بين العمل الأول لها والتجربة الأخيرة، التي ودعت من خلالها عالمها الساحر، والذي سقطت في عشقه منذ اللحظة الأولى، مرت شويكار العام الماضي، بتحولات كبرى، كان الجسد فيها الحاضر الأول والفاعل الأبرز والملك المتوج.
يروي المؤرخ الفني أشرف سالم لرصيف22 حكاية جملية السينما المصرية ويقول: "بدأت شويكار إبراهيم صقال رحلتها مع الفن في عمر التاسعة، حين تعاملت ولأول مرة مع شاشة السينما كمتفرجة، وشاهدت أحد الأفلام وكانت بطلته ليلى مراد، وخرجت من دار العرض كمن يقاوم السقوط بعد أن اضطرت لوداع هذا العالم بعد انتهاء العرض".
يتابع: "حاولت شويكار بعد ذلك اليوم أن تُوظف كل ما تصورت أنها تمتلكه من مواهب لاقتحام هذا العالم الجديد، غير أن والدها فاجأ الجميع بقرار تزويجها في سن 16 عاماً، وأمام عادات وتقاليد تُحرم وتُجرم وقتها على البنت أن تعترض على زوجها وزواجها، نسيت هذا الحلم أو لنقل إنها خبأته لفترة من الوقت بين أحلامها الكثيرة المدفونة. وبعد 19 شهراً على الزواج، مات زوجها نتيجة المرض وترك لها ابنتها الوحيدة (منة الله)، التي اختارت أن تعيش من أجلها، حتى وقع ما كانت تنتظره وتتمناه".
يستكمل أشرف: "في أحد الأيام وبينما كان يتم تتويجها بلقب (الأم المثالية) في نادي (سبورتينغ) بالإسكندرية، كونها تعمل وتدرس وتربي ابنتها في نفس الوقت، شاهدها المخرج محمد شاكر الذي أعجب بقوامها المثالي وجمالها اللافت، ليعرض عليها دوراً في مسلسل (كبرياء الحب)، فتوافق وتبدأ أول خطوة على طريق تحرير جسدها من عاديته إلى النجومية، التي بدا وكأنها كانت تنتظر قدومها إلى عالم الفن على أحر من الجمر".
ويختتم: "من بعد هذا العمل تم توظيف شويكار على الشاشة الكبيرة انطلاقاً من كونها تمتلك موهبة مقبولة، وجسداً وجمالاً يجعلها تجسد أدوار (بنات الذوات) وابنة العائلات الكبيرة، دون أي عناء من المخرج وقد ساعد في ذلك أنها نشأت في أسرة أرستقراطية، وهو الدور الذي قدمته بداية مشوارها خلال فيلم (غرام الأسياد) عام 1961، والذي انطلقت من بعده لتقدم مجموعة من الأدوار الصغيرة ببعض الأفلام والمسلسلات، وإن كان أغلب أدوارها فيها مشابهة لدورها في (غرام الأسياد)".
اكتشف المهندس في محبوبته ورفيقة الرحلة قدرتها الكبيرة على تقديم أعمال من بطولتها وحدها دون حاجة إلى داعم
في عام 1963 جاء أول تحول مهم في مشوار شويكار حين تم الإعلان عن تدشين فرقة مسرح التلفزيون، وطلب منها المخرج السيد بدير أن تشارك في مسرحية (أنا وهو وهي) مع فؤاد المهندس وهي المسرحية التي ستُعلن عن جانب جديد ومهم في موهبة شويكار، ويجعلها لأول مرة تتمرد على أدوار البنت الأرستقراطية.
يقول المخرج المسرحي بلال عيسى لرصيف22 عن تلك التجربة وما أحدثته في مشوار شويكار: "قدمت في (أنا وهو وهي) دور سيدة مجتمع تتمتع بحس كوميدي، وهي أيضاً المسرحية التي ستشهد قصة حب عنيفة مع فؤاد المهندس، الذي سيخرج فيها ولأول مرة عن النص ليطلب يدها أمام الجمهور، لتوافق هي وتمضي لتقدم معه أشهر أعمالها الفنية مثل (أنا فين وإنتي فين)، و(أنا وهي وسموه)، و(حواء الساعة 12)، و(سيدتي الجميلة)، (فيفا زلاطا)، و(ربع دستة أشرار)، و(سفاح النساء)، و(أخطر رجل في العالم). وجميعها أدوار كوميدية، أثْرت مسيرة شويكار، التي ترسخَّت كوميدياً".
