بعد عام على وقوع الجريمة المروّعة في بلدة أنصار في جنوب لبنان، والتي حصلت في 3 آذار/ مارس 2022، وقضت فيها الشقيقات الثلاث، ريما وتالا ومنال صفاوي وأمهم باسمة، على يد المتهمَين حسين فيّاض (لبناني الجنسية)، وحسن الغناش (سوري الجنسية)، قرر القاضي سامي صدقي، تأجيل محاكمة فيّاض إلى العاشر من شهر أيار/ مايو المقبل، لتعيين طبيب شرعي نفسي له، وهو ما أثار غضب أهالي الضحايا، الذين رأوا فيه تضييعاً للمحاكمة والوقت، ومحاولةً للتخفيف من العقوبة بحق الجناة.
وكان المتهم حسين فيّاض، على علاقة مع الضحايا، ويتردد إلى بيتهم بنيّة الزواج من إحداهنّ، إلا أن خلافاً وقع بينه وبينها، وعندها أوهم فيّاض العائلة بأنه يحاول إصلاح الأمر، ودعاهن إلى العشاء، وفي الطريق اقتادهن إلى مغارة في البلدة حيث كان قد حضّر المكان لارتكاب جريمته بمشاركة المتهم الثاني الغنّاش، وما أن وصلوا إلى المكان حتى أنزلهن فيّاض وبدأ بإطلاق النار عليهن وأرداهن بمشاركة الغنّاش، بعدها دفنا جثثهن داخل المغارة ووضعا الإسمنت فوقهن.
ذريعة المرض النفسي
يعيد قرار القاضي إلى الواجهة عشرات القضايا التي لجأ فيها المتهمون إلى التذرع بالمرض النفسي
يعيد قرار القاضي إلى الواجهة عشرات القضايا التي حصلت في لبنان، والتي لجأ فيها موكلو الدفاع عن المتهمين أو المتهمون أنفسهم، إلى التذرع بالمرض النفسي للإفلات من العقوبة، فقد تذرّع الجاني طارق يتيم، أمام المحكمة، بحالته النفسية والعصبية التي دفعته إلى قتل المغدور جورج الريف، في 16 تموز/ يوليو 2015، بعد طعنه طعنات عدة في بيروت على خلفية أفضلية المرور، وهو ما حصل أيضاً في جريمة قتل المغدور روي حاموش على يد الجاني محمد الأحمر في 7 حزيران/ يونيو 2017، بعدما أطلق عليه النار من مسدس حربي على خلفية حادث سير. وفي هاتين القضيتين أثبت الأطباء النفسيّون أنهما سليمان نفسيّاً.
أما في مصر، وبالعودة إلى جريمة قتل المهندسة نانسي أحمد فؤاد وطفليها أنس وهديل، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1997، في ما عُرف حينها باسم مذبحة مدينة نصر، على أيدي ثلاثة شبّان دخلوا منزلها بهدف السرقة، فقال أحد المجرمين، واسمه محمد زكريا، حينها: "عندما طعنت المغدورة في بطنها لم أكن في وعيي"، لكن القاضي لم يأخذ بهذه الادعاءات.
وفي الأردن عام 2019، أقدم شخص يُدعى أبو ركان، على قتل المستأجر لديه، وقام بسلخ لحمه عن عظمه، ولم يكتفِ بذلك، بل أقدم على حرق عظامه لإخفائها وفرم لحمه بواسطة ماكينة لفرم اللحوم، ووضعها في كيس ورماها داخل سد الملك طلال، وما لبثت أن ألقت الشرطة القبض عليه، إلا أن الجاني حاول الإفلات من العقوبة من خلال التذرع بإصابته بأمراض نفسيّة وعقليّة. لكن المحكمة لم تعر اهتماماً لادّعائه، كونه بدا طبيعيّاً خلال الاستجواب وجلسات المحاكمة، وكذلك وفقاً للتقارير الطبية.
المعاينة الطبية
يلفت أستاذ القانون الجنائي في الجامعة اللبنانية البروفيسور وسام غيّاض، في حديثه لرصيف22، إلى أن "لدى القاضي سلطةً تقديريةً حول مدى صحّة الوقائع المثارة أمامه ليأخذ بها، أما إذا كانت الأدلّة قانونيةً ودامغةً فلا يمكن الخروج عنها".
