تواصل النخبة الثقافية العربية في أمريكا الشمالية تفاعلها مع الثقافة العربية قديمها وحديثها وتسعى لتقديمها هناك إما عبر تدريس الحضارة والآداب والفنون العربية أو عبر التأليف والإنتاج أدبياً أو سينمائياً أو موسيقياً أو تشكيلياً أو مسرحياً أو فكرياً.
ضمن هذه الفئة المنتجة للمعنى والتي تواصل خدمة الثقافة العربية وهي في غربتها الأستاذ والباحث وليد الخشاب، أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا ومدير جماعة الدراسات العربية الكندية. ولئن تنوعت اهتماماته بين وجه الشاعر ووجه الباحث في التصوف والتراث والثقافة الدارجة فإنه لم يقطع الصلة بينه وبين اختصاصه الأول وهو النقد السينمائي الذي أنجز فيه رسالة دكتوراه إلى جانب عشرات البحوث الأكاديمية، وحاضَر حوله في كبريات المنابر والجامعات العالمية، علاوة على إدارته للعديد من الورشات في فن الضحك والكتابة فيه وضمن هذا الاهتمام كان تركيزه على واحد من أعلام الكوميديا في تاريخ المسرح والسينما العربيين: الفنان فؤاد المهندس، توّجها هذا العام بكتاب "مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولاوعي السينما" الصادر عن المرايا بالقاهرة.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول مشفوعة بمقدمة وخاتمة جاءت تحت العناوين التالية: فؤاد المهندس وتاريخ الكوميديا الوطنية، فكر المهندس وهندسة المجتمع عبر الفنون، الكوميديا ومأساة الازدواج: القرين والفصام، فؤاد المهندس لاوعي الناصرية، اقتباس الكوميديا، وفؤاد المهندس لا نهاية له. امتد الكتاب على 224 صفحة من الحجم المتوسط، وتخللت الفصول صور للفنان فؤاد المهندس وأفيشات أعماله ومشاهد من أفلامه للتدليل على الأفكار الواردة في التحليل.
لماذا فؤاد المهندس؟
انطلق الباحث من هذا السؤال البديهي في البحث ليجد لبحثه أصالة ومشروعية، ويعتبر أن تاريخ الكوميديا لم يكتب بعد، ولأن هذا الموضوع لم يؤخذ يوماً مأخذ الجد، وانسحب ذلك على تجربة فؤاد المهندس، فيرى الخشاب أن دراسة مسيرة شخصية مثل المهندس قد تكون طريقة لقراءة واقع وتطورات المجتمعات العربية، فالفنون عند الشعوب ناطقة بحقيقة تطوّرها الثقافي وكاشفة لواقعها السياسي الذي أنتجها. يسجل وليد الخشاب: "يثير مسار فؤاد المهندس اهتمامي كباحث بأننا كثيراً ما لا نأخذ الكوميديا مأخذ الجد، بينما دراسة إنتاج المهندس على نحو جاد تكشف لنا الكثير عن تطورات المجتمع العربي الحديث فيما بعد الحرب العالمية الثانية وميلاد الدولة الوطنية".
يأخذ وليد الخشاب الكوميديا إلى منطقة أخرى تجعل منها مسألة جادة للتعرّف على المجتمع المصري ورصد حركته عبر سينما ومسرح فؤاد المهندس الذي يعتبر النجم الأكثر جماهيرية إلى الآن من أبناء جيله
هكذا يأخذ وليد الخشاب الكوميديا إلى منطقة أخرى تجعل منها مسألة جادة للتعرّف على المجتمع المصري ورصد حركته عبر سينما ومسرح فؤاد المهندس الذي يعتبر النجم الأكثر جماهيرية إلى الآن من أبناء جيله الذي ضم عبد المنعم مدبولي وأمين الهنيدي ومحمد عوض. وهذه الجماهيرية للمهندس تتعدى النطاق المصري لتكون عربية، فليس من مواطن عربي تقريباً لا يعرف فؤاد المهندس. غير أن الكتاب بمقاربته المعاصرة والمختلفة يكشف مع كل فصل من فصوله جهلنا بحقيقة فؤاد المهندس وفنه لأننا مثلما صدّر بذلك الباحث لم نأخذ الكوميديا باعتبارها مسألة جدية. وهذه الجماهيرية العربية التي كسبها المهندس تتأسس ضمن مفارقة غريبة أنه لم يكن مهتماً بالتلقي العربي لأعماله. يكتب الباحث: "رغم أن فؤاد المهندس لم يكن يشير إلا نادراً إلى الحضور العربي بمسرحياته، وكان واضحاً أنه من أنصار فكرة الهوية المصرية لا العربية، إلا أن شعبيته الهائلة في البلاد العربية، إلى اليوم، تثير الدهشة والتأثر معاً".
