يتسلّح التونسي في كل الأحداث التي مرت بها البلاد، ابتداءً من اندلاع شرارة الثورة أواخر سنة 2010، وصولاً إلى جائحة كورونا وأزمة نقص المواد الغذائية الراهنة، بتخزين المواد الأساسية في المنزل.
أهم السلع المعيشية التي يخزّنها: الطحين والمعجنات والحليب والزيت والسكّر. هي عادة دأب عليها المواطن كرهاً لا طوعاً، فشبح الخوف من فقدان هذه المواد الغذائية التي لا غنى للمطبخ التونسي عنها يولّد "اللّهفة"، وهو السلوك الاستهلاكي الذي ينتهجه المواطن في الفترة الأخيرة حتى وإن كلّفه ذلك تحمّل أعباء مصاريف إضافية هو في غنى عنها، خاصةً في شهر رمضان الذي تزداد فيه عادات الاستهلاك.
مؤونة مفقودة
في السابق، كانت العائلات التونسية لا تستغني عن المؤونة، ولا يكاد يخلو منزل من "غرفة مُونَة" يتم فيها تخزين مواد استهلاكية ضرورية تُستعمل طوال السنة، وتكون منتجات منزليةً مئة في المئة، مثل "الكسكسي، البسيسة، البرغل، البهارات، وزيت الزيتون...". وتُخزّن هذه المواد في جرار فخارية لحفظها من التلف. لكن مفهوم تخزين المواد الغذائية تغيّر مع تغيّر الأوضاع، فحالياً يتم تخزين المواد المعلبة بهدف تلافي النقص الذي يمكن أن يحدث خلال فترات فقدانها، وتتعرض هذه المواد أحياناً للتلف بسبب عدم الاستعمال وسوء التخزين ويُلقى بها في القمامة برغم ارتفاع سعرها.
المواطن التونسي يتحمّل جزءاً من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع اليوم، وذلك بسبب غياب ثقافة الاستهلاك ومحدودية الوعي بحقوق المستهلك
فقدان المواد الغذائية ليس الدافع الوحيد وراء لهفة التونسي على الاقتناء والتخزين، فهناك عوامل أخرى تُضاف فتزيد من تعقيد الأزمة، من بينها الشائعات التي تُبثّ على مواقع التواصل الاجتماعي خاصةً، وتفيد بإمكانية حدوث انقطاع في مادة معينة، فيُقبل التونسي على اقتنائها بكميات كبيرة حتى تُفقد تماماً من السوق. لكن ما يلفت الانتباه مؤخراً، هو تطبيع التونسي مع ظاهرة النقص في المواد الاستهلاكية، نظراً إلى عوامل عدة أهمها تعدّد المواد التي تشهد نقصاً، وارتفاع الأسعار، مما يجعل المواطن عاجزاً حتى عن توفير قوت يومه.
" لم يعد قادراً على ممارسة هواية اللهفة"
"كان يفصلنا أقل من شهر على قدوم شهر رمضان، لكني لم أحسن الاستعداد لهذه المناسبة المهمة كما في السابق. ليس بتقصير مني لكن تكاليف الإعداد لشهر الصيام ارتفعت بشكل يفوق قدرتي على مجاراة نسق هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار. التحضير لشهر رمضان بالنسبة لي ينطلق من تجديد أواني المطبخ إلى تحضير الحلويات و"العولة"، وصولاً إلى اللحوم والخضروات والغلال التي أقتنيها قبيل حلول الشهر بأيام معدودة لتكون طازجةً. لم أفكر هذه السنة في أي تحضيرات أو ترتيبات واكتفيت بالتسوق بشكل يومي وفقاً لما يتلاءم مع ميزانيتي"؛ تقول منال، الخمسينية، وهي ربّة بيت وأم لأربع أطفال خلال حديثها إلى رصيف22، عن تغيّر سلوكها الاستهلاكي في الظرف الراهن الذي تمر به البلاد والذي يتسم بارتفاع غير مسبوق في الأسعار، بالإضافة إلى فقدان مواد أخرى. منال عيّنة من شريحة كبيرة في المجتمع التونسي سئمت "الركض" وراء السلع المفقودة، واستنزفها غلاء الأسعار المتواصل وتفاقم ظاهرة الاحتكار والبيع المشروط.
فقدان المواد الغذائية ليس الدافع الوحيد وراء لهفة التونسي على الاقتناء والتخزين، فهناك عوامل أخرى تُضاف فتزيد من تعقيد الأزمة
يقول الأستاذ في علم الاجتماع سامي نصر، إن استهلاك التونسي يتّسم باللهفة في الحالات العادية، لكن ما يلفت الانتباه في الفترة الأخيرة هو غياب اللهفة أو وجودها بنسبة أقل من المتوقع عند الحديث عن أزمة فقدان مواد غذائية وارتفاع الأسعار، مشيراً إلى أن التونسي لديه "فوبيا" من فقدان المواد الأساسية، ولو لم يحدث تحوّل في سلوكه لواجهنا العديد من الإشكاليات المتعلقة بالتهافت على الاقتناء والتسوق.
ويضيف نصر في حديثه إلى رصيف22، أن غياب اللهفة يفسَّر بتعدد المواد المرجح فقدانها، وتالياً لا يعرف التونسي على ماذا سيقبل، فكل البضاعة تقريباً أصبحت عرضةً للفقدان من السوق، زيادةً على أن القدرة الشرائية للتونسي تضررت ولم تعد له القدرة على ممارسة هواية "اللهفة" التي تستوجب رصد مبالغ مالية مهمة. أمّا السبب الثالث، فهو التطبيع مع الزيادات ووضعية السوق اليوم. والملاحظ أن المواطن لم يعد يتذمر وهو بصدد مقاومة الوضع الراهن بالنكت الشعبية التي تنتشر كلما كبرت الأزمة، وهو ما يعرف بسوسيولوجيا النكت الشعبية، وهي محاولة لقهرِ القهرْ ومقاومة مرارة الوضع الذي يرفضه.
"رد اعتبار للمستهلك"
إذا كانت الحكومات المتعاقبة تتحمل مسؤولية الارتفاع الحاد والمستمر في جميع المواد الأساسية وإخفاقها في السيطرة بصفة كلية على ظاهرة الاحتكار والتصدي لها، فإن المواطن التونسي يتحمّل جزءاً من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع اليوم، وذلك بسبب غياب ثقافة الاستهلاك ومحدودية الوعي بحقوق المستهلك. الشيء الذي دفع العديد من المنظمات المدافعة عن المستهلك، إلى وضع إستراتيجيات ناجعة هدفها إرساء ثقافة الاستهلاك الرشيد ومناهضة كل أشكال الغش والاحتيال والاحتكار.
يواجه المستهلك التونسي منذ مدة، إشكاليات متعددةً نتيجة فقدان بعض المواد الغذائية، وتتعقّد الأمور في شهر رمضان، ومن بينها البيع المشروط. فلكي يتمكن المواطن من اقتناء علبة حليب يضطر إلى شراء مشتقاته من "ياغورت" وجبن وهو سلوك دأب على ترسيخه الباعة في ذهن المواطن الذي أصبح يرضخ لمثل هذه الممارسات الاحتكارية بهدف الحصول على أحد المنتجات المفقودة.
تعمل وزارة التجارة التونسية، بالتوازي مع شهر رمضان، على مكافحة الرفع من الأسعار والتحكم في جميع الممارسات الاحتكارية كما تسعى إلى ترشيد الاستهلاك ومقاومة ظاهرة التبذير
يؤكد رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك عمار ضيّة، أن ثقافة الاستهلاك ليست درساً يُعطى في حصة دراسية وتحصل الفائدة للمواطن بل هو عمل وبرنامج وإستراتيجية كاملة تشمل الجميع على اعتبار أن الثقافة الاستهلاكية تعني العلاقة التي تربط بين البائع والمشتري وبين مقدم الخدمات والمنتفع بها، مشدداً على وجوب العمل على تغيير السلوكيات الاستهلاكية ليتعرف المواطن على القوانين التي تحميه ويتعرف على الخدمات أو المنتوج الذي سيتحصل عليه، كما يتوجب على بائع الخدمات أن يتفاعل ويحترم زبائنه لدوام مؤسسته.
ويرى محدث رصيف22، أن الثقافة الاستهلاكية فيها رد اعتبار للمستهلك كإنسان، وتضمن حقوقه في السعر والجودة التي تستوجب تفعيل التنافس لضمان جودة في صالح المواطن، مضيفاً أن "الثقافة الاستهلاكية في هذه المرحلة صعبة. عندما توجد أزمات أو جوائح تكثر الإشكاليات. ولكي تكون السوق متوازنةً، يجب أن تكون المنتجات أكثر من الطلب لكن عندما يحدث العكس تبرز مشكلات المضاربة والبيع المشروط والاحتكار. والحديث عن قضايا فقدان المواد الغذائية يخلق لدى المستهلك نوعاً من الاستباق، فيقبل على شراء منتجات تزيد عن حاجته. وعليه، وجب الحذر من هذه الممارسات، فأحياناً تُخفى عمداً كميات من السلع لخلق اللهفة أو بث الشائعات ليصبح الإقبال أكثر من متطلبات المستهلك. على المواطن التحكم في العملية الشرائية وانتهاج ثقافة المقاطعة إذا تطلب الأمر".
"عقوبة الممارسات الاحتكارية كبيرة"
الممارسات الاحتكارية ورفع الأسعار آفتان تنخران المجتمع التونسي منذ عقود، برغم المحاولات المتكررة للتصدي لها وتشديد عقوبتها. وكان الحبيب بورقيبة، قد تناولها في أحد خطاباته الشهيرة.
تعمل وزارة التجارة خاصةً، بالتوازي مع شهر رمضان، على مكافحة الرفع من الأسعار والتحكم في جميع الممارسات الاحتكارية كما تسعى إلى ترشيد الاستهلاك ومقاومة ظاهرة التبذير أو تخزين المواد في ما يعرف باللهفة التي تؤثر على السوق بأكملها.
يشير المدير العام للمعهد الوطني للاستهلاك عبد القادر التيمومي، إلى أن حقوق المستهلك يضبطها القانون عدد 117 لسنة 1992، والقانون عدد 36 لسنة 2015، المتعلقين بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار، لافتاً إلى أن هذه القوانين تضمن حقوق المستهلك من حيث إشهار الأسعار وتقديم المعلومات عن المنتجات حتى أن المواطن بإمكانه المطالبة بفاتورة مهما يكن سعر المنتوج، والتاجر مطالَب بتقديمها.
تابع التيمومي، في حديثه لرصيف22، قائلاً: "من حيث الممارسات في هذا الظرف الاقتصادي الحالي الذي يتسم بوجود بعض الإشكاليات، فلا يمكن أن تشهد المنتجات الاستهلاكية نقصاً. والإشكاليات المتعلقة بالتزويد تتعلق بممارسات أصبحت عادةً على غرار البيع المشروط الذي يقبل به المواطن في حين أن عقوبة هذا السلوك كبيرة، وتُعدّ من الممارسات الاحتكارية التي تتلخص في ثلاثة أشياء، هي إخفاء بضاعة والامتناع عن البيع والبيع المشروط. على المواطن أن يلعب دوره في الإعلام عن هذه الممارسات الاحتكارية وألا يخضع لهذه الشروط التي يستغلها التجار لبيع منتجاتهم، وكذلك التاجر الذي يخضع لمثيلاتها من قبل الصناعيين".
كما لفت إلى أن وزارة التجارة تشتغل حالياً على الممارسات الاحتكارية، وهي بصدد القيام بحملات مراقبة مشتركة سواء بالمعلومة أو عرضياً، مشيراً إلى أن المراقبة تكون لدى الإنتاج وفي الطرقات وفي مسالك التوزيع.
ورأى التيمومي، أن السلوك الاستهلاكي للتونسي حسب الدراسات التي أنجزها معهد الاستهلاك، يتسم بزيادة الوعي من خلال مطالبته بحقوقه وتحسين نسق الاستهلاك، لكن الإشكالية في التبذير الغذائي في المنتجات اليومية على غرار الخبز، مشيراً إلى أن التونسي لا يعطي قيمةً للآثار الجانبية للتبذير برغم انعكاسها السلبي على جيب المواطن وعلى المصلحة الوطنية، وتبعاً لذلك قرر المعهد بث إعلانات للتوعية في شهر رمضان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...