ويقول: "في حالة الجرم، دائماً الشك يفسَّر لمصلحة المتهم، ومسألة خضوع المتهم للمعاينة الطبية، مسألة إلزامية ولا بد منها، فالتقرير الطبي هو الذي يثبّت من حيث المبدأ وضع الشخص: هل عندما قام بفعل جرمي كان في حالة نفسية معيّنة أو في حالة جنون أو هل هناك أي مانع من موانع العقاب أو سبب من أسباب التبرير؟ هذا كله له معايير، وهذه المعايير موضوعيّة مرتبطة بمعايير علميّة. الأدلة الطبيّة هي التي تقرر وتحدد".
بمجرد أن تقدّموا للقاضي بطلب لعرض المتهم على طبيب نفسي، وافق مباشرةً من دون دراسة، ومن دون أن يطّلع كفايةً على الملف... فما الذي يريده القاضي، خاصة أنه القضية يُماطل فيها عمداً؟
ويضيف غيّاض: "في أصول المحاكمات المدنية، معطوفةً على أصول المحاكمات الجزائية، لا يمكن أن نهمل دور الخبرة، والخبرة تمتد إلى تقرير الطبيب الشرعي أو الطبيب النفسي الذي يحدّد ما إذا كان هذا الشخص لحظة اقتراف الجرم في وضع نفسي جيّد، أو كان في حالة جنون أو تحت تأثير الكحول أو المخدرات. أي نلجأ إلى الشخص المختص ليقول لنا ما هي الحالة النفسية عند الجاني، والقانون والمحكمة يأخذان بهذه الخبرة إلى حد ما".
وبالعودة إلى جريمة أنصار، يرى غيّاض أن "قيام شخصين بقتل ثلاث بنات وأمّهن بطريقة مدروسة ودقيقة، ضلّلوا معها التحقيقات في البداية، فهذا يعني أن من قام بالجريمة حاضر ذهنياً، والكلام عن عرضه على طبيب نفسي لا يمكن وصفه إلا بأنه 'تجليطة'"، وينبّه إلى أن "الشخص حتى لو كانت لديه حالة نفسية، فهذا لا يُعدّ مانعاً من موانع العقاب، بل يؤدي إلى تخفيف المسؤلية ليس أكثر، وهم يريدون من هذا الأمر أن يخففوا العقوبة عن القاتل من الإعدام إلى الأشغال الشاقّة".
تسويف ومماطلة
يرى المحامي حسن بزّي، وهو من أقارب الضحايا، في حديثه إلى رصيف22، أن "المقصود من قرار القاضي هو تمييع المحاكمة وكسب الوقت، والدليل على ذلك تأجيل الجلسات في كل مرة مدةّ شهرين ونصف، إذ يُفترض أن تكون الجلسات كل أسبوع"، ويلفت إلى أن "الإشكالية ليست في حقوق المتهم وإنما في المماطلة، فغياب الرئيس وسفره في الجلسة الأولى خطأ جسيم، فلا شيء يُبرر غياب القاضي عن محاكمة تعني الشعب اللبناني، وفي كل مرة يؤجّل الجلسة 70 يوماً، وهذا أمر غير مقبول، ويدلّ على الاستهتار بالقضية".
في أصول المحاكمات المدنية، معطوفةً على أصول المحاكمات الجزائية، لا يمكن أن نهمل دور الخبرة
الأهلية والإدراك من شروط الإدانة، وتالياً إذا ثبت أن الشخص عديم الأهلية، فلا يمكن محاكمته في حال افتعل الجريمة، وبحسب بزّي، "هم يلعبون على هذه النقطة"، محذراً من "التذرع بهذه الأسباب لتبرئة المتهم أو تخفيف عقوبته، وهذا لعب بالنار. بمجرد أن تقدّموا للقاضي بطلب لعرض المتهم على طبيب نفسي، وافق مباشرةً من دون دراسة، ومن دون أن يطّلع كفايةً على الملف، ولم يقرأ في الاتهام من خلال الوقائع الوعي التام للجناة، وهذا أمر يثير الريبة، إذ كان يفترض أن يقوم بالتدقيق أكثر ويضم الطلب إلى الأساس".
من جهته، يلفت وكيل الدفاع عن عائلة الضحايا المحامي ماهر جابر، وهو ابن بلدة أنصار أيضاً، في حديثه لرصيف22، إلى أن "حق الدفاع مشروع وهو ليس ضده، وحتى موضوع البحث في أهلية المتهم وما إذا كان مريضاً نفسيّاً أو لا، لكن المشكلة هي المماطلة في المحاكمة وتأجيلها، إذ لماذا لا تؤجل المحاكمة يوماً أو أسبوعاً؟ هذا الملف يمكن أن ننهيه في أسبوعين أو ثلاثة ونصدر الحكم"، ويسأل: "فليكشف الطبيب الشرعي على المتهم، لا مشكلة في ذلك، لكن هذه العملية لا تحتاج إلى أكثر من جلسة، يصدر الطبيب تقريره من بعدها، لكن لماذا هذا التسويف؟".
ويضيف: "من خلال الوقائع التي قام بها الجانيان، فهي تُعدّ جريمةً منظمةً ودقيقةً، وقد استطاعا أن يضلّلا التحقيقات وأن يحتالا على العائلة كلّها، وحضّرا مسرح الجريمة بدقّة، وتالياً لا يمكن أن يكونا إلا على درجة عالية من الدراية بما يقومان به".
مستقبل المحاكمة
بحسب معلومات رصيف22، فإن مدير المراكز النفسية المعروفة في لبنان، والقريب من المتّهم فيّاض، ينوي إعطاءه إفادةً بأنه مريض نفسيّاً، وعليه، يعلّق بزّي بالقول: "مدير المركز هو زوج ابنة عم المتّهم حسين فياض، ونحن ننتظر من سيُعيَّن للكشف عليه، وعندها لكل حادث حديث".
اللافت، أن القاضي صدقي وبعد تأجيل المحاكمة واعتراض العائلة عليه، هدد بتوقيف والد الضحايا وخالتهن لاعتراضهما على التأجيل، وحاول ضرب والد الضحايا على وجهه، بحسب رواية من حضروا المحاكمة، الأمر الذي أثار دهشة المحامين والحضور، وهنا يستغرب بزي ما حصل، ويلفت إلى أن "القاضي يعالج القضايا المثارة أمامه بتفّهم ومن دون حقد، كذلك يتفهم وجع أهالي الضحية، فكيف إذا كنّ ثلاث فتيات وأمّهنّ؟".
"هناك تدخل سياسيّ لتمييع القضية، فمنذ اللحظات الأولى لاختفاء الأم وبناتها، تم تسكير الملف في محكمة النبطية تحت حجّة أن الفتيات غادرن مع أمهن البلاد"... لماذا؟
ويخشى من أن يكون "هناك تدخل سياسيّ لتمييع القضية، فمنذ اللحظات الأولى لاختفاء الأم وبناتها، تم تسكير الملف في محكمة النبطية تحت حجّة أن الفتيات غادرن مع أمهن البلاد، وتركن الوالد، وبدأوا يتعرّضوا لكرامتهن وشرفهن، وبكل سذاجة أُقفل الملف حينها".
من جهته، يُحذّر جابر من "مغبّة الاستخفاف بهذه القضية من قبل القضاء، من خلال التسويف والمماطلة، حتى لا يحصل أي تصادم بين أبناء البلدة الواحدة في أنصار، فأهالي الضحايا لجأوا إلى القضاء والقانون لكي تتحقق العدالة في قضية بناتهم وأمّهن"، وتعليقاً على مجريات الجلسة الأخيرة، يرى أن الذي حصل أوقع الخصومة مع القاضي، ويقول: "نحن ننتظر اليوم أن يتنحّى القاضي أو سنطلب نحن كفّ يده عن الملف".
عادةً ما يلجأ محامو المجرمين إلى التذرع بعدم الأهلية لموكليهم، كي يخففوا عنهم الأحكام والعقوبات، وهذا أمر قانوني، لكن خطورته تكمن في توقّف المحاكمات إلى حين البتّ بأهلية المتهمين، والتي غالباً ما تأخذ أوقاتاً طويلةً في لبنان، بعكس الدول العربية والغرب، والأخطر من كل ذلك أن يصبح التذرّع بعدم الأهلية مخرجاً للمجرمين للإفلات من العقاب، أو التخفيف من العقوبة. عندها يضيع دم الضحايا وتتهشّم العدالة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...