الكتابة الشذريّة ليست جديدة، وإن أسهمت وسائط العصر الإلكترونيّة في إبرازها وتعزيز حضورها. والشذرات التأمّلية في الفلسفة قد تعود إلى هيرقليطس الإغريقي، ونجد ما يماثلها لدى النفري بما جُمع له من مواقف ومخطابات كان يلقيها على مريديه، كما في جوامع الكَلِم لدى العرب. ولنا في كتاب "ومضات" لميخائيل نعيمة مثال آخر. وفي زمننا المعاصر أيضاً نعثر على قطع نثريّة مكثّفة المدلولات في أعمدة الصحف.
تكثر الآراء السلبية في فيسبوك، أو "سِفر الوجوه" بحكم إتاحته المجال الافتراضي لأيّ كان للتعبير والنشر –وهذا ما أراه حسناً - إنما في الوقت نفسه يسهم في ازدياد نسبة التوهّم، ويشجّع على تضخّم الذاتيّة في ظنّ كلّ من يكتب أنه أصبح كاتباً، مهما تكن وجهة كتابته ومستوى الكتابة شكلاً ومضموناً. فمن طبيعة الظاهرات أن يكون لها أوجه سلبيّة تجاور ما هو إيجابي. ومن إيجابيّات الفَسْبكة، عدا توليد المصطلح العربي عبر النحت، الفعل نفسه للفسبكة بما هي كتابة شذريّة متّسعة الانتشار ومتواترة القراءة.
الكتابة الشذريّة ليست جديدة، وإن أسهمت وسائط العصر الإلكترونيّة في إبرازها وتعزيز حضورها. والشذرات التأمّلية في الفلسفة قد تعود إلى هيرقليطس الإغريقي، ونجد ما يماثلها لدى النفري
قاعدة "ما قيس على كلام العرب..."
قد يعترض فريق على وصف القطع المكتوبة على صفحة فيسبوك بأنّها شذرات؛ لما تحمل الشذرة من كشف رؤيوي وما تُحمّل من معاناة إنسانيّة. لكن سنكتفي بالمدلول الشكلي، على أقل تقدير، من حيث القصر والاختزال في وصف ما تطالعنا به أحياناً بعض الصفحات، وإن غاب العمق عن مضامينها. في كتابه "الكتابة على جلدة الرأس"، يكتب الأكاديمي بلال عبد الهادي، المختصّ في علم اللغة الحديث، فصلاً بعنوان "دفتر الفسبكة ومعشر الفسابكة".
ويفصح أنّه أعاد النظر في نصّه المكتوب عن الفسبكة (المنحوت على مثال الحمدلة والحوقلة والبسملة) حين صدر لكل من الصحفي رامي الأمين والأكاديمي أحمد بيضون كتابين بعنوانين متقاربين. للأول باسم "معشر الفسابكة"، وللثاني بتسمية "دفتر الفسبكة- نتف من سيرة البال والخاطر". وقاعدة: "ما قيس على كلام العرب، فهو من كلام العرب"، تأتي في خدمة ديناميّة اللغة العربيّة وحيويّتها وبقائها نابضة بمسمّيات العصر من طريق الاشتقاق والقياس.
يتّكئ عبد الهادي على هذه القاعدة ليستنتج ما يلي: "أنا من المؤمنين أنّ من سوف يحدّد مصائر الكلمات هو الإنترنت لا مجامع اللغة، إلا إذا انصاعت لأمر الإنترنت، وراحت ترصد حركة الكلمات على مواقع البحث كـ(غوغل)". هذا بشأن اللفظ المشتقّ؛ ماذا عن المحتوى للنص المكتوب على فيسبوك، أو "الفَسبوكة"؟
"ليس هناك من موضوعات لا يمكن للفيلسوف ألا يخوض فيها". وما يهمّ الكاتب ليس تناول موضوعات مختلفة بقدر ما يهمّه تناول الموضوعات بطريقة مختلفة
أن تفسبك، أي أن تكتب فسبوكة
من أخوات الفسبوكة التغريدة والتدوينة. وكثير مما يكتب على صفحة إلكترونيّة، يعود ليجمعه صاحبه بين دفتي كتاب، لضمان بقاء الأفكار المكتوبة لأمد أبعد، تؤمَّن العودة إليها. وإن كان ما هو إلكتروني أسرع زمناً في الانتشار، لكنّ حفظ الحرف الضوئي غير موثوق به. قبل الانتقال إلى التفلسف عبر هذا الفضاء المفتوح، والسؤال عن إمكان ذلك ويسره، فإنّ السؤال نفسه يطرح حول كيفيّة تحويل علوم اللسانيّات إلى حكايات ممتعة في متناول القارئ العادي أو المتصفّح الإلكتروني.
أن تُقدّم حكايات اللغة طازجة، وقد خرجت من بين دفّتي المعجم أو أمّهات الكتب، على مائدة تعمر بتشكيلات تغدو مجال خبرة حيّة لحواسنا؛ ذلك لا يتأتّى إلا بكتابة خاصة وأسلوب يناسب الوسيط الإلكتروني ومتصفّحه. تذليل صعوبات التلقّي وجفاف دروس اللغة في سبيل النفع والفائدة والمتعة معاً وسيلته تشبيهات وأمثال تجذب المنصرف عنها. هذا تماماً ما يقوم به بلال عبد الهادي على صفحته، وفي كتابه (المكمّل لكتاب مماثل له بعنوان "لعنة بابل").
وهو ليس الوحيد الذي يتوافق مع آليات العصر ويفهم أنماطه الفكريّة والسلوكيّة؛ إذ يجد كلّ منا من يتابع صفحته، ولي مثال مع الأكاديمي جمال نعيم في حقل الفلسفة، فسبكات نابضة بالحياة، عنوانها الإيجاز فالإنجاز، تتّخذ أحياناً شكل الومضة، تومئ إلى قضايا راهنة في ما يمسّ وجدان الإنسان وطرق عيشه. هذا المغزى يحيلني إلى الاستدلال من العهد الجديد على تأثير القصة والمَثل في النفوس، من خلال سؤال طرحه الحواريون على يسوع المسيح، ورد في إنجيل متى: "لماذا تكلّمهم بأمثال؟"(13: 10).
في وداع الكتابة الشجريّة
لجمال نعيم كتاب عن دار التنوير، يقع في 416 صفحة، بعنوان "الفلسفة في الفضاء الافتراضي". يعرّف بنهجه قائلاً إنه يطمح إلى تغيير أسلوب الكتابة بما يتماشى مع العصر الذي فرض نوعاً جديداً من القرّاء؛ وعليه بات لزاماً إيجاد توجّه شكلي آخر للكتّاب. ولكي تكون الفلسفة ممكنة وتأخذ دورها في الحياة المعاصرة، يسوّغ الكاتب اعتماده الأسلوب الشذري- تمثّلاً بنيتشه الذي يجد رواجاً في الفضاء الافتراضي- الأسلوب الذي يراه مناسباً للتوجّه إلى الجميع عبر التدوينات والشذرات والمقالات المقتضبة.
الأسلوب الشجري المقصود به أن يقسّم الكتاب تقسيماً مثلّثاً من مقدّمة وفصول وخاتمة. ويرى نعيم أنّ غالبيّة ما يكتبه الفلاسفة الجدد لا يقرأ إذا كتب عبر الأسلوب الشجري القديم. ولعلّه يقصد أنّ نسبة رواجه بين القرّاء والمتصفّحين في تراجع مستمرّ قياساً على الإقبال على الشذرات والومضات الحكميّة. هوذا دور الفلسفة، وما يحييها بأن تجد من يقرأها ليفيد مما تثيره من أسئلة تعنى بالإنسان بما هو إنسان.
"ليس هناك من موضوعات لا يمكن للفيلسوف ألا يخوض فيها". وما يهمّ الكاتب ليس تناول موضوعات مختلفة بقدر ما يهمّه تناول الموضوعات بطريقة مختلفة؛ إذ لا يهتمّ في شذراته، أو مقالاته المفتوحة، بثنائيّتي الصّواب والخطأ، بل بقدرة الفكرة على الالتقاء بأفكار أخرى في المجال نفسه. لأنّ "الحقيقة باتت حقائق وباتت أمراً يُبتدع لا أمراً يُكتشف"، على ما يذهب إليه.
لنا أن نسأل عن إمكان تحوّل الفضاء الافتراضي إلى واقع موازٍ ومؤسّس، أو كما يصف جمال نعيم تحوّله - بقلق وتوجّس- إلى حقيقي باقتراح كوجيتو الفسابكة، طارحاً مشكلة العصر: "كيف يمكن لما هو افتراضي أن يقوّم ما هو حقيقي؟"
واو العطف والفلسفة في رحاب فيسبوك
جميل فتح المسارات بين الحقول المعرفيّة، بل أصبح لزاماً في عصرنا فهم أي ظاهرة من زوايا مختلفة، ومراجعة تخصّصات علميّة تتآزر ابتغاء الكشف. وأرى أن "نتف" العلوم، أو "الأخذ من كل علم بطرف" يتقاطع مع فكرة الشذرة وأسلوبها بعيداً عن زمنيّتها أو ما أوجب كتابتها من أحداث. فهي تصلح لأي زمان، وتقرأ بغير تسلسل وتتابع، كما تفترض قراءة الكتاب شجريّ الأسلوب اتّباعه. فأنت تتصفّح الكتاب الشذّري، وتقرأ نتفاً من هنا وهناك مستمتعاً باللعب مع الأفكار، لاهياً بصفحات/ عالم الكتاب.
يوضح عبد الهادي في مقدّمة "لعنة بابل" أنّه مولع بـحرف "واو" العطف؛ الواو العاطفة والواصلة بين عالمين. ويقول إنّ وظيفة الكتابة هي تسليط الضوء على الصّلات المتينة والخفيّة بين الأشياء، مورداً خبراً عن حكيم هندي، يقتبس منه ردّه على سائله عن سرّ الفلسفة، قائلًا: "الفلسفة هي أن تحسن استخدام واو العطف".
إذا ما أنعمنا النظر في طرق تصفّحنا لفيسبوك على سبيل المثال، سنشعر بحضور معنى واو العطف العاطفة والواصلة بين العوالم والأشياء والحقول والأحداث والأمزجة، الجامعة بين نتف شديدة التباين بعيدة المجالات. وأضيف إلى واو العطف، الواو الاستئنافيّة في طرق تصفّحنا لأي موقع إلكتروني.
قد تستعين بفيسبوك لترسم شخصيّات أفهوميّة في الفلسفة
في إحدى المقالات لجمال نعيم (من الكتاب المذكور) لفتني تحديد جيل دولوز لمعايير تمييز القول الفلسفي، ومنها معيار رسم شخصيّة أفهوميّة،أي الشخصيّة الحقيقيّة في الفلسفة، على غرار شخصية الأبله في فلسفة ديكارت، وشخصيّة سقراط في فلسفة أفلاطون، وشخصيّة زرادشت لدى نيتشه. وبما أنّ لكل عصر أدواته ووسائطه ومشكلاته وظاهرات يفرزها، أعتقد أنّ الفسبوكات تتيح للفلاسفة اكتشاف أنماط متعدّدة من شخصيّات الفسابكة تصلح لأن تكون نماذج أفهوميّة.
لا أظن أنّ الحلم والفضاء الافتراضي يفترقان كثيراً. وقد نجد تقاطعات بين العوالم الافتراضية من خلال وسيط إلكتروني يسيطر على حياتنا، وعوالم الخيال من طرق الشعر أو الحكايات التي نتماهى مع شخصيّاتها أو مقولاتها، ونندرج في فضائها فتتملّكنا حتى نكاد نظنّها واقعاً بوصفها مرآة (محدّبة ومقعّرة) لواقعنا وطبقة من طبقات وعينا.
هذه المقارنات تطرح تساؤلات حول الحلم بما هو إيجابي، والوهم بما هو سلبي. لا سيما إذا ما عدنا إلى تمييز هايدغر بين الواقعي واللاواقعي حين وصف العيش في اليوميّة بالقول إنّ ما تزعمه العامّة واقعيّاً، أي ما يمكن اختباره يوميّاً، ليس سوى اللاواقعيّ الذي لا ينفكّ يتحلّل. والشعر كما قد أُنشئ هو الواقعيّ فعليّاً، بوصفه تأسيساً بوساطة الكلام؛ إذ يبعث على ما هو خياليّ وما هو حلم في مواجهة الواقع الصّاخب؛ ولسنا نحن غير حلم بالحياة.
ولنا أن نسأل عن إمكان تحوّل الفضاء الافتراضي إلى واقع موازٍ ومؤسّس، أو كما يصف جمال نعيم تحوّله - بقلق وتوجّس- إلى حقيقي باقتراح كوجيتو الفسابكة، طارحاً مشكلة العصر: "كيف يمكن لما هو افتراضي أن يقوّم ما هو حقيقي؟". هي فكرة بمرمى "الفلاسِكة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...