديلاً عبر الانترنت والقراءة الورقية، فمعركة الحياة وتأمين لقمة أطفالي باتت أولوية في حياتي. استسهلتُ قراءة الكتب الإلكترونية، رغم متعة القراءة الورقية، لكنّ صورة مكتبتي والكتب المرتبة فيها لا تفارقان مخيلتي، كما بقية ذكرياتنا أنا وتانيا، في كل جزء من بيتنا وفي كل شارع من شوارع حلب التي شهدت حبنا قبل الحرب.
مسحت عينيّ اللتين اغرورقتا بالدموع.
رفعتُ رأسي عن ركبتيّ، ومسحت عينيّ اللتين اغرورقتا بالدموع، ونهضت واقفاً وسط الغرفة من جديد. وقبل أن أغرق في دوامة الذكريات مرة أخرى، لملمتُ خيبتي وألمي وخرجتُ أبحث عن بيتٍ أستأجره بعد أن قررنا العودة إلى حلب، على أمل ترميم بيتنا وذاكرتنا.
ما الذي بقي الآن من كل هذا، سوى صور جميلة في الذاكرة لا أتذكرها من باب المثاليّة أو الوقوف على الأطلال، بل لأنها تسري في دمنا، نعيش ونتنفس تلك الذكريات، خاصةً وأن حجم الانكسارات والخيبات في فترة نزوحنا كان صادماً لدرجة فقدنا معها القدرة على السيطرة على مسار الأحداث في حياتنا، وفقدنا القدرة على الاستمرار كما كنا. فقذارة الحرب طالت حتى الصفاء في قلوبنا، وطالت القيم والأخلاق عند أغلب الناس. بات المحظور مُباحاً، والحرام مُشرّعاً، وتغلغل الفساد في مفاصل يومياتنا.
لم نستسلم، رغم ذلك، وصبَرْنا وأضفنا إلى شجرة عائلتنا برعماً صغيراً أسميناه "لارسا"، الطفلة التي ضخت دماءً جديدة في حياتنا وباتت، مع أخوَيها وذكرياتنا وأطلالنا وحبنا، البياض الوحيد الذي يسكن قلوبنا وسط هذا السواد الذي لا نهاية له في المدى المنظور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...