"بعد فترة من الخطوبة دامت 4 سنوات، لم يعد يسعني الانتظار أكثر. يجب أن نتزوج هذا الصيف. ليس هناك بدّ من الانتظار فالأسعار في ارتفاع مستمر"؛ هكذا تحدث الشاب وسيم (39 عاماً)، وهو عامل في أحد مصانع الملابس الجاهزة.
محدّثنا خطب حنان، ذات الثلاثين ربيعاً، قبل سنوات، وقد طالت فترة الخطوبة بسبب عدم جاهزية العروسين، فقرّرا الزواج في شهر تموز/ يوليو 2023. تمكنّا من شراء الأثاث وجمع بعض مصاريف الزفاف، ولكن ماذا عن شراء الذهب الذي يقدَّم هديةً للعروس؟ فـ"المصاغ" (الحليّ الذهبية)، قاعدة ثابتة في الزواج التونسي، ومن "العيب"، بل من "الفضيحة"، ألا يقدر العريس على شراء الحليّ الذهبية لعروسه، و"فضيحة" للعروس وعائلتها التي رضيت بالزواج بلا ذهب.
ألا يعلم هذا المقبل على الزواج بـ"ذات الحسب والنسب"، أنّ عدم قدرته على شراء الهدايا الذهبية، "يُعدّ انتقاصاً من قيمته كرجل"، كما تريد الأفكار النمطية للمجتمع؟ ألا تعلم هذه الفتاة أنّه "من العيب"، دوماً وفق الأفكار نفسها، أن ترضى بهذا؟ إنّه مهرها وحقّها وسندها في المستقبل، في مستقبل هذا الزواج الذي لا يعلم أحد إلى متى سيستمر؟ فصهرٌ لم يقدر على تأمين الحليّ الذهبية لزوجته، لا يؤتمن على حياتها معه.
هذا جزء من الثرثرة وأفكار ما زالت مترسخةً في الذهنيات، تتكرّر كلما عرف المحيط القريب والبعيد أن زواج إحدى الفتيات قد تمّ من دون أن يشتري الزوج هذا المهر "الغالي" لزوجته.
تقنيات "الخلاص"
يسعى عدد من الشبان والشابات المقلبين على الزّواج إلى لجم هذه "الألسن السامة"، وفي الوقت نفسه للرفق بالميزانيّة المعدّة للزّواج، فما الطريقة يا تُرى؟ محدّثنا وسيم وجد الحل كغيره من الشبان التونسيين الذين أصبحوا يقبلون على تقنية تسدّ الأفواه وتحمي الجيوب، هي تقنية استعمال المجوهرات المطليّة بالذهب لادّعاء احترام الطقوس المجتمعية من دون الوفاء بها.
لم يعد سرّاً أنّ فئةً كبيرةً من الشباب المقبلين على الزواج، اختاروا ما يوصف بـ"الذهب المزيف" وهو كناية عن مجوهرات تطلى بقشرة خفيفة من الذهب، وقد يعتقد الرائي الذي لا يملك عين الخبير، أنها ذهب حقيقي. من الشباب من يخفي "السرّ" جيّداً، لتفادي الثرثرة والأقاويل ومنهم من يكون الأمر عنده علنيّاً، حسب البيئة التي ينتمي إليها ومدى التأثر بالموضوع.
قرر وسيم الاكتفاء بشراء خاتم الخطوبة وخاتم الزواج من الذهب الخالص، بينما القلادة والأساور من الذهب المطلي. يقول: "لا تبدو المجوهرات مختلفةً، ولا يمكن اكتشافها. هناك حرفيّة وإتقان كبيران بشكل يجعلان المتأمل في الحليّ لا يتبيّن الفرق".
لم يعد سرّاً أنّ فئةً كبيرةً من التونسيين المقبلين على الزواج، اختاروا ما يوصف بـ"الذهب المزيف" وهو كناية عن مجوهرات تطلى بقشرة خفيفة من الذهب، وقد يعتقد الرائي الذي لا يملك عين الخبير، أنها ذهب حقيقي
اتفق وسيم مع خطيبته حنان، على أن يكون الأمر سرّاً بينهما، لأنّ العائلة لن توافق على هذا الزواج من دون حليّ من الذهب الخالص يرضي غرور الأم والخالة والعمّة وأبناء العمّات والخالات والأصهار، ويثقل كاهل الشاب.
ترى خطيبته حنان أنه "ليس مهماً أن أشتري مصاغاً، فأنا لا أحبّذ ارتداءه إلا في المناسبات وسأكتفي مثل غيري من المتزوجات بارتداء خاتمَي الخطوبة والزواج. يكفيني إتمام شقّة الزواج التي ستضمّنا طوال العمر وشراء الأثاث وبقية متطلبات المنزل، فهي أمور صعبة جداً هذه الأيام نظراً إلى غلاء الأسعار.
"الحب هو الذهب"
لينا وشادي شابان في مقتبل العمر، إذ يبلغ من العمر 32 عاماً بينما تبلغ هي 25 عاماً. قرّرا الزواج هذه السنة، وعدم شراء الحليّ الذهبية، بل الاكتفاء بما صار يُعرف بـ"الذهب المزيف"، وغالباً ما يسمّى في أوساط الناس باسمه الفرنسي، Plaqué d’or أي "المطليّ بالذهب".
تقول لينا: "من الأفضل شراء 'الذهب المزيف'، لأنّه يضمّ جملةً من القطع الجميلة وشخصيّاً أجد ضالتي بين هذه القطع أفضل من الذهب الخالص الذي أرى أنّه ليس جميلاً وباهظ الثمن في الوقت نفسه".
تضيف: "عائلتي وعائلة خطيبي لا تهتمان بهذه التفاصيل حول المصاغ والأمر يُعدّ خاصّاً جدّاً".
لينا وشادي شابان في مقتبل العمر، يبلغ من العمر 32 عاماً بينما تبلغ هي 25 عاماً. قرّرا الزواج هذه السنة، وعدم شراء الحليّ الذهبية، بل الاكتفاء بما صار يُعرف بـ"الذهب المزيف
شادي مهندس متخصص في المعلوماتيات، يعمل منذ فترة في إحدى الشركات الخاصّة، ويستعدّ لمغادرة البلاد خلال الأشهر القادمة إلى وجهة أوروبيّة للعمل هناك، لذلك يرى أنّ العديد من الأولويات في الزواج لدى المستقرّين في تونس، أمور ثانويّة بالنسبة له ولخطيبته، وأن الأهم في علاقتها التفاهم والحب.
نيران أسعار الذهب
سعر أونصة الذهب في تونس 5،839.29 ديناراً تونسياً، أي نحو دولارين للأوقية في هذه الفترة، وسعر غرام الذهب تقريباً هو 188 ديناراً تونسياً (نحو 60 دولاراً) للغرام عيار 24، و177 ديناراً تونسياً (نحو 56 دولاراً) للغرام عيار 18.
تُعدّ هذه الأسعار مقبولةً جدّاً في هذه الفترة من السنة، لذلك يُقبل عدد مهم من الراغبين في الزواج هذه السنة على شراء المصاغ في هذه الفترة (فترة الشتاء)، لأنّ الأسعار تكون باهظةً جدّاً خلال الصيف، بالتزامن مع موسم الأعراس في معظم ولايات (محافظات) البلاد التونسية.
يؤكّد صاحب محلّ لبيع المصاغ، على صعوبة الوضع الذي يعيشه العديد من تجار المجوهرات في تونس، نظراً إلى عدم إقبال الزبائن وتراجع مستوى الرغبة في الشراء نظراً إلى الظرفيّة الاقتصاديّة
أشهر أسواق بيع الذهب في تونس، سوق البركة في العاصمة. يمكن زيارة هذا السوق بالعبور من منطقة القصبة أو باب بحر في العاصمة، وهو قِبلة نسبة مهمة من المقبلين على الزواج الذين ينوون شراء الحليّ الذهبية. منذ أن تطأ قدم الزائر سوق البركة يقبل نحوه أصحاب عدد من محال بيع المجوهرات لترغيبه بعدد من الكلمات المنمّقة في الشراء. لا يعجّ السوق اليوم بالزائرين ومعظم المحال لا تشهد زيارة أحد، فهذا نادر. أحد الزبائن زار معظم المحال برفقة خطيبته وأمّه وحماته ولم يجد ضالته فقرّر زيارة السوق في يوم آخر إلا أنّ إلحاح خطيبته وبقية المرافقين جعله يعدل عن قراره ويقوم بزيارة محلّ آخر، فوطأت قدماه أحد المحال، والذي يبدو أّنّه نال استحسان "الأغلبيّة" التي ترافقه، ونال استحسانه شخصيّاً، لأنّ التاجر ترفّق بجيبه نوعاً ما فاقتنى بعضاً من الحلي على أن يعود في يوم آخر برفقة خطيبته زينة، لشراء بقيّة المطلوب.
تقول زينة: "ليس من السهل شراء كامل المصاغ الذي تستوجبه العادات والتقاليد التونسيّة، لأنّ تكاليفه لا تقلّ عن 4 آلاف دينار تونسي على الأقل (نحو 1،200 دولار)".
تضيف محدثتنا ضاحكةً: "علينا الرفق بميزانيّة الخطيب لنتمكن من العبور إلى مرحلة الزواج بأمان وفي أحسن الظروف".
في المقابل، يؤكّد صاحب محلّ لبيع المصاغ، على صعوبة الوضع الذي يعيشه العديد من تجار المجوهرات في تونس، نظراً إلى عدم إقبال الزبائن وتراجع مستوى الرغبة في الشراء نظراً إلى الظرفيّة الاقتصاديّة التي تمرّ بها تونس والعالم، وهو ما جعل عدداً مهماً من المحال تغلق أبوابها لعدم قدرتها على الاستمرار.
ليس بعيداً عن سوق البركة، تنتشر في مختلف أنحاء العاصمة وفي مختلف الولايات وأيضاً على شبكات التواصل الاجتماعي، مواقع عديدة لبيع وشراء المجوهرات. تعرض نقاط البيع هذه المجوهرات المطليّة بالذهب وهي وجهة العديد من الأشخاص لاقتناء هدية عيد الميلاد أو عيد الحبّ أو عيد الزواج، وأيضاً لشراء مصاغ الزواج.
نعم، لقد وجد عدد مهم من الشباب الحلّ للتخلص من تقاليد تثقل كاهلهم في زمن أصبح فيه كل شيء باهظ السعر، فاكتفوا بشراء مجوهرات "ذهبية" رخيصة السعر. علاء (30 عاماً)، وخطيبته أماني (28 عاماً)، خصصا ميزانيّةً لشراء ما تيسّر من المجوهرات من الذهب الخالص، ثم غيّرا رأيهما في اللحظات الأخيرة. علاء الذي التقيناه قال إن فرحته لا توصف فقد عاد أدراجه إلى المنزل بأكثر من نصف المبلغ الذي خصصه لشراء المصاغ، بفضل "الذهب المزيّف"، وبفضل تفهّم خطيبته التي وعدته بكتمان السرّ إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...