مداوروش، أو مادور أو ماداريوس، كما كانت تعرف في الأزمنة السابقة، هي المدينة التي تقع على طريق حيوي يربط بين مدينتي عنابة (هيبون) وتبسة (تيفاست)، تتبع محافظة سوق أهراس (طاغاست)، وغير بعيدة عن الحدود التونسية (قرطاج)، تحيط بها العديد من الجبال والغابات والوديان، ذات أراض خصبة ومنابع مائية منوعة وعذبة، ولذلك اختارها الرومان كفضاء لراحة جنودهم القدامى. وقبلهم جعلها النومديون مدينةً تجمع الناس في فضاءاتها وحيزها المميز، كما استقر فيها البيزنطيون، وتركوا فيها بصمتهم مثلما فعلت الكثير من الحضارات التي تناوبت عليها.
تبعد هذه الحاضرة التاريخية عن محافظة سوق أهراس التي تتبعها إدارياً بحوالى 50 كلم، ويعتمد أغلب سكانها على الأعمال الفلاحية التي ورثوها عن أجدادهم الأمازيغ القدامى، لهذا يقومون بزراعة الأراضي وتربية المواشي وما تصل بهذه المهنة. وهو نفس الأمر الذي مارسه من سبقهم لهذه الأرض، خاصة الرومان الذين زرعوا معظم مساحاتها أشجارَ الزيتون ليستفيدوا من زيتها. لهذا وجد علماء الآثار أمام العديد من البيوت وبين تلك الآثار القديمةِ معصرةَ زيت زيتون.
علماء يقتفون الأثر والجمال
بدأ الاهتمام العلمي بمدينة مادور الأثرية بداية من سنة 1843، وهذا بعد أن وقف عليها وعلى آثارها العديد من العلماء الفرنسيين المختصين، ليتم وقتها نشر العديد من المخططات المبدئية حولها عام 1866، وبعد سنوات أخرى من الجهد والبحث المستمر والمقارنة، تمّ وضع مخطط شامل لهذه المدينة عام 1950، وبين تلك الفترات تناوب عليها العديد من الكتاب وعلماء الآثار والمهندسين، قاموا بدراسة المدينة بشكل دقيق، لوضع مخطط لكل معلم، تعكس طريقة بناء الاعمدة والأقواس والفضاءات والأرضيات والتماثيل والسوق وغيرها من تلك الفضاءات التي تشكل في مجملها المدينة، إضافة الى القلعة البيزنطية التي تم بناؤها بعد استلاء البزنطيين على تلك المدينة.
اختارها الرومان كفضاء لراحة جنودهم القدامى، وقبلهم جعلها النومديون مدينةً تجمع الناس في فضاءاتها وحيزها المميز، كما استقر فيها البيزنطيون، وتركوا فيها بصمتهم... مدينة مادور الجزائرية
تتكون مادور حسب المخطط الرسمي من: المسرح، الساحة العامة، البازيليكا القضائية، المجلس البلدي، المعبد، السوق، الحمامات الصغرى والكبرى، الضريح الشمالي، القلعة البيزنطية، الكنيسة المسيحية، الكاردو ماكسيموس، الديكومانوس ساكسيموس، المقبرة الغربية والجنوبية الغربية.
لم تنقطع الجهود الفرنسية في البحث لكشف أسرار مادور لمدة أكثر من قرن وربع، أنفقتها في التنقيب وإزالة الأتربة المتراكمة عليها، وقد تم من خلال هذا اكتشاف العديد من المعالم المهمة، من بينهما الجامعة والحمامات والمسرح والبيوت، لكن المدينة تضررت جداً من خلال القصف الذي تعرضت له من قبل الجيش الأمريكي يوم 16 آذار/مارس 1943 خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي أوجع العلماء الذين تقدموا كثيراً في هذا الموضوع، ما حتّم عليهم العودة وإعادة الترميم من جديد لإبراز وجهها الذي غيّرته القنابل.
تأسست المدينة حسب الدراسات في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو تاريخ غير متفق عليه، ولا يتم حصره بشكل نهائي، ولكن من المؤكد أنها كانت مدينة ثقافة وعلم وأدب عبر العديد من العصور، إذ تناوب على حكمها العديد من الملوك والحكام والحضارات، من بينهم الملك الأمازيغي ماسينيسا (238-148 ق.م)، مؤسس الدولة النوميدية التي كانت عاصمتها سيرتا (قسنطينة حالياً)، لتتحول بعد مدة من الزمن إلى مدينة رومانية لقدماء الحرب بعد سقوط الدولة النوميدية، وهذا مع نهاية القرن الأول للميلاد وبداية القرن الثاني.
تحولت مادور الجزائرية عبر السنوات إلى قطب حضاري وثقافي وأدبي مهم جداً، بعدما صنعت هويتها والشخصية الخاصة بها التي كانت مزيجاً بين الأمازيغ والرومان وشعوب أخرى
وقد انقسمت المدينة وقتها إلى ثقافتين، وُزعت بين منطقتي سيرتا وقرطاج، لكن مادور تحولت عبر السنوات إلى قطب حضاري وثقافي وأدبي مهم جداً، بعدما صنعت هويتها والشخصية الخاصة بها التي كانت مزيجاً بين الأمازيغ والرومان وشعوب أخرى، وجدوا فيها متنفساً علمياً لما كان يدور في خلدهم، بعيدة عن المهام العسكرية والسياسية ومشاغل الحكم والتقلبات التي كانت تحدث بكثرة في تلك المرحلة، لكنها كانت في قلب الصراعات الدينية المختلفة وأقطابها، وقد أنجب هذا الاختلاف والانسجام في نفس الوقت العديدَ من الأسماء المهمة التي بقيت خالدة، وما زال ذكرها على كل لسان، نظراً للدور المحوري الذي أدّاه أصحابُها في حياتهم، والأثر الكبير الذي تركوه في الكتب.
معالم ومشاهير مادور
من أهم الأسباب التي أعطت لمادور شهرتها الكبيرة، هي الجامعة التي تم تأسيسها فيها، إذ كانت من أهم الأقطاب المعرفية في شمال أفريقيا، ومع الوقت تحولت إلى قبلة للأساتذة والطلاب الذين باتوا يأتون لها من كل مكان للدراسة والتدريس فيها، في مجال النحو والأدب والرياضات والبلاغة وغيرها من العلوم الأخرى، خاصة الفلسفة التي تخصصت فيها، وقد خلق هذه التنوع الثقافي والتعليم الجيد العديد من الأسماء المهمة، على رأسهم لوكيوس أبوليوس (125-180م) الذي ولد وتربى ودرس في هذه المدينة، وكتب فيها أول رواية في تاريخ الإنسانية، وهي رواية "الحمار الذهبي" التي قال في مقدمتها:
من أهم الأسباب التي أعطت لمادور شهرتها الكبيرة، هي الجامعة التي تم تأسيسها فيها، إذ كانت من أهم الأقطاب المعرفية في شمال أفريقيا
"أريد أن أضفر لك بأسلوب مميز باقةً من الحكايات المتنوعة، تدغدغ أذنك الصاغية برنين عذب، إذا كنت ممن لا يأنف من النظر في أوراق البردي المصرية، التي كتبتها بقصب النيل، إلى درجة أنك ستعجب كيف يتخذ بعض الناس أشكالاً غريبة ثم يستعيدون صورهم الأصلية على وجه مغاير. وها أنذا أبدأ حكاياتي، لكني أراك تتساءل: من هذا يا ترى؟ اعلمْ إذاً باختصار: أن جبال هيميتوس في أتيكا، وإيتيموس المجاورة لإيفيرا، وتيناروس في بلاد الإسبرطيين، تلك البروج البديعة، التي خلدت في كتب رائعة، هي موطن سلالتي، فهناك أخذت وأنا طفل صغير مبادئَ اللغة الأتيكية، وانتقلتُ بعد ذلك إلى مدينة لاتيا، وأجهدت نفسي في تعلم لغة الرومان إلى أن أتقنتها. لذلك أرجو أيها القارئ، أن تعذرني إن أنا تعثرت في هذه اللغة الأجنبية من حين لآخر. مع ذلك فإن هذه الرطانة مناسبة للهدف الذي وضعته نصب عيني، وهو التسلية. إن هذه الحكاية، التي سأبدأ بروايتها، يونانية الأصل. فانتبه، فإنك ستنال حظك من التسلية!".
ولم يكن الأدب وحده ما كان يشغل لوكيوس أبوليوس، بل كان كاتباً موسوعياً، أتقن العديد من العلوم والفنون الأخرى، من بينها البلاغة والخطابة والموسيقى والطبيعة والفلسفة وغيرها، ليصبح من بين أهم الأسماء الثقافية والأدبية التي تركت بصمةً مميزة في تاريخ الإنسانية، ورغم رحلاته المتعددة لأهم عواصم العالم، غير أن فخره الدائم كان يعطيه لمدينته مادور التي كانت بالنسبة له أكثرَ من وطن.
ومن الشخصيات الأخرى المهمة التي درست ودرّست في مادور، هو الكاتب والفيلسوف وعالم الجمال القديس أوغسطين (354م-430م) ، أو أوغسطينوس ابن دموعها كما يسمى، وهو من أهم الشخصيات الدينية المؤثرة في المسيحية، أعماله وكتبه أثّرت بشكل كبير في الفكر الغربي وفي العالم المسيحي، ولقد توفي عندما هاجم الوندال مدينة هيبون وهو في عمر الـ75. وقد اعتنق العالَمُ العديد من أفكاره الفلسفية والجمالية.
وقد ولد القديس أوغسطين في مدينة طاغاست (سوق أهراس)، ومن بين المناطق التي تدلّ عليه في هذه المدينة، هي شجرة الزيتون التي كان يجلس ويتعبد ويدرّس تحتها، وقد اكتشفتها البعثة الفرنسية عام 1843، كما تم دفن والدته القديسة مونيكا بجانبها. وقد تم تأهيل هذا المعمل السياحي الذي كان مهملاً عام 2005، بالتنسيق مع خبراء من إيطاليا، حيث بنوا متحفاً صغيراً بهندسة معمارية مميزة، إضافة إلى تسييج شجرة الزيتون لحمايتها من أي عامل.
كما ترك الأديب والرجل الثري مارتيانوس كابيلا (360م–428م) المنسوب إلى مادور، إرثاً أدبياً واسعاً، ومنوعاً في الأسلوب والمقاصد، إضافة إلى العديد من الشخصيات الأخرى التي نشأت في هذه المدينة.
ورغم الإرث الكبير الذي يكمن في كل حجر من أحجار مدينة مادور وزواياها، غير أنها منطفئة حالياً وغير متوهجة، لا يتم استغلال ما فيها من آثار ومن زخم، فقد تحولت مع الوقت إلى مدينة إسمنتية ومزرعة عمارات، تفتقر كثير من المباني إلى جمال المظهر، على خلاف الإرث الجمالي والثقافي الذي كانت عليه، والذي لا يزال الكثير منه باقٍ إلى غاية اليوم، شاهداً على عظمة الإنسان المادوري الذي استوطن تلك الرقعة الجغرافية المهمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع