شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا ونورا وعفريت الصياد عواد

أنا ونورا وعفريت الصياد عواد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 18 مارس 202312:13 م

حياكة الكلام


أسير ناحية البحيرة، فوق رصيف غير ممهّد للسير، ضجر من كثرة الأقدام التي داست فوقه، وقت الظهيرة يتزامن مع موعد خروج الصبية من المدرسة. وقفت أشتري الآيس كريم من "بقالة هارون"، بينما كان جمع من الصبية يكتبون على حائط البقالة كلمات بذيئة بالطباشير، لم يفرق جمعهم سوى هارون البقال، وهو يتوعدهم بأنه سوف يفعل بهم محرمات أطاحت بقوانين اليونيسيف.

كان الشارع طويلاً والبحر لا يقترب. فتحت علبة الآيس كريم قبل أن يسيح من حرارة شمس الصيف، تحيطني أسراب الحمام التي عادت للتو ممتلئة البطون من الشبع، بينما هبطت واحدة على الأرض تتلقف بعض حبوب القمح. لا أحد يمشي في الشارع الذي لا ينتهي غيري، حتى ظهرت هي من بعيد.

كانت تمشي بخفّة شديدة، وضربت بنصيحة المطرب الشعبي محمد رشدي "ما تبطل تمشي بحنية لا يقوم زلزال"، عرض الحائط. ألقيت علبة الآيس الكريم الفارغة وأسرعت الخطى لكي أقطع مسافات طريق البحر بسرعة، ومن الناحية الأخرى أقترب منها وأرى ما تخفيه عن خائنة الأعين، تحت ملابسها الشفافة.

 اقتربت منها بعض الشيء. كانت جميلة تشبه الفنانة ميرفت أمين، ولكن هي "حافية على جسر من الحطب"، حيث حطب القطن يصطف على جانبي الطريق بجوار أعواد السمسم. غرقت في جمالها قبل أن أصل البحر الذي يحتفظ لنفسه بالغرق، هي غريبة لا تشبه نساء القرية اللواتي يرتدين الملابس الفضفاضة، لا تبدو عليها مظاهر الغنى. هي فقيرة ولكنها لا تتصالح مع الفقر، تتعامل معه بكبرياء.

وقعت عيني على شعرها الأسود المموج، وعيونها الأوسع من البحر ولا تفنيها جبال الكحل، كنت أتمنى أن يكون ثالثنا الشيطان، ولكن بعض الصبية والنساء يجنون القطن في الحقل القريب. لم أجد مفراً من السير أمامها، نظرت خلفي في حركة مصطنعة ولم أجد لها أثراً وكأن الأرض انشقت وابتلعتها.

*****

 وصلت البحر. كنت أتصبب عرقاً مثل طبيب يجري عملية ولادة لسيدة وضعت توأمين، كان ينتظرني ظلّ شجرة الصفصاف الصامدة على الشط، تتلقى صفعات الموج التي عرّت جذورها. ألقيت بجانبي هاتفي، وأشعلت سيجارة كان دخانها يتطاير بفضل الهواء. أمسكت حجراً صغيراً وألقيت به في المياه ليحدث صوتاً وفقاعات، لكي ينتبه السمك لوجودي وأسمعه حكاياتي السفيهة.

أسير ناحية البحيرة، فوق رصيف غير ممهّد للسير، ضجر من كثرة الأقدام التي داست فوقه. وقفت أشتري الآيس كريم من "بقالة هارون"، بينما كان جمع من الصبية يكتبون على حائط البقالة كلمات بذيئة بالطباشير... مجاز

الهواء ساخن. كان يلزمه علبة آيس كريم أخرى وزجاجة مياه غازية من "بقالة هارون". ملت برأسي للخلف على جذع الشجرة. كنت أسمع أصواتاً غير عادية تقترب مني، كان قطيع من الأغنام يسير في طابور منتظم ليعلن عن قدوم الراعي الذي يسير في المنتصف، بينما يعتمد على كلبه في الحراسة من الخلف. لا أعرف لما يسير بسرعة شديدة، ربما يسابق الزمن حتى لا يصل قبله "ابن كاره"، الراعي الأندلسي سانتياغو، إلى الكنز المدفون قرب أهرامات مصر. هو مراهق بوجه أسمر، يرتدي بنطالاً أعلاه جاكيت بني اللون، يمسك بيده اليمنى عصا يهشّ بها على غنمه، وفي اليسرى هاتف رخيص الثمن، يخرج من بين سماعاته صوت المطرب الشعبي حكيم وهو يؤكد: "الحب ناداني جابني و ودّاني ع الحلو رماني".

مر الراعي وقطيعه وحكيم بسرعة خاطفة وعدت للشرود مرة أخرى، أتأمل مراكب الصيد الصدئة. أمسكت هاتفي كانت عقارب الساعة تقف على الواحدة والثلث، نظرت فجأة أمامي لأجد البحر قد انشقّ عن صياد ظهر كالمارد يقف على حافة المركب، يفرد شباكه بمهارة ويلقيها في الماء لعلها تصطاد سمكاً شاء قدره أن يخرج من بين المياه ويشوى على نار الفرن وتوضع في بطنه التوابل. يساعده طفل يقترب من العاشرة يقوم بالتجديف. بعد أن انتهى من فرد شباكه، جلس على ركبتيه داخل المركب، ووضع براد الشاي على النار. كنت أختلس النظر إليه من وقت لآخر. تمنيت أن يفعلها وينطق ويعزمني على كوب من الشاي.

طلب الرجل من طفله أن يقترب مني ناحية الشط، قفز على البرّ وأمسك حبلاً طويلاً طرفه مربوط في المركب والطرف الأخر ربطه في أحد فروع شجرة الصفصاف. ناولني كوب الشاي الساخن وناولته سيجارة. قال: "علي ابني وأنا اسمي عواد".

أخذ رشفة واحدة من الكوب، وضعه بجواره على الأرض وسألني: "مالك حزين". لم أرد. بعدها تدارك بقية سؤاله وتبعه بجملة: "أنا حزين بس الحزن جميل". كان وقع الجملة متناقضاً لم أسمعه إلا في فلسفة الصياد الذي اختارني لأشاركه الشاي وأحزانه. يبدو أن الرجل الذي لا تفارق وجهه الابتسامة يحمل بداخله حزن دفين أعمق من قاع البحر الذي نجلس أمامه. ابتسمت دون أن أنطق.

كانت مدهشة، لا أكف عن مراقبة حركاتها وهي تداعب طفلها وتضحك. كان صوت ضحكاتها كفيلاً أن يوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا

*****

لا أعرف ما الذي يجعل هذا الغريب يشاركني تفاصيل حياته وهو يراني لأول مرة. كان يقول إنه تعلم في مدرسة الحياة، ولم يتعلم شيئاً في المدرسة سوى كتابة اسمه، وتركها لكي يساعد عائلته التي قرص بطنها الجوع، وقابل في حياته كل أصناف البشر ولم يقتله سوى الغدر والخذلان. يخبرني أنه في مرحلة شبابه كان يعمل طوال النهار ويسهر كل ليلة مع أصدقائه، يتقاسمون الحشيش والخبز، وفي إحدى الليالي دخن الحشيش بشراهة حتى فقد الوعي، وتوقف قلبه وظن أصدقاؤه أنه مات، وبعد نحو ساعة فتح عينيه ليجد نفسه ملقى في الشارع على حافة الرصيف، حافي القدمين بعد أن سرق منه الصحبة حذاءه وحافظة نقوده. تحامل على نفسه ومشى دون أن يعاتب أحداً، وهو يتمنى أن يكون الموت أقرب له من بيته.

في فلسفة الصياد، النذل لا يُعاتَب حتى لا يرتاح ضميره إن وجد. هو يترك دون كلام أو رجعة. كان الرجل يحكي وينظر للمجهول، ربما وقعت عيناه على شباكه التي تقبع تحت الماء في انتظار رزقها من السمك. يأخذ نفساً من سيجارته ويخرج دخانها على شكل دوائر وهو يردد: "الحزن جميل". قالها وهو يضع ساقه فوق الأخرى. كان غريباً وكلامه أغرب، حتى مظهره لا يدل أنه صياد. كان يرتدي بنطالاً أسود، كلاسيكياً وقميصاً أبيض لا ينقصه سوى "ربطة عنق" ليعمل مدرب تنمية بشرية.