ويكمل: "اكتشف المهندس في محبوبته ورفيقة الرحلة قدرتها الكبيرة على تقديم أعمال من بطولتها وحدها دون حاجة إلى داعم أو سند، وكلل المؤلفون هذا الاكتشاف بكتابة نصوص مسرحية جديدة خصيصاً لها، وكانت المرة الأولى التي يتم فيها تسويق العمل الفني باسم البطلة لا البطل، وقد استمرت شويكار بطلة لعروض مسرحية يتم تسويقها باسمها لمدة عشر سنوات وكانت تلك ظاهرة فريدة من نوعها لم تتكرر".
في عهد المهندس أيضاً وبعد اكتشافها كوميدياً، كانت شويكار على موعد مع نقلة جديدة فتغيرت بوصلتها من الأدوار الأستقراطية الجامدة، التي تطلبت منها تعاملاً جسدياً حاداً في أحيان ورقيقاً وناعماً في أحيان أخرى، وراحت تقدم الأغاني والاستعراضات معتمدة على جسدها الممشوق، القادر على التلون في أي دور مهما كانت صعوبته، تماماً كما حدث في أفلام "إجازة غرام"، و"حضرة الأستاذ ضربني"، و"أشجع رجل في العالم"، و"ربع دستة أشرار"، و"أنت اللي قتلت بابايا"، و"مطاردة غرامية"، كما يقول بلال.
ويضيف: "مع فؤاد المهندس أيضاً تحررت شويكار من أسر جسدها وجمالها الذي فرض عليها أدوار (بنت الذوات)، وفاجأت الكل في مسرحية (سيدتي الجميلة) بشخصية (صدفة) النشالة التي جاءت من منطقة شعبية، فيما يحاول البطل أن يعلمها كيف تصبح سيدة مجتمع. كما أنها انقلبت على جسدها مرة أخرى مع المهندس وهو يقدمها في دور الراقصة (أوسة) في مسرحية (إنها حقاً عائلة محترمة)".
شاهدت أحد الأفلام وكانت بطلته ليلى مراد، وخرجت من دار العرض كمن يقاوم السقوط
ويختم لرصيف22: "بعد نجاح مسرحية (سيدتي الجميلة) التي كانت المحطة الفارقة في مسيرة شويكار تعرضت لإجهاد بدني وعصبي شديد وشكا جسدها، وبعد أن سافرت إلى الخارج من أجل العلاج نصحها الأطباء بضرورة الراحة، وعدم إجهاد نفسها في البروفات والعروض اليومية، وهو ما جعلها تتوقف لفترة عن المسرح بأوامر جسدها المنهك، وتركز أكثر في السينما، ولأنها لم تنس يوماً أن جسدها كان أحد أهم الأسلحة التي تسلحت بها في البدايات، اختارت أن توظفه في مجال آخر، فاختارت الإغراء المضحك، تماماً كما حدث في فيلم (العتبة جزاز)، لتضرب بذلك عصفورين بالحجر ذاته، فهي من ناحية تكشف عن وظيفة جديدة لجسدها أمام الشاشة، منافسة بذلك كبار نجمات الإغراء وقتها، ومن زاوية أخرى تُثبت أقدامها في عالم الكوميديا".
بعد انفصالها عن المهندس، وبعد أن شاركت في آخر تجاربها معه من خلال مسرحية "سك على بناتك"، واقتصر حضورها على صوتها فقط، بدأت رحلة البحث عن الذات والتحقق بعيداً عن فؤاد المهندس، لتُثبت أن نجوميتها لم ترتكن إليه يوماً، فتمردت شويكار من جديد على جسدها وجمالها وسابق أدوارها وراحت تقدم تجارب تراجيدية أثبتت بها أنها ممثلة من العيار الثقيل، وأن تجاربها مع المهندس ربما أجبرتها على الكوميديا دون غيرها.
هكذا بدأ الناقد الفني حسام شلبي حديثه لنا عن شويكار قبل أن يضيف: "فاجأت الكل بأدوارها الجادة، خصوصاً وأن الشائع عنها أنها ممثلة كوميدية فقط. في فيلم (دائرة الانتقام)، الذي قدمت فيه دور (فايزة)، والتي ساعدت البطل الذي وقعت في حبه على الخلاص من كل من ظلموه وأدخلوه السجن ظلماً، أبهرت الجميع. كما حدث أيضاً في دور المعلمة صاحبة المقهى في فيلم (الكرنك)، الذي كان أول فيلم يدخلها في مشكلات مع الجهات الرقابية حتى صدر قرار بمنع الفيلم من العرض لفترة لأنه يسيء إلى المجتمع المصري، وهو نفس ما جرى مع تجربتها في فيلم (درب الهوى) الذي جسدت فيه شخصية (حسنية العالمة)".
كما تمردت على جسدها وروحها في كل تلك التجارب، سنجد أيضاً أنها تمردت على الممثلة بداخلها، وسعت إلى تجريب موهبتها كمخرجة
يواصل: "قدمت شويكار أيضاً أدواراً فلسفية ومركبة لم تركن فيها إلى استخدام جسدها، وإنما موهبتها كممثلة فقط، تماماً كما حدث مع فيلم (الشحاذ)، عن رواية نجيب محفوظ، والتي قدمت خلاله شخصية متباينة الانفعالات أشاد بها الجميع، كما انقلبت من جديد على نفسها وقدمت دور (سيدة العمشة) التي تدير منزلاً مشبوهاً، وثار البعض وقتها عليها بحجة أنها لا يصح أن تقدم أدواراً كتلك، بينما دافعت هي عن وجهة نظرها وقالت إن كل مرحلة في عمر الفنان تقتضي أن يختار الأدوار المناسبة، وهو نفس ما جرى مع دورها الجريء في فيلم (طائر الليل الحزين)، وفيلم (الكماشة) الذي لعبت خلاله شخصية (ست الحسن) تاجرة المخدرات، وكذلك فيلم (في زمن الممنوع)، التي جسدت فيه شخصية سيدة تدير وكراً للمدمنين، ولا ينسى لها أحد دورها الفارق في فيلم (العربجي) الذي سجل نقلة نوعية مهمة بشخصية (فكيهة) زوجة سائق العربة الكارو الفقير، الذي تهبط عليه ثروة من السماء تغير مجرى حياته، فيما جسدت كذلك أدوار الشر واعتمدت فيها على وجهها البريء الذي يمكن أن يتحول إلى النقيض وذلك في فيلم (حديث المدينة) حيث قدمت دور فتاة مستهترة تسعى لتدمير حياة لاعب كرة قدم وكان تحولاً مبهراً في مشوارها".
لم تخالف شويكار الزمن ولا المنطق، وارتضت في كل مرحلة أن تتعاطى معها جسدياً بمقومات وتفاصيل المرحلة، هكذا يصفها شلبي، الذي يكمل لرصيف22 : "اختارت أن تلعب دور الأم في أكثر من عمل، رغم أن الكثير من الفنانات يرفضن أمراً كهذا، غير أن تصالح شويكار مع نفسها والزمن جعلها مع كل عام جديد تدرك جيداً أن هذا الخط المائل على وجهها وتلك التجاعيد التي تزحف ببطء لتنهش جمالها اللافت تُحتم عليها الاستسلام أمامها. وربما من هذا المنطلق سنجدها الوحيدة تقريباً التي لم تلجأ إلى عمليات التجميل، وتركت نفسها للزمن يصبغ ملامحها كما يشاء وإن قاومت روحها، فعاشت بقلب الطفلة وعقل المرأة التي اكتسب من السنين خبرات تفوق عمرها بكثير. وقد لعبت شويكار دور الأم ببراعة في فيلم (الأخوة الغرباء)، و(البحث عن طريق آخر) و(أمريكا شيكا بيكا) الذي قدمت فيه دور (الأم دوسة) والذي يعد من أهم أدوارها الفنية وذروة نضجها الفني، ولا يمكن هنا أن ننسى فيلم (كلمني شكراً) حين صدمت شويكار الكل بإطلالتها التي بدت باهتة وعلى عكس الصورة التي طالما حفظها الجمهور عنها، فبدت سيدة كبيرة في السن، لا يشغلها سوى تربية وتقويم ابنها وإعادته إلى الطريق الصحيح".
يختتم شلبي: "حاولت شويكار في هذا الفيلم (كلمني شكراً) أن تدفع بالدور إلى أقصى درجة من المصداقية، فظهرت بالفعل وكأنها سيدة تعيش في منطقة شعبية منذ صغرها. وكما تمردت على جسدها وروحها في كل تلك التجارب، سنجد أيضاً أنها تمردت على الممثلة بداخلها، وسعت إلى تجريب موهبتها كمخرجة، حيث كانت تجهز مع فرقة مسرح التلفزيون لإخراج مسرحية جديدة، ووقتها هاجمها البعض بحجة أنها لم تدرس الإخراج، غير أنها قاومت كل ذلك، قبل أن تنسحب بشكل مفاجئ دون إعلان أسباب ويتوقف المشروع للأبد".
في سنواتها الأخيرة اختارت شويكار الابتعاد عن الأضواء وأن تقضي ما تبقى لها من العمر كربّة منزل، ورغم أنها كانت تتلقى كثيراً من العروض للعودة إلى الوسط الفني، إلا أنها كانت ترفض أي عروض للوقوف أمام الكاميرا حفاظاً على صورتها أمام جمهور طالما عرفها بأنها "البسكوتة" و"الجميلة التي لا يقهرها زمن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...