منذ شهور، تعرّضت أمي لحادث في الغرفة، اختلّ توازنها فلم تحملها قدماها. خضعت لجراحة لإعادة مفصل الفخذ لموضعه، عاد المفصل ولم تعد قدماها لحملها، فأعانها السرير وشقيقتي. أزور أمي كلما سنحت فرصة التملّص من التزامات البيت والعمل، أحدثها في كل شيء، أعصر عقلي كي أجد كلاماً لا ينقطع، ليس فقط لافتقاد الحديث معها، لكن لإنعاش ذاكرتها التي بدأت آثار الزمن بالتسلل إليها.
لا أعرف لماذا تذكرت علبة الصور القديمة، العلبة التي لم تتغيّر منذ أن وعيت عليها في منزلنا القديم، انتقلنا وانتقلت معنا، احتفظت علبة الشيكولاتة الحديدية التي تحمل الصورة الشهيرة لروميو وجولييت بالصور القليلة لأبي، فحفظت لي ملامحه، أعود إليها كلما ذكرتني المواقف أني ولدت يتيمة الأب، واليوم أحفظ للعلبة جميلاً جديداً، فقد ساعدتني على إنعاش ذاكرة أمي وبمزيد من مواصلة الحديث معها.
مرّت سنوات طويلة على آخر مرة فتحت فيها علبة الصور، كنت أعرف أن أمي تضعها في أحد أدراج تسريحة غرفتها. منذ تزوجتُ لم أعد للبحث عن صورة أبي، في منزلي زوج يمارس معي دور الأب رغم اختلافنا على مفهومه. آخر ما أتذكره أني حين فقدت الأمل في إنجاب بنت بعد ولدين، أخذت منها صورتي وأنا طفلة وليدة، احتفظت بها بين أوراقي الخاصّة كي أعود إليها وألتمس فيها براءة لم تعد. مرت سنوات طويلة، وحين وجدت العلبة هذه المرة، لم أجدها في موضع عناية كما اعتادت أمي أن تحفظها، لكنها اختبأت في باطن كومود قديم خصّصته شقيقتي الكبرى للمهملات والأشياء التالفة والتي انقطع الأمل في إصلاحها، لكن لم ينقطع الأمل في أن تصلحنا هي.
أزور أمي كلما سنحت فرصة التملّص من التزامات البيت والعمل، أحدثها في كل شيء، أعصر عقلي كي أجد كلاماً لا ينقطع، ليس فقط لافتقاد الحديث معها، لكن لإنعاش ذاكرتها التي بدأت آثار الزمن بالتسلل إليها
لان حديد العلبة ولم يعارضني طويلاً لفتحه، كأنني أطالعها للمرة الأولى، أمسح الصدأ برفق من صورة روميو وجولييت على العلبة، أعاملها برفق من يبحث عن أثر حبيب قديم. رأيت الصور بعين جديدة، وكأنني أراها للمرة الأولى. أدقق في الفساتين وتسريحات الشعر، أتأمل الملامح الصارمة لجدتي، أسأل أمي لماذا لا تبتسم في حفل خطبتها، فتخبرني عن تعنيف شقيقها لها. يبتسم أبي ابتسامة على مضض، أعرف أن زواجه من أمي لم يكن أمراً يسيراً، تسترسل أمي في حكي الذكريات، تحكي وتقاوم دموعها: "الله يسامحهم"، لا أعلم إن كان الله سيسامح أم لا، لكني أعرف أن أمي لم تفعل.
لا تحوى العلبة على الصور فقط، لكنها أيضاً احتفظت بالبطاقات التذكارية التي كانت تُرسل لعائلتي من أقاربهم وأصدقائهم في الخارج. لم يسافر أي ممن نعرفهم لأوروبا أو أمريكا، الخارج كان السعودية وليبيا، كان ذلك العصر الذهبي لسفر المصريين والعودة بأموال النفط وبطاقات المعايدات.
البطاقة الأولى كان من الشقيق الأكبر لأمي، الخال الذي لم يكن والداً، تحمل البطاقة معايدته بعيد الأضحى للأسرة الكريمة، أمي وأبي وأختي وأخي، أما أنا فلم أكن قد جئت للعالم بعد. بطاقة من السعودية يعني أنها تحمل صورة الكعبة أو المسجد النبوي، أو أي من مناسك الحج والعمرة. في منتصف السبعينيات لم يكن بالسعودية ما يمكن تصويره على بطاقات المعايدات، لكن كان لخالي لقب يفضل دوماً أن يختم رسائله به: أخوكم مهندس الإذاعة الخارجية بهيئة التلفزيون السعودي.
من الغرب كانت تأتي بطاقات المعايدات من ليبيا، حيث قضت خالتي مع زوجها المدرس عدة أعوام هناك. كانت تلك السنوات التي عاشوها تحت ظلال القذافي مثار حكي زوج خالتي حتى وفاته، القذافي الذي منح ليبيا والليبيين حياة أخرى، حياة سجلتها بطاقات المعايدات التي كانت تحمل إنجازاته في تعمير العاصمة طرابلس، لا يختلف الأسلوب الذي تكتب به الرسائل والمعايدات بين شقيق أمي وزوج شقيقتها، كلاهما يرسل التحية والشكر على ما تقوم به هي وزوجها من رعاية لما خلفوه وراءهم من مسؤوليات.
تنتعش ذاكرة أمي إثر قراءتي للرسائل، لكنها تئد ما تذكرته سريعاً: "سيبك من كلامهم ده... شوفيلي كده بطاقة عواطف". كانت عواطف الصديقة والجارة في منزل عائلة أمي، تربيا معاً، وسبقت عواطف أمي في الزواج، وسافرت مع زوجها الذي كان يراسل أبي لعلاقة أصبحت أسرية: "أخي العزيز محروس والسيدة حرمه والأنجال الأعزاء، السلام عليكم ورحمة الله، وصلتنا بطاقة المعايدة و نشكرك جداً على المبادرة بإرسال الخطابات، وأعرفك إن سبب عدم إرسالي الخطابات أنني والأولاد كنا نؤدي فريضة الحج هذا العام، ونسأل الله أن يديم عليك الصحة والسعادة ويحفظكم من كل سوء".
أخوك السيد البدوي وزوجتي عواطف البدوي.
اعتمرت أمي وزارت المسجد النبوي، لكنها لم تصعد عرفات، فربما لم نكن على قدر من الإخلاص يكفي لاستجابة الدعوة
الحميمية التي كتبت بها تلك الرسالة القادمة من السعودية كانت شبيهة لصورة البطاقة التي حملت باقة من الزهور تحيط بصورة الكعبة. سمعت أمي تتنهّد وهي ترسل الدعوات لعواطف التي لا تعرف إن كانت حية أم ودعتها كما الآخرين.
في العلبة كانت تقبع هدايانا الأولى لأمي في عيد الأم، بطاقة تحمل صورة أسرة سعيدة ، أم وأب وطفلان، بالتأكيد كانت أسرة غيرنا، وخلف الصورة يظهر خط شقيقتي المنمّق، لا أزال أذكر أنها كانت تفوز في مسابقات الخط العربي، وكنت لا أشترك بها من الأساس. أقرأ على أمي ما كتبناه على البطاقة قبل ثلاثين عاماً: "أمي الحبيبة كل سنة وانتي طيبة وبصحة وسعادة وإن شاء الله تكوني العام القادم على جبل عرفات"، أبناؤك المخلصون ز.م.ش.
اعتمرت أمي وزارت المسجد النبوي، لكنها لم تصعد عرفات، فربما لم نكن على قدر من الإخلاص يكفي لاستجابة الدعوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين