شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حينها قلت لأمي: هل يقصدون مرض سرطان البحر؟

حينها قلت لأمي: هل يقصدون مرض سرطان البحر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 25 مارس 202311:30 ص

الهامش/المتن

 

أخبرَنا نجيب محفوظ أنّ "آفة حارتنا النسيان"، لكني، اليوم، بعدما تغلغلتُ في الحياة، واختبرتُها عن قرب، أدركتُ أن آفة حارتنا هي الخوف، الانزواء، والاستكانة. أن نقف في مكاننا نشاهد حياتنا وهي تمرّ. أن نبتعد عن الصراعات. أن نُفضّل الطرق الآمنة، وأن نرفض المحاولة على الرغم من أنها السبيل الوحيد للعيش!

منذ خمس سنواتٍ وجدتُني أغرق في فترة اكتئابٍ طويلةٍ بعد وفاة أبي. أغلقتُ باب غرفتي وبكيت، أخفيتُ وجهي عن العالم، ولم يكن لي أيّ وجود. لكن، ذات يوم، أنارَت عقلي صورة أبي. كم كان يشعّ طاقة، يكدّ ويعمل ويتحرّك بدلاً من الجمود الذي لا معنى له، على الرغم من مقاومته حزناً عميقاً في داخله.

لاحقاً، بدأَت تظهر صورٌ أخرى تنير لي الطريق. صور من قاوم يأسه وعجزه وألمه، وصور من لم يستطع فعلها وركن إلى أمانٍ زائفٍ ولو أنه أراد المقاومة.

عندها، قرّرتُ كتابة رسائل عدّة تذكّرني بهم، وتكون عوناً لي عندما ينتابني حزنٌ طويلٌ أو أغرق في يأسٍ لا مخرج منه، فأعاود النظر إليهم، وأخبر نفسي: "أنا ما زلتُ حيّة، وبإمكاني فعل شيءٍ ما، ولو كان خطوةً صغيرةً أو حلماً بسيطاً. لقد فعلوها من قبلي ولم يستسلموا، وأنا في هذه اللحظة، يجب أن أقاوم".

رسالة أبي

أذكر أنّه كان يوماً يشبه كلّ الأيام، إلى أنّ رنَّ جرس الهاتف، وسمعت صوت عمّك مخنوقاً، يخبرني أنه في وسط الشارع ويشعر بألمٍ حادٍّ في صدره! طلبت منه على الفور أن يذهب إلى أقرب مستشفى، وهرولت إليه مسرعاً… لكني لم ألحق به.

كان الليل يحيط بنا حينما جلبته في تاكسي إلى البيت… جلبته جسداً بلا روح، ومن بعد رحيله حاوطتني الظلمة، وغرقت في أسئلة لا معنى لها: لماذا لم أُعط فرصة وداعه؟ لماذا رحل باكراً؟ كيف لي العيش من دونه؟ الحياة بلا طعم وأنا أفتقده. ما العمل؟ لا شيء… لم يصلني ردٌّ إلّا الصمت. بعد ركود طويل أدركت أنّ شيئاً لن يتغيّر، فقرّرت أن أنهض، وأخبرتكم جميعاً بأنه حان الوقت لننتقل إلى بيتنا الجديد. من يومها، قرّرت زراعة حديقتي، أو بالأحرى حديقة عمّك. هل تعرفين أنّه كان يحبّ النعناع؟ ولذلك كنت أزرعه بكثرة، لأخبره بأنني ما زلت أذكره، وأنّنا على موعد، ومهما طال الوقت، فإنّ لنا لقاء.

كم من الأشياء التي أردت فعلها. ماذا كان ليحدث لو قاومت ذلك الخوف؟ لو تجرّأت على المخاطرة؟ لو ظهرت كما أنا؟ أنا الآن ملكٌ لخوفي، ولهذا عليكِ يا ابنتي أن تقاومي، وأن تواصلي البحث عن نفسكِ، وألّا تخافي مثلي... مجاز

نحن أيضاً يا ابنتي، هل تذكرين حين كنّا نسير معاً في شارعٍ مُظلم، فأمسكتِ بيدي بقوّة وأخبرتِني: "أنا خائفة يا أبي"، وأجبتك مسرعاً: "مما تخافين؟ أنا معك"، وذلك كان خطأي. نسيت أنني لن أبقى معك طوال الطريق. واليوم، بعد أن تفرّقنا وأصبحتِ وحدك، لن أنصحكِ بأن تكوني خارقة وقويّة طوال الوقت، لكن تحلّي بإيمان داخلي… مهما كلّفك الأمر لا تغرقي في ظلمتك. قاومي حزنك وحذاري أن يقيّدك. عيشي، ولا تتهاوني لحظة في حقّك أن تعيشي.

