تحمّست كثيراً حينما علمت بحصولي على تأشيرتي الأولى للسفر. السّفر إلى بلد عربي يعني عوائق أقل، حاولت حصرها في ذهني حتى لا يقف شيء في طريق مُتعتي.
لم يكن الأمر بالسهولة التي اعتقدتها، فرهبة تجربة المطار الضخم لكازبلانكا مع صعوبة اللهجة على أذني المصريّة وازدحام المسافرين أصاباني بالقلق. رغم محاولات مسؤول الجوازات إيضاح حديثه، إلا أنني كنت قد دخلت بالفعل في شرنقة ذهنيّة تحيل اليسير إلى صعب. انتهيت وكأن الحديث حولي في مكان آخر، وبدأ حوار مطول في ذهني حول فشل الرحلة قبل بدايتها، لكن خوفي سرعان ما تبدّد واكتشفت تفاصيل "لذيذةً" من رحلتي إلى بلد عربي.
حين نحمل حقائبنا نحمل معها توقّعاتنا من الرحلة، ونتأرجح في البداية بين الاختلافات الثقافية واللغوية، وحتى ما يخص الطعام، وغيرها من التفاصيل، إلا أن الرحلة التي تكون في البداية مشاهد خياليةً، تتحول تدريجياً إلى تفاصيل واقعية. في قصتنا ثلاثة أشخاص سافروا إلى واحدة من الدول المغاربية "تونس"، أصولهم جميعاً من دول مشرقية: مصر، الأردن، وفلسطين. في قصة كل منهم ملمح خاص واكتشاف لبلد الياسمين للمرّة الأولى.
أكرموني لأجل "أم كلثوم"
منذ لجظة الوصول، لم يشعر "محمد الكومي"، 32 سنةً، بالغربة. فولعه بالفن التونسي سمح له بفهم اللغة سريعاً والتحدث بها، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لزوال شعور الغربة، فالأصوات المصرية تحاصره في كل مكان، المقاهي، المواصلات العامة، الشوارع وغيرها. كان صوت المطرب المصري "عمرو دياب" أول ما لفت انتباهه في إحدى المركبات العامة. لم يستوعب في البداية ما يحدث، تخيل وكأنّ أحدهم يعلم بوجوده وقرر أن يرحّب به، لكن مع تكرار الموقف فهم أن الفن المصري جزء من الحياة اليومية لتونس بشكل لم يكن يتوقعه.
سعى الشاب المصري إلى البحث عن الاختلاف، فوجد بُغيته في الطعام. يقول لرصيف22، إن "الهريسة" أو "الشطة الحارة" مكون أساسي في أغلب الوجبات، وهو ما لم يعتد عليه. وبرغم كراهيته للطعام الحارّ أحبّ النسخة التونسية منه، فكان طبق الـ"كَفتَاچي" صديقه اليومي طوال رحلته الممتدة لشهر تقريباً، موضحاً أن المطبخ التونسي يختلف تماماً عن المصري فهناك خلطات غريبة رآها للمرة الأولى مثل التونة مع البيض المسلوق في "صحن تونسي"، والكسكسي مع السمك في "كسكس بالحوت"، أو الكسكسي مع اللحم في "كسكس بالعلّوش" (اللحم)، إلا أنه مقبول وغير مُنفّر، بل لذيذ عكس ما يخيّل إلى من لم يتذوقه من قبل.
رغم كراهيته للطعام الحارّ أحبّ النسخة التونسية منه، فكان طبق الـ"كَفتَاچي" صديقه اليومي طوال رحلته الممتدة لشهر تقريباً
ضعف النزعة الذكورية والإعلاء من شأن المرأة، كانا من الأشياء اللافتة لنظر مُحمد، كذلك الانفتاح الكبير على الثقافات المختلفة وسماعهم أغنيات بكل اللغات واللهجات تقريباً، بالرغم من إنتاجهم الغنائي الثري، حسب حديثه إلى رصيف22، موضحاً أن متابعتهم للأفلام والمسلسلات المصرية جعلته محط اهتمام بين الجميع فدائماً ما يقال له: "أنت بتحكي كيما التلفزيون".
حضور "إفيهات" الفنانَين عادل إمام وحسن حسني في استقبال الكومي، حينما يعلم أحدهم بمصريّته، دفعه لتفادي الحديث باللهجة المصرية الواضحة تجنباً للحرج. يقول لرصيف22، إن الشعب التونسي مضياف ومُحب للمصريين بدرجة كبيرة، ويروي موقفاً مع سائق تاكسي اكتشف من لهجته أنه مصري، فراح يردد طول الطريق جملة: "ده أنا غلبان"، من مسرحية "شاهد ما شفش حاجة"، بطريقة الفنان عادل إمام.
الموظف أوضح له أنه من غير المسموح أن يُخرج البنك عملات أجنبيةً، سواء يورو أو دولار، "لكنه فعل ذلك لأجلي حبًاً بأم كلثوم"
لم يتخيل محمد أن تتوسط له الفنانة الراحلة أم كلثوم بعد وفاتها بأكثر من 40 عاماً، فيقدّم له موظف البنك استثناءً، حباً فيها، ويقرر أن يحوّل له 100 يورو فقط من أصل 500، ويردّ الباقي في صيغته الأساسية، وعن ذلك يقول لرصيف22، إن الموظف أوضح له أنه من غير المسموح أن يُخرج البنك عملات أجنبيةً، سواء يورو أو دولار، لكنه فعل ذلك لأجلي حبًاً بأم كلثوم.
توالت المواقف بين شباب في مقهى علموا بمصريته، فرحبوا به وطلبوا أن يجالسهم ليسألوه عن الشيخ إمام، فيكتشف وجود نادٍ لمُحبّي الشيخ في تونس. واستمر الحديث حول أحمد فؤاد نجم وغيره من الشعراء الذين تعاونوا مع إمام، إلا أن أكثر المواقف تأثيراً فيه كان حين أفصحت لهجته عن كونه مصرياً أمام رجل مُسنّ في تونس، ليحتضنه قائلاً: "أقف احتراماً للأزهر والنيل والأهرامات وأم كلثوم"، وحكى له عن أيام عمله مدرّساً للّغة الفرنسية في مصر فترة الثمانينيات واشتياقه الشديد إلى زيارتها.
اشتهر الكومي في منطقة سكنه، بالمصري أو الأهلاوي، فكانت الأولى سبباً لتخفيض أسعار المنتجات والثانية سبباً لتقديم مشروبات مجانية في المقهى من محبّي علي معلول، المحترف في النادي الأهلي، موضحاً أن الأمر لم يخلُ من "المشاكسة الكروية" أحياناً، مرجعاً ذلك إلى الندّية بين فريق الأهلي والفرق التونسية في البطولات الإفريقية.
تحمّس محمد كثيراً حين عرض عليه صديق حضور عُرس تونسي. رغب في مشاهدة طقس خاص يعبّر عن ثقافة البلد وشعبه، إلا أنه فوجئ بالفرقة الموسيقية تعزف أغنيات مصريةً وأن زفة العروسين كانت على أغنية "دقوا المزاهر يا أهل البيت تعالوا، ونازلة السلالم يا ما شاء الله عليها". نظر حينها إلى صديقه الذي أخبر الجميع بأن في الفرح مصري، فرحبوا جميعاً به وسألته المطربة عن رغبته في سماع شيء بعينه ليرد: "والله نفسي أسمع تونسي أنا من يوم ما جيت بسمع مصري"، ليضحك الجميع وتدعوه المطربة لمشاركته غناء أي أغنية تونسية يعرفها وشاركها في أداء أغنية "سمرا يا سمرا"، لهادي الجويني.
اختلاف مواعيد إغلاق المقاهي والمتاجر كان الأزمة الكبرى في رحلة الشاب القاهري، الذي اعتاد البقاء في المقهى حتى الساعات الأولى من الصباح. يقول لرصيف22، إنه لم يكن مُستساغاً بالنسبة له أن يُغلق البلد أبوابه مُبكّراً فمنذ الثامنة مساءً تتوقف المواصلات العامة، وأغلب المقاهي تُنهي عملها في العاشرة وفي حد أقصى مُنتصف الليل، ذاكراً أنه كان في زيارة و10 أصدقاء بينهم أوروبيون لمدينة "الجم" في ولاية المهدية، وحين اقتربت الساعة من الخامسة مساءً، نبّههم صديق تونسي إلى ضرورة التحرك قبل توقف المواصلات وبالفعل تحركوا إلى الموقف ليجدوا سيارةً واحدةً تتسع لثمانية أشخاص فقرروا أن يبقى 3 من العرب قضوا الليلة كاملةً في الشارع حتى السادسة من صباح اليوم التالي.
للقدس معزّة خاصة
بين ملاحظة الاختلاف الفكري الأكثر انفتاحاً واستقبال الحب والهدايا، قضت وفاء ياسر (24 عاماً)، وهي طالبة ماجستير فلسطينية رحلتها في تونس. ترى في حديثها إلى رصيف22، أن الناس في تونس يتميزون بحبهم للحياة فهم أكثر إقبالاً عليها، وأقل إصداراً للأحكام تجاه سلوكيات الآخرين.
استوعبت ياسر الفارق بين مجتمعها المحافظ والمجتمع التونسي الأكثر انفتاحاً، حسب وصفها، فذلك لم يُشكّل أي عائق بالنسبة إليها ولم تنشغل به. فالجو العام للمجتمع وطبيعته المُقدِّرة للآخر وما يعتقده خلق مساحة من اللطف دفعتها لحب البلد وأهله، موضحةً أنه لم يكن هناك شيء يُثير الدهشة سوى جمال تونس الذي لم تتوقع أن يكون إلى هذا الحد، وهو ما فاجأها.
حضور الشباب في الفضاء العام وحريتهم في الحديث والتعبير عن ذواتهم، كانا أكثر ما لفت انتباه وفاء صاحبة القضية الفلسطينية، كغيرها من أبناء وطنها، فأينما تواجدوا يحملونها بين ضلوعهم. توضح لرصيف22، أنها شعرت بأن الشباب في تونس أكثر سيطرةً على البلد من غيرهم، عكس بلدها حيث كبار السن هم من يتحكمون في كل شيء ليظهر الشباب في ثوب التابع.
حضور الشباب في الفضاء العام التونسي وحريتهم في الحديث والتعبير عن ذواتهم، كانا أكثر ما لفت انتباه وفاء صاحبة القضية الفلسطينية
كان للقضية الفلسطينية حضور كبير طوال الرحلة، فلطالما سمعت الفتاة الفلسطينية عن اهتمام العرب بقضيتهم ودعمهم الكامل لها، إلا أن ذلك لم يتجسد بهذه الصورة أمامها من قبل، فأظهر الجميع لها الكثير من الحب والتعاطف مع الفلسطينيين وهو ما أسعدها كثيراً. تقول لرصيف22، إنها كلما دخلت إلى محل حصلت على هدية مجانية، فضلاً عن الكثير من الثناء، ذاكرةً موقفاً أثّر فيها كثيراً حين أخبرت أحد الباعة بأنها فلسطينية، فرحب بها ترحيباً شديداً وأظهر لها علم فلسطين الموجود في محله دلالةً على تضامنه مع قضيتها.
بين البحر واليابسة
الابتسامة المرسومة على الوجوه في الصباح الباكر، كانت علامة الجودة للشعب التونسي، وفق رأي أحمد عطية (30 سنةً)، وهو مهندس معماري أردني، فالاختلاف بين البلدين لم يكن صادماً بالنسبة إليه، ففي النهاية هما بلدان عربيان يجمعهما مستوى اقتصادي متقارب، بحسب رأيه. يوضح في حديثه إلى رصيف22، أن الناس في تونس "مروَّقة" وهو ما لم يرَه في الأردن فلا يمكنك أن تتحدث مع أحد قبل تناوله قهوته الصباحية.
برغم التقارب من الناحية الحضارية، وفي طبيعة الشوارع، إلا أن البنية التحتية في الأردن تتفوق على تونس، وفق رأيه. لكن في النهاية المُحصلة واحدة فالفارق يظهر في الطبيعة بين تونس الخضراء والأردن بطبيعته الصحراوية. يقول عطية في حديثه إلى رصيف22، إن الأردن يضمّ بعض الوديان ومصادر المياه لكن طبيعة الجو صحراوية، وفي تونس يمكنك رؤية اللون الأخضر في أي مكان، وهو ألطف ما رأيت.
كانت العلاقة بين البحر واليابسة الأكثر إبهاراً لأحمد في رحلته، موضحاً أنه تواجد في مدينة سوسة وهي منطقة صحراوية في جنوب تونس، و"بعد خطوات من السّير وجدت نفسي أمام البحر، تكرّر الأمر في بنزرت شمال البلاد، وهي مدينة خضراء سرعان ما تحملك قدماك منها إلى شاطئ البحر، فالتنوع الجغرافي كان شيئاً جديداً لم أرَه من قبل".
يضمّ الأردن بعض الوديان ومصادر المياه لكن طبيعة الجو صحراوية، وفي تونس يمكنك رؤية اللون الأخضر في أي مكان، وهو ألطف ما رأيت
امتدت علاقة الشاب الأردني بالبحر فاصطحبه الأصدقاء في رحلة إلى الميناء لشراء الأسماك الطازجة وشيّها وكانت تجربةً يعيشها للمرة الأولى. يقول لرصيف22، إنها تجربة جميلة جداً بكل تفاصيلها. إلا أن أكثر ما لفت انتباهه هو تكلفة الوجبة التي ضمت أنواعاً كثيرةً من الأسماك وبلغ سعرها نحو 25 ديناراً تونسياً، أي ما يساوي 5 دنانير أردنية، موضحا أن سعر الوجبة ذاتها في الأردن قد يصل إلى 40 ديناراً، أي ما يُقارب 200 دينار تونسي.
يرى عطية أن المجتمع الأردني أكثر انغلاقاً من نظيره التونسي، في طبيعة العلاقات والهيئة العامة للناس سواء في الملابس أو طريقة الحديث واللغة، موضحاً أن تونس أكثر تأثراً بالمجتمع الغربي، خاصةً فرنسا، نتيجة الاحتلال. فبرغم وقوع الأردن تحت الانتداب البريطاني لسنوات لكنه لم يتأثر من الناحية الثقافية كما تأثرت تونس باللغة الفرنسية التي اندمجت بشكل كبير في لغة أهل البلد، مُضيفاً أنه لم يشعر بأن أحداً عامله بفوقية لكونه يتحدث لغةً أخرى، كذلك لم يتعرض للنصب طوال رحلته.
لم يغِب التأثير الغربي على الطعام في تونس، ويوضح أحمد لرصيف22، أن وجبة الإفطار في الأردن تعتمد على الخبز والأطعمة المختلفة والشاي، بينما يقتصر الفطور التونسي على وجبات سريعة قوامها مخبوزات مُحلّاة وقهوة "إسبريسو" وغيرهما، مضيفاً أن الوجبات التونسية تختلف كثيراً عن المطبخ الأردني إلا أن ذلك لم يُشكّل له عائقاً فهو يحبّ التجريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع