شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
يدرك الجميع في بلادنا أن الأنظمة تتركنا نحيا بلا حقائب نجاة

يدرك الجميع في بلادنا أن الأنظمة تتركنا نحيا بلا حقائب نجاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 27 فبراير 202311:43 ص

صرّحت مارلين البراكس (مديرة المركز الوطني للجيوفيزياء في لبنان) لإحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية، ليل الأربعاء 8 شباط/ فبراير 2023، قائلة: "تمّ تسجيل 11 هزة أرضية في لبنان خلال الساعات الماضية، وهذا الأمر غير عادي"، مضيفة أن "الهزة التي شعر اللبنانيون بها كانت قوتها 4.3 درجات، وهي هزة لا تحصل عادة في لبنان"، خاتمةً أن الهلع لا يفيد، وأنها جهّزت أمتعتها ووضعت فيها جواز السفر ومبلغاً مالياً، قائلةً: "سأغادر المنزل في حال وقوع أي هزّة قوية، وعلى اللبنانيين القيام بالمثل، وتحضير الحقائب هو من إرشادات الدفاع المدني".

ما أن أنهت البراكس كلامها حتى دخل اللبنانيون في موجة من الهلع لم يضاهيها إلا موجة السخرية التي انهالت من كل حدب وصوب، إذ كيف يمكن أن يستفيد المرء من هذه التحضيرات اللوجستية، في حين أن جوازات سفر اللبنانيين "مصادرة"، وبالكاد يمتلكون أوراقهم الثبوتية، ولا كهرباء عندهم ولا مساحات عامة، والغلاء الفاحش يحجب عنهم معظم الحاجيات؟

ناهيك عن سخرية انتشرت تقول: لماذا نحضّر جوازات سفرنا وهي لا تسمح لنا بالسفر إلا إلى سوريا أو تركيا؟ أي إلى الدول التي أصابها الزلزال، بالتالي هي آخر ما يمكن أن يفكر الإنسان بالهرب إليه! (وهو كلام غير صحيح، لأن الدول التي يسمح جواز السفر اللبناني الدخول إليها من دون تأشيرة، أو بتأشيرة مباشرة في المطار، أكثر من ذلك بكثير).

الأنظمة تتركنا نحيا "بعلاً"، لا إرشادات تعطيها ولا حقائب نجاة، لا خطط طوارئ ولا تدريب على الإجلاء، بل على الناس الاهتمام بشؤونهم الحياتية وبشروط عيشهم، كما عليهم أن يأخذوا على عاتقهم متابعة إرشادات السلامة وكل جديد بشأنها

إلا أنه سرعان ما أتضح أن أمر تحضير الحقيبة والالتزام بالإرشادات، هي من الإجراءات المتّبعة والمنشورة على المواقع، وفي منشورات الدفاع المدني اللبناني فعلاً، كما وأنها متبعة في الدول التي تتعرّض للزلازل، والكوارث الطبيعية، بشكل مستمر، وأن ذكر الأمر، كما أتى على لسان البراكس، مسألة طبيعية ولا علاقة لها بجدوى الاستخدام، أو حتى إمكانية حمل الشنطة والهرب، بل تتعلق بأمر واحد أساسي، وهو زيادة احتمالات البقاء على قيد الحياة في حال التعرّض لأي كارثة من أي نوع كان.

إن المشكلة تتموضع هنا بالتحديد، في الثقافة والتربية التي تبثها الدولة ونظامها التربوي بين أفراد الشعب منذ نعومة الأظافر، إذ يفترض أن تأتي آلية تحضير حقيبة الطوارئ كخطوة بديهية لمواجهة أي كارثة طبيعية، وأن تأتي آلية الالتزام بإرشادات السلامة كنتيجة حتمية وجزء من الروتين اليومي أو الشهري أو السنوي، فتأتي احتياطات المواطنين دون أي مجهود يذكر ودون أي شعور بالغرابة.

هذا ما أكّده بعض الأصدقاء المتواجدين في مناطق تشهد الكثير من الهزّات والنشاط الزلزالي: إن حقيبة الطوارئ جاهزة باستمرار، بمعزل عن استخدامها وبمعزل عن القدرة على الوصول السريع إليها، فالقرار العقلاني هو أن يتحضّر المرء ويتهيأ لأي خطر داهم بشكل مسبق، لا أن ينتظر الكارثة ليتخذ أي إجراء. إن ما نسخر منه في بلادنا اليوم هو بسبب عدم فقهنا لهذه الثقافات التي تتمحور حول هدف أساس وهو حياة المواطن، كما وأننا لم نَعتَد على النمط من الثقافات التي تبثّ بين المواطنين الشعور بأنهم الغاية الأسمى، غاية الغايات، وأن حياتهم هي أغلى ما يوجد في الدولة، وأن حياة كل فرد فيهم هي غاية وهدف في حد ذاته.

يدرك الجميع في بلادنا أن الأنظمة تتركنا نحيا "بعلاً" (عندما يشرب الزَّرْع بعرُوقه فيستغني عن السَّقْي)، لا إرشادات تعطيها ولا حقائب نجاة، لا خطط طوارئ ولا تدريب على الإجلاء، بل على الناس الاهتمام بشؤونهم الحياتية وبشروط عيشهم، كما عليهم أن يأخذوا على عاتقهم متابعة إرشادات السلامة وكل جديد بشأنها، فلطالما عاش النظام في لبنان مثلاً على دماء وأشلاء اللبنانيين، فهل ننسى أن النظام نفسه عاد وتكوّن على مأساة أكثر من 200 ألف قتيل ومخطوف ومفقود ومعوّق، جرّاء حرب طائفية خاضتها القوى نفسها القابضة على الدولة اليوم بعد أن سامحت نفسها على ما اقترفته؟ كيف يمكن لمن عاش وقرّش أرباحه وسلطته على دماء الناس، أن يهتم ببثّ ثقافة تعمل على تحفيز روح العيش عندهم، في حين أن استمراره يقوم على موتهم؟ (يذكر اللبنانيون جيداً كيف انهالت الإرشادات بشأن حقيبة الطوارئ في السيارات، وسرعان ما تبيّن أنه اهتمام نابع من تصريف صفقة تجارية استقدم بموجبها أحد أفراد الأوليغارشية الحاكمة مجموعة من تلك الحقائب).

أما في سوريا، فهل ننسى أن النظام لم يترك برميلاً متفجراً إلا ورماه على الشعب السوري، ممن يقطنون خارج نفوذه بهدف القضاء على سلامتهم جميعاً، كما أنه لم يدع صاحب رأي مخالف بشأن الحياة وشروط العيش الكريم إلا وسجنه، وأنه دفن كل صاحب رأي سياسي، وأن نظامه هو من أطلق شعار "الأسد أو نحرق البلد"، بالإضافة لممارسته وإنهاك شعبه بثقافة الاستتباع والنميمة وقلة الثقة والرأي الواحد، لا ثقافة السلامة والعيش الكريم، وصولاً اليوم إلى أخبار تؤكد شنّه بعض الغارات على عدد من المناطق التي شهدت الزلزال ليزيد المأساة مأساةً؟

السخرية من جدوى أمر الإرشادات وثقافة السلامة آلية دفاعية اعتدنا على ممارستها في بلاد تتهيأ أنظمتها وقواها لممارسة كل شيء بهدف الاستمرار، فقد نشأنا على ثقافات تقوم على الأنانية والفردية والتهوّر والنميمة

ناهيك عن "تعفيش" المساعدات ومصادرتها، إما بهدف الاتجار بها، وإما لمنعها عن الناجين والمحتاجين في مناطق سيطرته ونفوذه قبل المناطق الاخرى، وأنه يحاول ابتزاز دول العالم لانتزاع اعتراف ولو على دماء وجثث كل من يركنون تحت الردم، والتي تحاول بعض الدول كسره، لاسيما دول الخليج العربي التي تتخذ موقفاً من نظام الأسد وتعرف أن مساعداتها لن تصل إلى مناطق المعارضة إلا عبر تركيا.

لقد رسم هذا النظام معادلته بوضوح: كل القتلى الذين خلّفهم الزلزال مظلومون ابتز العالم بهم، أما القتلى الذين أخلّفهم أنا فمعيار لوطنيتي وسيادتي وعروبتي.

لربما يعتقد البعض أن السخرية من جدوى أمر الإرشادات وثقافة السلامة آلية دفاعية اعتدنا على ممارستها في بلاد تتهيأ أنظمتها وقواها لممارسة كل شيء بهدف الاستمرار، فقد نشأنا على ثقافات تقوم على الأنانية والفردية والتهوّر والنميمة، على الانجرار العاطفي لا العقلاني، على ازدراء الحياة من منطلقات "ذكورية" محضة قائمة على تقديس القوّة وكل مفاهيم البطولة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image