رسالة أمي

هل تذكرين جدّتك؟ ربّما لا، لكنّي ما زلت أتذكّر كلّ كلماتها التي ردّدتها على أذني، وحفظتهم جيّداً وردّدتهم بدوري على مسمعكِ من دون كلل: حافظي على سمعتك؛ ماذا سيقول الناس عنك؟ تلك قواعد المجتمع وأصوله، إياكِ والانحراف عنها. إذا ضايقك أحدهم ابتعدي عنه، فمن خاف سلم. لا تخاطري، كوني في أمان، وسيري بمحاذاة الحائط…

لم أدرك أن الجدران تنهار فتترك أثرَ موتٍ أبدياً، وتخلق نوعاً جديداً من الأحياء/الموتى. يأكلون ويشربون ثمّ يهربون بالنوم. نوم طويل يكتم على عقلك وقلبك، ثمّ يمحو مشاعرك. هذا ما علّمتني إياه جدّتك. شدّتني من أذني حين صرختُ واعترضتُ على رأيها في محل الأحذية. اختارت لي حذاءً مُغلقاً، فيما أردت حذاء مفتوحاً، أخبرتني أن اختيارها هو الأفضل... وصدّقتها.

كما علموكِ أن تقاومي الحزن والشكوك والخوف والألم، تعلّمي أيضاً أن تقاومي اليأس الذي يزورك مراراً

لاحقاً ربطت لي لساني حينما سمعتني أغني، وقالت: "البنات لا تعلو أصواتهن". ومن حينها تعلّمت الصمت. عندما مات عصفوري وانفجرتُ باكيةً، همست لي قائلة: "إنّه مجرّد عصفور، كفّي عن البكاء، لا تكوني ضعيفة". من يومها وأنا أضع قناعَ الصلابة وأحمل درعَ القوّة، لحدّ جمود ملامحي، وربّما هذا هو السبب في كوني أطيل النظر في وجوه مانيكان الواجهات، أشعر أنّني واحدة منهن، أو ربّما لم أعد أعرف نفسي.

كم من الأشياء التي أردت فعلها. لطالما تساءلت، ماذا كان ليحدث لو قاومت ذلك الخوف؟ لو تجرّأت على المخاطرة؟ لو ظهرت كما أنا؟ أنا الآن ملكٌ لخوفي، ولهذا عليكِ يا ابنتي أن تقاومي، وأن تواصلي البحث عن نفسكِ، وألا تخافي مثلي.

رسالة صديقي

لقد رفضوني للمرّة السابعة، وكلّ مرة لسبب مختلف؛ حيناً لشكلي، وحيناً آخر لأدائي، أو لأنني لست مُميزاً بما يكفي، أو لأنّ كلّ ممثلٍ يمتلك كاريزما خاصّة فيما لا أملك خاصّتي… بت أدور في دائرة مُفرغة، وتحيطني أفكار محبطة، ربّما لست موهوباً بما يكفي، أو قد أكون موهوماً آخر خُلِق في هذا العالم.

بت أقتنع تدريجياً بأنّ هذا الطريق قد لا يكون طريقي، وأنني لن أنال إعجاب الآخرين. هذا هو الفخّ الذي سقطت فيه، التفّ حول قَدَمَيْ وربطهما لوقت طويل. دارت في رأسي أسئلة لا تنتهي، وجعلتني أتراجع وأسير في طرق جانبية، إلى أن مللت تلك اللعبة! قرّرت الخروج لأنّني أيقنت بأن الحصول على إجابة غير مهمّ، بل عدم الخوف من الظهور. عندها عثرت عليكِ، فجذبتُ يدك لنخرج إلى طريق رئيسي واسع يتسع لأحلامنا، لكنك كنتِ تهربين. أخفيتِ كلماتك خلف ظهرك. واجهتُك بالأمر وسألتكِ عن أسباب اختبائك فيما عليكِ إظهار نفسك. فأجبتِ: ربّما كتاباتي تافهة ولن تعجب أحد. قد لا أكون موهوبة من الأساس. سيرفضونني، وهذا مؤلم…

تألّمي ولكن افعلي ما تؤمنين به. لن يقتلكِ الألم، تقتلنا شكوكنا الداخلية. قاوميها ولا تخافي الفشل. ألم المحاولة يصقلك، ولكن ألم الندم يمحي ملامحك. لا تعطه الفرصة.

تألّمي ولكن افعلي ما تؤمنين به. لن يقتلكِ الألم، تقتلنا شكوكنا الداخلية. قاوميها ولا تخافي الفشل. ألم المحاولة يصقلك، ولكن ألم الندم يمحي ملامحك. لا تعطه الفرصة... مجاز

رسالة من غريب

كان الألم يمتلك ألاعيبه وينخر في زوايا جسدي مغيّراً بنيتي. صرت بوجه نحيل وعظام بارزة، كأنني عجوز في الثامنة عشر، لكنني اعتدتُ الأمر. زارني المرض منذ ست سنوات، قلت لأمي وقتها: "هل يقصدون سرطان البحر؟"، حضنتني وهي تبكي. من هنا بدأت رحلتي المتكرّرة من المنيا إلى معهد ناصر. إنها رحلة الألم. لكني امتلكت ألاعيبي الخاصّة أيضاً. كنت أبتاع الحلوى وأخبّئها في حقيبتي، وحينما تحط قَدَمَيْ في المكان أبدأ روتيني المعتاد: أُلقي التحية على العمّال، أقتحم غرفة الأطبّاء ويطردوني منها عنوة وهم يضحكون، أهرب من الممرّضين من طرقة إلى أخرى. لا يهدأ لي بال ولا أشعر بغربة، فأنا ومعهد ناصر صرنا شخصاً واحداً لا يمكن الفصل بينهما. لهذا أتنقّل بين غرف المرضى، أثرثر وأوزّع الحلوى.

