على صفحة منصة "ديزني بلس" على فيسبوك، مع كل منشور جديد، تظهر عشرات التعبيرات الغاضبة، بدون تعليقات، بدون كلمات، وبدون تفكير مدقّق، يقرّر كل يوم أشخاص تخصيص بعض من وقتهم للغضب على صور مسلسلات وأفلام رسوم متحركة، لمجرد أنها تنتمي لمنصة قررت أن العالم يحوي مثليين يجب تمثيلهم بشكل ما في أعمالهم.
ما يحدث مع منصة "ديزني بلس" ليس شيئاً مستغرباً في عصر أصبح الجهاد فيه يتم عبر تعبيرات مواقع التواصل الاجتماعي، والناجح من يستطيع فرض أكبر قدر من التعبيرات الضاحكة أو الغاضبة على المنشورات التي يرفضها فكرياً، في زمن الرقابة لم تعد بين أيدي الهيئات الرقابية الحكومية، بل بأيدي مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي الغاضبين على الدوام، لكن لماذا هم غاضبون لهذه الدرجة؟
رقابة شعبية
في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، بدأ جدل جديد بخصوص عرض فيلم "لايت يير" (Lightyear) في دور السينما المصرية، بعدما انتشر خبر وجود قبلة مثلية بين شخصيتين ثانويتين في الفيلم، الأمر الذي أتى بعد انتشار فيديو لإحدى مديرات المحتوى في شركة ديزني، والتي تحدثت خلاله عن زيادة تمثيل الشخصيات المثلية في أعمالها حتى يجد أطفال آباء وأمهات مثليين أشخاصاً يشبهونهم على الشاشة.
يقرّر أشخاص كل يوم تخصيص بعض من وقتهم لصبّ غضبهم على صور مسلسلات وأفلام الرسوم المتحركة على صفحة "ديزني بلس"، لمجرد أنها منصة قررت أن العالم يحوي مثليين يجب تمثيلهم في الأعمال التي تقدمها ديزني
اعتبر المشاهد العربي أن هذا الفيديو هو بداية مخطط لإجبار الأطفال المسلمين والعرب على المثلية، وفيلم (Lightyear) هو نقطة البداية لتنفيذه، عُلم بعد ذلك بصورة واسعة أن الفيلم لن يعرض في دور العرض المصرية، على الرغم من عدم إعلان الأمر بشكل رسمي، مثلما حدث من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بل نُشر خبر على المواقع الإلكترونية المصرية أن الفيلم لم يعرض من الأساس على جهاز الرقابة ولم تتم مشاهدته ولم يتم منعه أو إجازة عرضه في مصر.
لماذا يطالب شخص بمنع ما لا يجبره أحد على مشاهدته؟
إذن حالة المنع هذه لم تبدأ من الرقابة المصرية، بل بشكل عكسي وشعبي امتدت من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي إلى الرقابة، وهذه ليست السابقة الأولى، فعلى سبيل المثال، إبان عرض فيلم "أصحاب ولا أعز" على منصة نتفلكس، غضب الكثير من المشاهدين لأن فيلماً يشارك به ممثلون مصريون يحتوي على مشاهد اعتبروها فاضحة، بالإضافة إلى شخصية مثلية، ولم تنته هذه الحالة من الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي إلا بعد تعليق رئيس هيئة الرقابة على المصنفات الفنية المصري، عبر برنامج تلفزيوني، موضحاً أن الفيلم تم تصويره في لبنان بمخرج لبناني، وعُرض على منصة إلكترونية ولم يتم عرضه في دور العرض السينمائية ليتم الموافقة عليه أو رفضه من هيئة الرقابة.
الآية المقلوبة
كان توضيح هذه البديهيات ضرورياً في ظل الثورة الشعبية على فيلم بدا كما لو أنه يهدد أمن المشاهدين، لتنقلب الآية، فمن المعتاد رفض الهيئات الرقابية للأعمال، ومحاولة الجمهور التملص من هذه السلطة للبحث عن الأفلام مقرصنة أو بأي وسيلة، شرعية كانت أم لا، لكن الآن المشاهد العادي هو من يطلب من الهيئات الرقابية "المنع" و"الوقف" و"عدم العرض".
تبدو كل هذه الكلمات التي تحمل دلالات سلبية عنيفة هي مطمح رواد مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنه ليس هناك حاجة لهذا المنع طالما المتلقي اليوم له حرية المشاهدة من عدمها، في ظل عرض هذه الأعمال خارج التلفزيون الذي كان يبرر قديماً بأنه يدخل كل منزل فيحتاج إلى رقابة أشد.
رقابة المشاهد على الأعمال الفنية تتحول اليوم إلى وحش جديد يهدد العملية الإبداعية
فسواء عبر دور العرض السينمائية أو المنصات الإلكترونية، على المشاهد أن يقوم بفعل إيجابي من أجل مشاهدة العمل، سواء بقطع تذكرة السينما، أو الاشتراك في المنصة، أو حتى استخدام مواقع القرصنة، كلها أفعال يجب أن يقوم بها المتفرّج بكامل إرادته الحرة، ويستطيع كذلك اختيار عرض هذه الأعمال من عدمه على أطفاله.
ولكن المشاهد الذي يمتلك الآن حرية أوسع من الماضي يلفظ هذه الحرية، يلقيها في وجه الهيئات الرقابية، ويطالبها هي بالمنع، ما يثير سؤال: لماذا يطالب شخص بمنع ما لا يجبره أحد على مشاهدته؟
الحرية الوحيدة للمشاهد
الإجابة الأقرب للمنطق لهذا السؤال هو إن المشاهد لا يرغب في منع ما يُقبِل عليه بنفسه، لكنه يتمنى وقف صناعته من الأساس، يهدف للسيطرة على العملية الإبداعية نفسها، أن يقدم له الفنانون ما يرغب في مشاهدته بما يتناسب مع ما يؤمن به، وهي بالتأكيد رغبة غير ممكنة للتحكم في صناعة الترفيه بالكامل، وبالتالي يتجه للحلقة الأضعف، وهي منع وصول الأعمال للآخرين.
بالنظر لشكل أوسع لهذه الرقابة الافتراضية، نجد أن مواقع التواصل الاجتماعي بصورة عامة أعطت المواطن العادي الصوت الذي كان يفتقده في السابق، فالآن يستطيع التعبير عن أفكاره بشكل مباشر، ومع الزخم والاستمرار والاتحاد بين الكثيرين الذين يحملون نفس الرأي، يصبح هذا الرأي في الكثير من الأحيان مؤثراً، وهي القوة التي يفتقدها في باقي نواحي حياته.
فمن الوباء إلى الضغط الاقتصادي والقلق من حرب عالمية ثالثة، ماذا يملك الشخص البسيط للتفريج عن نفسه سوى مواقع التواصل الاجتماعي، يعبر من خلالها عن هلعه اليومي وغضبه من كل تفصيلة في حياته لا يستطيع التحكم فيها، بالرفض والمنع لأي شيء يعاكس التيار السائد.
يشعر هذا الشخص الافتراضي أنه لا يتم تمثيله هو إلا بالكاد في أعمال قليلة، أغلبها دون المستوى، بينما يتلقى محتوى عن عوالم أخرى خيالية بالنسبة له، أشخاص يتمتعون بحريات لا يحلم حتى بها، يغضب من هؤلاء الأشخاص الذين حصلوا على هامش واسع من التعبير عن أنفسهم حتى وصلوا إلى شاشة منزله، يرفضهم ويرفض هذا المحتوى، يرغب في التحكم في شيء وحيد في حياته، بالإضافة إلى جهاز التشغيل عن بعد، فيصرخ غضباً عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
قتل الإبداع
رقابة المشاهد على الأعمال الفنية قد نعتبرها حتى اليوم أسطورة شعبية، أو افتراضاً مبالغاً به، لكن بمدّ الخط على استقامته سنجد أنها قد تتحول يوماً ما إلى وحش جديد يهدد العملية الإبداعية، فالمنصات الإلكترونية لا ترغب في خسارة مشتركيها بالتأكيد، أو أن تبدأ ترينداً سلبياً مع كل عمل تقدمه، خاصة المنصات التي تهدف إلى جذب المشاهد الشرق أوسطي عبر أعمال من إنتاجها، مثل نتفلكس بمسلسلاتها وأفلامها العربية التي تثير الجدل في كل مرة، واتهامها بأنها تهين المشاهد العربي والقيم الإسلامية.
يوماً سيأخذ هؤلاء المنتجون قرارات بمنع ما يؤدي لكل هذا العنف الافتراضي، وسنجد أعمالاً مدجنة، لا تخضع هذه المرة للرقابة على المصنفات الفنية التي تملك على الأقل معايير واضحة متفقاً عليها، ويشرف عليها أشخاص متخصصون، بل هذه المرة رقابة ملايين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فبدلاً من أن تصبح هذه المنصات منفذاً للمبدعين يتحركون عبره بحرية أكبر، خارج أطر الإنتاج المنغلقة على ذاتها منذ سنوات، ستصبح مقبرة جديدة لإبداعهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...