لم أكن أذكر خالي جيداً. كنت في التاسعة من عمري، عندما سافر إلى أمريكا بعد خمس سنوات قضاها في الشام، بعيداً عن أهله وأصدقائه في لبنان.
عندما سألت والدتي عن سبب رحيله، ردّت بالجواب التقليدي، وهو أنه ذهب ليبحث عن مستقبل أفضل.
بدأ خالي يرسل لنا، كل عامٍ، بطاقة معايدة كنت أنتظرها بفارغ الصبر في فترة الميلاد ورأس السنة. كيف لا، وهو يسكن في نيويورك المدينة التي كنت أشاهدها في أفلام السينما، المدينة التي كنت أظن أن حلم كل انسان هو أن يزورها أو يسكن فيها؟
بقي طوني في مخيلتي شخصيةً غريبةً، وأسطورةً مثل سانتا كلوز، إلى أن قام بزيارة لبنان للمرّة الأولى والأخيرة، عندما كنت في الخامسة عشر من عمري.
أنهى خالي حياته لأنه لم يكن هناك من يسمع صراخه الذي كان يخبّئه خلف ضحكاته الجميلة. على الرغم من أنه كان يعيش في مدينة تتقبل المثليين/ ات، وتمنحهم/ نّ حقوقهم/ نّ، إلا أنه كان يطمح للحصول على قبول عائلته ومجتمعه
سمعت صوت ضحكته المدوية في أرجاء منزل جدتي قبل أن أدخل لأراه. وعندما نظرت إليه، تفاجأت بلباسه الجميل ورائحة عطره الذكية، وبشخصيته المرحة وطاقته الإيجابية. حتى طريقة تعبيره عن الحب، كانت تختلف عن طرائق باقي أخوالي، فقد كان يغمر الجميع ويقبّل بحرارة، ويتحدث بصوتٍ عالٍ ليخبرنا عن مغامراته في نيويورك، وكان يرقص ويجبرنا على الرقص معه.
لم أرَ في حياتي رجلاً يتمايل بخصره مثله، رجلاً يقرأ بأوراق التارو taro، ليخبرنا بما ينتظرنا في المستقبل. أذكر أنه توقّع لي السفر، وأخبرني بأنني سأتمرّد على المجتمع. ضحكت وقتها، إذ كنت الابنة الخجولة، والمطيعة، التي تخاف من كل شيء.
غير أنه كان محقاً في كل ما قاله...
أحببته كثيراً، وتعلّقت به، إلّا أنه عاد إلى نيويورك، ولم يبقَ لي إلا أخوالي "الذكوريين" الذين لا يعرفون الرقص ولا المرح ولا قراءة الفنجان.
بعد سنتين من زيارته لبنان، وصلنا خبر موته المفجع. كان في الخامسة والأربعين من عمره. كيف مات؟ هل كان مريضاً؟ لم يُجِب أحد عن تساؤلاتي.
بقي سبب موته غامضاً لسنوات عدة، إلى أن سافرت بنفسي إلى نيويورك لأزور قبره وأبحث عن الحقيقة.
وجدت اسمه محفوراً على شاهدة القبر، محاطاً بالزهور والأشجار الجميلة وسط مدينة برونكس في نيويورك، مكانه المفضّل في العالم. كيف لا، وهي المدينة الّتي أعطته ما كان يتمنّاه، وسمحت له بأن يكون على طبيعته من دون أن يلجأ إلى النفاق الذي تتغذى منه مجتمعاتنا العربية؟
عرفت هناك أنه انتحر، لكن كيف لطوني الرقيق الجميل، عاشق الحياة، أن يقتل نفسه؟
بدأت أبحث وأسأل وأتحرّى، إلى أن عرفت من أصدقائه في أمريكا، أنه كان خارجاً عن المألوف، وكاسراً لقيود المجتمع، ومتحدّياً لعادات قبيلته وتقاليدها. خالي كان مثلياً.
بدأت أبحث في صندوق ذكرياتي عن أي مؤشرات تدلّ على صحة هذه النظرية التي أصبحت واضحةً كعين الشمس أمامي، إذ لطالما شعرت بأنه مختلف، لكنني لم أعرف ما هو سرّ هذا الاختلاف، فالمثلية، بحسب البعض، "حرام"، والرجل المثلي لا مكان له في مجتمعاتنا. حاولت أن أسأل إخوته وأخواته إلّا أنهم أنكروا هذه الحقيقة لأن المثلية بالنسبة لهم هي "الشواذ" بعينه.
اكتشفت أنّ سبب هجرته كانت المعاملة السيئة من قبل والده وشقيقه الأكبر.
ليته انتظر قليلاً... لوجد في ابنة أخته، أنا، حليفةً شرسةً، تنتفض لحقوقه وبقائه. لو أنه لم يستسلم لليأس، لرآني اليوم أقف بجانبه، أستمع إلى وجعه وأضحك مع ضحكاته، أنا المدافعة الشرسة عن حقوق مجتمع الميم-عين
لم يتقبّلوا ضحكاته وطريقة لبسه. الرجل بالنسبة لهم يقمع ويضرب ويفرض رأيه على نساء عائلته. الرجل يصرخ ويبطش ولا يضع العطور. الرجل لا يرقص ولا يقرأ البخت.
كان أيضاً محاطاً بمجتمع طرابلسيّ محافظ، مجتمع ينبذ الاختلاف ويتّهم أي شخص يتحداه بأنه خارج عن الطبيعة وغير مرحّب به. أنهى خالي حياته لأنه لم يكن هناك من يسمع صراخه الذي كان يخبّئه خلف ضحكاته الجميلة. على الرغم من أنه كان يعيش في مدينة تتقبل المثليين/ ات، وتمنحهم/ نّ حقوقهم/ نّ، إلا أنه كان يطمح للحصول على قبول عائلته ومجتمعه، ولم يتمكن من الخروج من الحالة النفسية السيئة التي كان يعاني منها.
ليته انتظر قليلاً... لوجد في ابنة أخته، أنا، حليفةً شرسةً، تنتفض لحقوقه وبقائه. لو أنه لم يستسلم لليأس، لرآني اليوم أقف بجانبه، أستمع إلى وجعه وأضحك مع ضحكاته، أنا المدافعة الشرسة عن حقوق مجتمع الميم-عين. لو كنت أعلم أنه كان بحاجة إليّ!
حتى هذه اللحظة، لا يتحدث أحد من أفراد العائلة عن طوني، الذي عاش غريباً ومات غريباً، من دون أن يشعر بدفئهم، ومن دون أن ينظروا إليه كإنسان له الحق في أن يحبّ من يشاء.
خسر العالم إنساناً خلوقاً، لطيفاً، كريماً، ومليئاً بالحيوية والطاقة الإيجابية. فالناس في مجتمعاتنا تفضّل الشخص المنافق الذي يتماهى مع أفكارهم ومعتقداتهم، على الإنسان المختلف الذي قد يحررهم من قيود أفكارهم البالية، وقبائلهم التي تكره السعادة.
يبقى الحديث عن الرغبة في الانتحار، مسألةً حسّاسةً، لكن هنالك من يمكن أن يسمعكم/ نّ. حملة Embrace، توفّر خطاً ساخناً لمساعدة الذين يفكرون في الانتحار أو يعيشون ضغوطاً نفسيةً، أياً كانت. إليكم/ نّ الرقم الذي يمكّنكم/ نّ من الوصول إلى القائمين/ ات على الحملة للحديث معهم/ نّ:
96101341941+.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...