تخيّل أن تستيقظ صباحاً، وتتجه مباشرةً إلى باب جارك الذي يسكن في المنزل المقابل لمنزلك، وتطرق بابه لتقول له: "ها قد انتفى الليل وأشرقت الشمس منذرةً بيوم جديد، صباح التفاؤل". رقابتي الذاتية منعت استكمال المشهد لما فيه من تعنيف لفظي، قد يتطور إلى جسدي.
تنويه: حسناً، هذا النص من الخيال الواقعي، ولكنه تجسيد حقيقي للواقع الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي عموماً، وفي لبنان خصوصاً، وأي تشابه بينك وبين الأحداث ليس محض صدفة إذ أشبه بسلوك جماعي.
منذ الأزل والإنسان يبحث عن الصورة المثالية التي سيقدّم بها نفسه للمجتمع، ولعل أبرز القدماء الذين سلّطوا الضوء على "الإنسان المثالي"، كان الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي حدد صفاته وكان أبرزها: "البحث عن الحقيقة والمعرفة والفهم العميق للعالم من حوله".
جميعنا ندرك أهمية المثالية في المجتمعات، لما فيها من نظرة إعجاب ومحبة مفرطة، وإذا ما نظرنا إلى الموضوع بعين بعض علماء النفس، سنجده محض أنانية وإشباع لرغبة في أن يكون الإنسان مميزاً ومحبوباً.
في زمن سابق، كان الأمر يحتاج إلى جهد كبير لإيصال الأفكار والقيام بأعمال عديدة لإثبات "المثالية"، لكن مع ظهور السوشيل ميديا بمختلف أشكالها، اختار الناس شخصياتٍ لهم على هذه المنصات، وبدأوا بتثبيت مثاليتهم بشكل غريب. والغرابة تكمن في أن الجميع على مواقع التواصل، أنبياء وهادفون. ينتقدون الإسفاف والمفاهيم المغلوطة، و"الجميع" مثقف، و"الجميع" يقرأ روايات للكاتب الروسي "دوستويفسكي"، و"الجميع" يحدثنا عن المدينة الفاضلة.
ملاحظة أخرى: هناك قلّة قليلة ليست كذلك. هذا للإنصاف. هي قلّة صامتة أيضاً في غالبية الأحيان.
يجب أن نتوقف كثيراً ونُمعن النظر: فإذا كنا "كلنا" أنبياء وهادفين افتراضياً، فهل الفضائيون هم من يتآمرون علينا ويقومون بجرائم تكبر وتتوسع في حياتنا الواقعية؟ والسؤال الأصعب؛ هل سنجد الشخصية نفسها في الرسائل؟
في هذه المواقع، هناك شخص وفي أقل من خمس ثوانٍ، تجده قادراً على سحب الجنسية من الآخر، وإلصاق تهمة إليه قد تصل إلى حكم الإعدام في بعض الدول، لسبب واحد فقط، هو إثبات مدى تفكيره الإستراتيجي
أم أننا نكذب واقعياً؟
بالطبع نحن نضخم من صورتنا الافتراضية، فعلى سبيل المثال عندما يريد أي شخص أن يثبت مدى اختلافه عن غيره، ومدى ثقافته التي توحي بأنه قارئ نهم للكتب والروايات، قد يوقع العديد من الأدباء والمفكرين العظماء في فخ لصق أقوال لا شأن لهم فيها، ولعل أبرز ضحايا المجتمع الافتراضي هم صلاح جاهين، دوستويفسكي، علي شريعتي، وغسان كنفاني، وطبعاً لا نحتاج إلى أن نضع أي مثال على ذلك، إذ يكفي أن تبحثوا عن أسماء هذه الشخصيات على محرك البحث على فيسبوك على سبيل المثال، وستُصدمون بالاقتباسات التي لن تجدوها في أي كتاب لهذه الشخصيات، وستكتشفون أنها مجموعة خواطر لأشخاص لا يملكون جرأة كتابة أفكارهم، فينسبونها إلى آخرين، وتنتشر كالنار في الهشيم.
وبالعودة إلى القتامة، سنجد أن المشكلة الأكبر في صورتنا الافتراضية، تكمن في استسهال رمي التهم والانتقادات والتنمر وأحياناً كثيرةً استسهال الشتم، وهو أمر لافت إذا ما قررنا أن ننقله إلى حياتنا اليومية، التي لن نتعرض فيها لهذا الكم من الاتهامات والشتائم والانتقادات.
فكم من مرة قيلت لنا في الواقع هذه العبارات: "أنت إمبريالي قذر، عميل، راديكالي أبله أو سفسطائي متعجرف"، وغيرها من المصطلحات التي تدل إلى ثقافة الشتائم؟ في الحقيقة، هذه المصطلحات نادراً ما نسمعها في أي نقاش في الحياة الواقعية، أما على مواقع التواصل الاجتماعي فسنجدها منتشرةً بكثرة، حتى أن هناك من يحلل عبارة "صباح الخير"، وسيجد لها حبكةً دراميةً تدل على أن صاحبها إما عميل للإمبريالية أو عميل للسفارات.
في هذه المواقع، هناك شخص وفي أقل من خمس ثوانٍ، تجده قادراً على سحب الجنسية من الآخر، وإلصاق تهمة إليه قد تصل إلى حكم الإعدام في بعض الدول، وكل هذا يكون من عبارة صباح الخير، وذلك لسبب واحد فقط، هو إثبات مدى تفكيره الإستراتيجي، وطبعاً كلّاً بحسب "أيديولوجيته".
في حياتنا اليومية، قد نقول أفكارنا بأريحية أقل، ولكن في مواقع التواصل الاجتماعي ستشعر بأنك في منتدى شباب والجميع يناقشون أفكارك، ولست أبالغ حين أقول إن بعضهم يكتب تعليقاً وفي خلفية رأسه هناك تصفيق حارّ له على ما أدلى به من دُرر.
وفي بحثنا المستمر عن المثالية، الأمر لا يقتصر على استسهال التهم أو الشتائم، إنما ينعكس على شخصيتنا الواقعية ويؤثر عليها سلباً، إذ بات هناك شكل مثالي أو عمل مثالي، وطعام مثالي، وجديدنا: محتوى مثالي. من وضع هذه المعايير؟ لا أحد يعلم، ولكن اليوم إذا كنا غير قادرين على نشر صور أو أفكار ضمن هذه المعايير، قد نتعرض للذم أو نكون مادةً للسخرية، وهناك العديد من الدراسات التي تُظهر التأثير الكارثي للصورة المثالية وانعكاسها على شخصياتنا الواقعية يمكن مراجعتها.
وفي إطار المبالغة في المثالية، ظهر نوع جديد للإنسان الافتراضي المثالي، لن تجده في أي مكان إلا في فيديوهات "التنمية البشرية"، وهي مقاطع مصوّرة مع موسيقى تحفيزية لمجموعة من الأشخاص يشرحون لنا ما هي السعادة أو المثالية، ولا ينظرون إلى عدسة الكاميرا (إلينا)، بل إلى الأفق. في ختام الفيديو سترى نفسك تسأل سؤالاً واحداً: من هؤلاء حقاً؟ وما هو مقدار معرفتهم بسعادتي الشخصية؟
المحظوظ اليوم هو الذي لم يلحظ "جوقة الزجل"، وخصوصاً على فيسبوك دون غيره من المواقع؛ بمجرد أن يجدهم سيخيل إليه "جاط الخس" أمامهم، وكأس العرق في يدهم، في أثناء كتابتهم التعليقات لبعضهم البعض.
هل تظن أننا انتهينا عند هذا الحد؟
المحظوظ اليوم هو الذي لم يلحظ "جوقة الزجل"، وخصوصاً على فيسبوك دون غيره من المواقع؛ بمجرد أن يجدهم سيخيل إليه "جاط الخس" أمامهم، وكأس العرق في يدهم، في أثناء كتابتهم التعليقات لبعضهم البعض.
من هؤلاء؟ ببساطة هم مجموعة متضامنة بشكل كبير، يجتمعون كزمرة وينتظرون أي حدث أو أي تعليق حتى تبدأ جوقة فيها خليط من كل ما سبق ذكره، وكأنه كوكتيل "من السُباب، التنمر، وإثبات التستوستيرون الافتراضي والثقافي"، وهم فعلاً يتشابهون في تصرفاتهم مع شخصيات المتنمر التي كانت تظهر في أغلب أفلام "هوليوود" التي تحاكي واقع المدارس في فترة أوائل تسعينيات القرن الماضي.
الممثل المصري شيكو، عندما سئل عن رسالة فيلمه الكوميدي "الحرب العالمية الثالثة"، قال: "إحنا تافهين في الضحك وما فيش رسالة قدّمناها ومش شرط يكون في رسالة بنقدّمها".
حبذا لو نتقبل شخصياتنا الواقعية بالتصالح نفسه مع الذات، الذي قدّمه الفنان القدير شيكو، من دون الحاجة إلى التكاذب أو إلى جعل الأمور البسيطة، أكثر عمقاً... تنظيراً... تنمّراً... إلخ.
#صباحو_يا_جاري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.