الدكتور وليد الخشاب
ويعتبر الباحث أن نجاح المهندس في ميادين فنية مختلفة كالتلفزيون والسينما والإذاعة والمسرح بذات النجاح مبرر ودافع لدراسته كظاهرة فريدة، لينتهي بتصوراته للبحث أن اهتمامه بفؤاد المهندس ليس اهتماماً بشخصية خالصة، لأن ذلك الاهتمام يتجاوز فؤاد المهندس كشخص إلى تيار ومرحلة ورهان فني شاركه فيه كتاب سيناريو ومخرجون ومنتجون. وهو في ذات الوقت يتبرأ من المعنى الحرفي للانعكاس، عكس تجربة الفنان لواقع المرحلة.
يضرب الباحث الفكرة المتكررة بأن فؤاد المهندس سليل نجيب الريحاني، مثلما عادل إمام كان فناناً من صلبه فكرياً وفنياً؛ ففكرة التوالد هذه في صيغتها الساذجة لا يقتنع بها الباحث ويعتبر كل شخصية فنية لها خصوصيتها لتبقى شخصية فؤاد المهندس عبقرية خاصة.
ورداً على الرأي القائل بأن فؤاد المهندس كرّس شكل التهريج والتفاهة والسطحية الذي يخدم نظام عبد الناصر، اعتبر في ذلك حكماً ظالماً لفؤاد المهندس، بل كانت تلك الفكاهة مقترنة بصورة الفارس، وهو نوع من الكوميديا انتشرت في تلك الأزمنة في السينما الغربية. يقول: "ازدهر نفس النوع... منذ الخمسينات في السينما الفرنسية ولمع نجم الفارس/البانتوميم جاك تاتي، وكذلك برزت نجومية بويس دي فونيس الذي كان يمزج الفارس بالموقف، وفي إنجلترا ثم أمريكا كان اللون نفسه هو الذي صنع أسطورة النجم السينمائي بيتر سيلرز، والحال نفسه مع بطلي الكوميديا في هوليود جيري لويس منذ الخمسينات. وميل بروكس منذ نهاية الستينات".
فكر المهندس وهندسة المجتمع عبر الفنون
يعتبر الباحث أن إنتاج الفكاهة كان جزءاً من تنفيذ شعار عبد الناصر "من الإبرة إلى الصاروخ" أي أن الدولة مسؤولة عن إنتاج كل شيء بما في ذلك المنتج الثقافي والفني، وقد اختارت دولة التحرر الوطني الفكاهةَ كنهج للأعمال الفنية لإعادة هندسة المجتمع وإعادة تشكيله وبنائه، وكان فؤاد المهندس "جزءاً من هندسة هذا المجتمع على المستوى الثقافي" ضمن فئة كبيرة من الممثلين منذ الستينيات، غير أنه تفرد بإبداعه وجماهيريته.
وانشغل الفصل بتقصي سيرة ظهور فؤاد المهندس في الإذاعة عبر برنامج "ساعة لقلبك" وتطوره وعلاقة كل ذلك بالطبقة الوسطى ويربط الباحث ربطاً ذكياً سطوةَ هذه الطبقة بالنظرة التمييزية للآخر الحميمي الصعيدي مثلاً، وانتشار ظاهرة التنمر على الصعايدة، ونكتهم. يقول: "يكتسب الإضحاك القائم على السخرية من الصعيدي قيمة تاريخية/اجتماعية/سياسية. فـ‘نكت الصعايدة‘ المنتشرة إلى يومنا هذا لم تكن فقط ‘مؤامرة‘ للنيل من نموذج من نماذج الصلابة المصرية كما روج البعض في لحظة ما من تاريخ مصر، وليست فقط من قبيل التنمر على الأقليات من قبل النخب المتسيدة/في العاصمة، لكن هي انعكاس لخطّة تهدف إلى الترويج لتمايز أبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين أبناء المدينة وليس من الطبقة الوسطى الحديثة. والصعيدي نموذج قوي لهذا الآخر الجذري". ويتوسع الباحث بإعطاء أمثلة من أعمال أحمد الفار في سكاتشات برنامج "ساعة لقلبك".
رداً على الرأي القائل بأن فؤاد المهندس كرّس شكل التهريج والتفاهة والسطحية الذي يخدم نظام عبد الناصر، اعتبر الخشاب في ذلك حكماً ظالماً لفؤاد المهندس، بل كانت تلك الفكاهة مقترنة بصورة الفارس، وهو نوع من الكوميديا انتشرت في تلك الأزمنة في السينما الغربية
يذهب وليد الخشاب إلى أن هذا المشروع الفني الذي استغله النظام الناصري لتغيير المجتمع وقولبته تمتد أصوله إلى الفنون المنتشرة في أمريكا وإنكلترا في ذلك الوقت. وهذه ميزة هذا الكتاب لأنه يقرأ التجربة الفنية المصرية في ضوء ما كان يحدث في العالم باعتباره رافداً من روافد نشأتها وتطورها وحتى انحرافها. ومن هذا المنطلق توقف الباحث طويلاً عند ما يسمى بـ"الفودفيل" العالمي وأثره في نشأة الفودفيل المصري أو ما سماه هو بـ"الهروبية" أي الاكتفاء بإنتاج الكيتش: "الخفة والمرح والسعي وراء المتعة والتحرر في العلاقات العاطفية والجنسية بين الجنسين، مع مزيد من التحرر للنساء، والابتعاد شبه التام عن مقاربة مشاكل الفوارق الاجتماعية والسياسية مقاربة جدية".
يؤكد الباحث أن تكريس أيديولوجية الفودفيل كان في ظاهره اظهر أن الدولة في خدمة الفرد ومتطلباته كفرد منتمٍ للطبقة الوسطى الناصرية: تلبية حاجاته من الملذات والمتع، والباطن هو السيطرة عليه باعتبار هذه الأيدولوجيا تخلق نمطاً من الناس يحتاجهم النظام ليكونوا بعد ذلك حشوداً وأنصاراً. وهنا يمكن الحديث عن لاوعي الفن والسينما والمسرح تحديداً الذي يتورط فيه الفنان دون أن يدري أحياناً ودون أن يقصد لإنتاج هذا الكائن النظامي الخاضع الراكض وراء تلبية الشهوات والمتع الذي أدمن عليه بعملية ممنهجة من النظام السياسي.
الكوميديا ومأساة الازدواج: القرين والفصام
في هذا الفصل يرصد الباحث العلاقة الحقيقية بين الفن والسياسة منطلقاً من حكاية طريفة تروى عن انقسام السلطة بين عبد الناصر والمشير عامر، وكيف صارا في وضع توم وجيري، وكان صراعهما منعكساً في أعمال فؤاد المهندس، خاصة أثر هزيمة 67. ينقل الباحث حكاية رواها خالد فهمي نقلاً عن صديق المشير "أن مخبرين تابعين لفريق عبد الناصر كانا يراقبان منزل المشير، فتوجه إليهما ضابط من معسكر المشير وضربهما، فأطلقا عليه الرصاص وأصاباه بإصابة بسيطة، فخرج المشير بالبيجاما إلى البلكونة حاملاً بيديه قنبلتين يدويتين ومسلحاً بقنبلتين أخريين في جيب البيجاما، لكن حليفه طمأنه أن الموقف قد انتهى، فعاد المشير إلى غرفته"، ومثل هذا الموقف كان يتكرر في أفلام فؤاد المهندس عبر شخصية "مستر إكس".
اعتبر الخشاب أن هذا الازدواج في الواقع السياسي له مقابل في الفن عبر شخصية "مستر إكس" وشخصية "مفتاح"، وأن المسألة أبعد من أن تكون إسقاطاً فنياً وتشابهاً بقدر ما هي أداة إجرائية لتحليل تلك المفارقة ومبدأ الازدواج الذي كان سائداً حتى في نظام الحكم، والذي أدى إلى تلك الهزيمة العسكرية. وهذا يدخل في توجهه لتحليل التجارب الفنية في ضوء التقاطعات بين التاريخ العام والإنتاج الثقافي. ويسجل وليد الخشاب رأياً أن"أفلام فؤاد المهندس الكوميدية بالذات في السنوات القليلة التي سبقت ثم تلت هزيمة 1967 تكشف عن لاوعي الناصرية، وتجد مقلوب المجتمع عن نفسه، المسكوت عنه، وتقدم نقداً ساخراً وغير مقصود بتصورات المجتمع عن نفسه، في هيئته الوردية، الواثقة، المعتزة، كما تكشف عنها المطبوعات الدعائية والأفلام التسجيلية وخطب السياسيين في الفترة الناصرية".
يؤكد الخشاب أن العمل الفني قد يقول بطريقة لاواعية ما أراد أن يخفيه بوعي.
يتوقف الباحث مطولاً عند ظواهر الازدواج في أعمال فؤاد المهندس واستعاراته الغريبة لتقديم أفكاره وأفكار المرحلة عندما يستعير نماذج استعمارية لمقاربة موضوع التحرر مثلاً، إما في استعارة قصة ذات الرداء الأحمر أو ميكي ماوس. يقول وليد الخشاب: "لكن الأنكى هو أن الحل والإنقاذ يأتي، لا عبر شخصية فولكلورية أو تراثية عربية أصيلة"، بل عبر تمصير مستغرب لشخصية فأر أمريكي خارق، وهو الفأر القهار الذي عرفته شاشة التلفزيون المصري في الستينات باسم فرافيرو. فالحكاية التي يحكيها الفيلم عن مقاومة خطر الاستعمار قادمة من تراث ذلك الاستعمار".
وهذا الأمر نفسه يعكس الفترة الناصرية التي تعيش الازدواج على أكثر من مستوى فـ"طغيان فكرة الانفصام"، كما يقول وليد الخشاب، أو الازدواجية الملازمة لتيمة القرين والشبيه، هي في حد ذاتها مواكبة لازدواجية الحقبة الناصرية، بل وفصاميته. "في تلك الحقبة، ازدوج خطاب المجتمع عن نفسه بين خطاب ثوري تحرري وممارسة قمعية ضد المعارضين، أو بين ادعاءات أخلاقية عن المساواة بين المواطنين ومحاربة الفساد من ناحية، وممارسة تخلق طبقة تتمتع بامتيازات خاصة وتدعم الفساد من ناحية أخرى". وتوسع الباحث في تحليل أشكال حضور ثنائية فؤاد المهندس وشويكار ودلالاتها، وعلاقة السينما بصورة الحداثة التي تروج لها النخبة.
ومع ذلك ظل الباحث يستبعد أن يكون فؤاد المهندس أو شويكار قد تورطا في الدعاية للناصرية رغم أنهما أحييا الكثير من الحفلات الوطنية بحضور ناصر والمشير عامر.
فؤاد المهندس لاوعي الناصرية
ينطلق وليد الخشاب في هذا الفصل من فكرة أن أفلام فؤاد المهندس وخاصة التي شاركته فيها زوجته شويكار كانت تجسيداً "لما يرقد في لاوعي المجتمع المصري في فترة الناصرية وامتداداتها في عهد الرئيس السادات على مدار حوالي ربع قرن"، ويفسر تلك الفكرة بأن ما يسميه بلاوعي الناصرية هو "الإشارة الرمزية، غير المقصودة غالباً، لأمور وكلام مكبوت ومحبوس في لاوعي الناس والمجتمع ككل، بل والدولة، في المرحلة الناصرية وامتداداتها"، وهي ببساطة "الأفكار والرغبات والأحلام والرموز والمشاكل الموجودة في مساحة ذهننا، لا تظهر لنا وللآخرين بوضوح".
يعتبر هذا الفصل من أخطر فصول الكتاب لأنه يذهب عبر منهج تأويلي ذكي وعبر التحليل النفسي لبنية الخطاب إلى أن لاوعي الناصرية يظهر في تيمتين أساسيتين في أعمال فؤاد المهندس، وهما الاعتراف بالدولة البوليسية وانتشار الجريمة عبر العدد الكبير من الأعمال التي تنضوي تحت هذه التيمة كأفلام قصص الجريمة والأفلام البوليسية، فتلك التيمة حسب الباحث "تعبيراً لاواعياً عن شعور المجتمع في قرارة نفسه بانتشار الجريمة في المجتمع بالمعنى المجازي وأن المجتمع والنظام يقران بشكل لاواع بأن الدولة بوليسية وبأن هناك جرائم ترتكب في حق الناس"، بينما التيمة الثانية هي قتل الأب أو غيابه "كمعادل لموت الزعيم الأب/ناصر بشكل رمزي"، فأغلب أفلام المهندس تقدم صورة لغياب الأب أو موته ليحل الحبيب أو الزوج مكانه.