رأيتك حينها تزورين صديقتك، فقدّمت نفسي ببساطة: "فودة بونبوني، أقدم نزيل هنا". ضحكتِ. ثمّ أخرجتُ صورة بطّة، ابنة أختي، لا أملُّ الحديث عنها، فقد صارت مشهورة أكثر مني. ربّما السبب ابتسامتها الجميلة كما قلتِ. فردّيت عليك: "نعم إنها تشبهني". لم تستطيعي إخفاء الضحكة عن وجهك. هذه موهبتي، أنا أسخر دوماً من شكلي، ومن النزلاء والممرضين والزوّار، أسخر من أساليب العلاج، والانتظار الطويل، وطريق السفر، والنحيب الذي يحيطني وأكرهه. أسخر من كلّ شيء إلّا المرض، فأنا لا أعيره أي اهتمام، لكن أم ياسر تصرّ على تذكيري به. إنّها ممرّضتي المفضّلة.

رأيتِها يومها، جاءت إلى غرفة صديقتك وعلا صوتها: "يلا يا سي فودة، بَطّل تنطيط وتعالى، ميعاد جلستك جه". فأجبتها مُسرعاً: "يادي النيله، ما تشوفوا حد غيري!"، لكنها لا تتنازل. أسير معها طرقة طويلة، وأختفي في غرفة الكيماوي، ومن بعدها أنزوي، وأتألم، وأصمت...رأيتِني والدموع تتساقط من عيني، فأزحتِ بوجهك بعيداً حتى لا أخجل. هل تدرين؟ أنا لا أبحث عن معنى من كلّ ذلك، فقد أدركت بأنني أختبر ألماً لا يختبره كلّ البشر، لكنّني أقاومه، وسأصحو غداً لأعاود الضحك، وبعد أيام سأعود إلى بطّة، وأحملها فوق كتفي، ونهرول معاً في حقول الزرع. وبعد فترة طويلة أو قصيرة سأعود إلى الدراسة وسأحصل على شهادة الثانوية. لن أكف عن المقاومة، عن الأمل، فذلك ما يجذبني بعيداً عن حافة الانهيار.

رسالة نفسي

حين غرقت في الاكتئاب، عانيت من حالة نوبات ذعر مُتكرّرة (Panic Attack). كنت أصحو بجسدٍ بارد وضربات قلب سريعة تستدعي الذهاب إلى الطوارئ، لتعود الأمور إلى طبيعتها بعد وقت قصير.

ذات مرّة استيقظتُ مع الفجر بأعراضٍ مشابهة، ولا يدقّ في عقلي سوى فكرة واحدة: ستموتين! ستموتين! هممت بالهرولة إلى أمي كالعادة، ومن ثمّ توقّفت. كان عليّ اتخاذ قرار، إذ لم تعد ترضيني تلك الحالة، ولا أريد الاستسلام لها. تراجعت وجلست على الكرسي وقلت في نفسي: "لن أهرول هذه المرة... ليأتِ الموت". لم أنصع لخوفي كما العادة، فهدأ قلبي، واختفت الأعراض، ولم تعاودني ثانية.

لقد انتصرت! فعلتها سابقاً مع لعبة السهام. راهنت على نفسي بأنني سأصيب السهم عند الرقم أربعة. لم أنجح من الرمية الأولى، لكن حصلت على مرادي في الرمية الثامنة. هذا ما فعلته أيضاً عندما أرسلت عشرين رسالة بريدية لنشر قصّتي في أماكن عدّة، وتمّ قبولها في مكانٍ واحدٍ. في النهاية.

إذا كنت قد تعلمتُ شيئاً ولو بسيطاً من كلّ الرسائل التي تلقفتها، فلن يكون أهمّ من المثابرة. إذا رُفضت في الحبّ، حِبّي من جديد. إذا لم يعجبهم كتابتك، اكتبي من جديد. ابحثي عن حلول لمشاكلك. حاولي مراراً، وجرّبي العديد من الطرق، فكما علموكِ أن تقاومي الحزن والشكوك والخوف والألم، تعلّمي أيضاً أن تقاومي اليأس الذي يزورك مراراً، ليخبرك بأنك لست ذات قيمة، بأنك لن تنجحي. لا تصدقيه. كلٌّ منا يستطيع النجاح. ابحثي عن سبيلك ولا تلتفتي بحثاً عن سبل الآخرين. ثابري من أجل نفسك ووجودك.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image