يرصد الباحث العلاقة الحقيقية بين الفن والسياسة منطلقاً من حكاية طريفة تروى عن انقسام السلطة بين عبد الناصر والمشير عامر، وكيف صارا في وضع توم وجيري، وكان صراعهما منعكساً في أعمال فؤاد المهندس.
وفي هذا يقول الباحث: "تعبير رمزي لاواعٍ عن تصور المجتمع للحياة بدون طغيان الأبوية، أو للحياة بعدما انكسرات شوكة الأب في المجتمع والسياسة". ويؤكد أن العمل الفني قد يقول بطريقة لاواعية ما أراد أن يخفيه بوعي. فأفلام فؤاد المهندس وخاصة التي أنجزها مع شويكار كبطلٍ أول كانت "جميعها إفصاحاً غير مقصود عما يحمله لاوعي الناصرية، أو اللاوعي الجماعي للناس من المرحلة الناصرية وامتداداتها حتى ترسخت سياسة الانفتاح على يد السادات".
ويستند الباحث في دعم فكرته إلى منجز التحليل النفسي، وخاصة نظرية سيغموند فرويد فيما يعرف بالهفوات في الأفعال وزلات اللسان. يقول وليد الخشاب: "يحدث في السينما بشكل عام أن تظهر في الفيلم زلة لسان فيلمية أو زلة لسان سينمائية، مثل زلة اللسان في الكلام التي نظّر لها فرويد". ويعتبر أن أفلام المهندس "مليئة بزلات اللسان السينمائية هذه، بل تكاد تكون هي في حد ذاتها زلة لسان كبرى". ويتوغل البحث في تفكيك تلك الزلات ودلالاتها مستعيناً مرة بفرويد ومرة بالألماني والتر بنيامين صاحب فكرة "اللاوعي البصري"، وكشف أن اللاوعي السينمائي يصل أحياناً حد أن يتنبأ بأحداث ستتأكد في المستقبل، فكل مرحلة تتنبأ بالتي بعدها.
رغم أن البحث حافل بالإحالات على أصول أفلام المهندس الغائبة أي الأفلام العالمية التي اقتبس منها أفلامه أو تقاطعها مع أفلام غربية شهيرة فإن الباحث تعمق في ذلك بتخصيصِ فصلٍ كامل للاقتباس فكك فيه هذه الظاهرة وبيّن طرق وميكانزمات اشتغالها وأسباب الذهاب إليها.
"مهندس البهجة" للدكتور وليد الخشاب يعتبر كتاباً مؤسساً لخطاب نقدي جديد يسعى عبر أدوات علمية لكتابة تاريخ السينما العربية والتعامل مع الكوميديا بطريقة جدية دون أن تكون تلك الخلفية العلمية مثقلة لخطابه أو عائقاً للتلقي الثقافي العام، فقد تخفف الكتاب من كثرة الإحالات العلمية وكأنه يجنح نحو النقد الثقافي ودعوة القراء بكل مستوياتهم مخاطباً فيهم المشترك المعرفي لإنتاج معنى جديد للفرجة الحاصلة والبحث عن متعة جديدة غير التي ذهبت إليها السلطة في إنتاج تلك الأفلام في تلك الفترة لتسكين الشعب وحشد الحشود بتفقيرهم ذهنياً، بل بمتعة البحث بعين المحلل النفسي عما وراء الأثر الفني من قول مسكوت عنه.
وهذا ما يرشح الكتاب ليتموقع في منطقة مضيئة من مكتبة النقد السينمائي العربي اليوم، مؤكداً من ناحية إضافة النخبة العربية في المهجر في إعادة قراءة الثقافة العربية بنظرة جديدة لعل المسافة والثقافة العالمية التي اكتسبتها هناك كانت إحدى أسبابها ومثبتةً صحة قولة عبد الفتاح كيليطو في كتابه "الأدب والغرابة": "إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغرب، أن يبدل مقامه، أن يغرب، كما تغرب الشمس. على أن غروب الشمس ليس ضياعها وانعدامها: إنها تشرق على قوم آخرين يسرون بمقدمها عليهم، ثم تعود من جديد إلى القوم الذين غربت عنهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...