ناولته كوب الشاي الفارغ. أمسكه بيده وقال بتأثر شديد: "الأيام شبه قطع السكر بس طعمها مر"، وهو يخرج من جيبه علبة نحاسية بها تبغ، يضعه برفق على ورقة رقيقة، ثم يحكم لفها ويمرّرها على لسانه. بعدها ناولني السيجارة وهو يكمل باقي فلسفته: "الدنيا زي ورقة البفرة دي اللي حمله يتقل عليها ترميه". كانت تقتلني تشبيهات الصياد عواد للأشياء، أحاول الصمت بينما هو يمسك الحصى ويلقيها في المياه التي تقذف له حصاه مرة أخرى إلى الشاطئ.

ناولته كوب الشاي الفارغ. أمسكه بيده وقال بتأثر شديد: "الأيام شبه قطع السكر بس طعمها مر"، وهو يخرج من جيبه علبة نحاسية بها تبغ، يضعه برفق على ورقة رقيقة، ثم يحكم لفها ويمرّرها على لسانه... مجاز

لا تنتهي حواديت عواد. يخبرني أنه صنع سفينته ولم يركب معه سوى طفله علي وزوجته نورا، عندما تخلى عنه الأقربون في أول أزمة مالية طاحنة مرت عليه، خسر فيها كل ما جنى من أموال. كانت زوجته تتظاهر أمام الناس أنهم ملوك، ألقت بهم الأقدار للعيش في بيت صغير متواضع مع الفقراء، وليست زوجة صياد فقير لا يملك سوى مركب قديم، يغرقه ثقب واحد، وشبكة نصفها ممزق، لا تصطاد سوى السمك الغبي الذي يجعله لا يتفادى فراغات الشبكة الواسعة. فجأة توقف عن الحديث. كنت أظن أنه ربما شعر أن كلامه أصابني بنوبات الصداع، ولكن توقفه كان بسبب قدوم تلك الجميلة التي قابلتني في منتصف الطريق ثم اختفت.

*****

قبل أن تصل ببضع خطوات قال: "زوجتي نورا". وقفت على حافة الشاطئ وناولت طفلها إناء به بعض الأكل المعد للطعام، يغطيه "شال" فضي اللون، وتركت شعرها ينافس موج البحر، حر لا يعرف الهزيمة. كانت ترتدي فستاناً أبيض، به ثقوب على الكتف دخلت منها أشعة الشمس، كان فستانها قصيراً بعض الشيء، كشف عن قدمها اليسرى عندما وضعتها فوق حافة المركب، قبل أن يمسك طفلها بيدها ويجذبها للداخل. كانت مدهشة، لا أكف عن مراقبة حركاتها وهي تداعب طفلها وتضحك. كان صوت ضحكاتها كفيلاً أن يوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لم أفق من دهشتي إلا على لسعة السيجارة التي تآكلت وهي بين أصابعي وصوت عواد وهو يخبرني بالرحيل.

فك الحبل المربوط في جذع شجرة الصفصاف وألقاه في المركب، وودعني ومشى ومعه نورا. أمسكت هاتفي ومسحت شاشته من حبات الرمل، وغادرت لأقطع الطريق الطويل مرة أخرى، ولكني لم أحس بعناء المشي وأصبع قدمي المحشورة في حذاء جديد لم تنهكه طول المسافات التي تجعله يوسع عن مقاسه. كان تفكيري ينحصر في فلسفة عواد وجمال نورا. وصلت إلى أول الطريق الرئيسي عند "بقالة هارون". كان يمسك قطعة قماش مبللة ويمسح من على جدران بقالته الكلمات البذيئة التي كتبها الصبية بالطباشير.

طلبت منه زجاجة مياه غازية، ناولني الزجاجة وهو يسألني إذا ما كنت على البحر، فأجبته بنعم، قال: "لا تذهب بمفردك مرة أخرى، لأن المكان الذي اتجهت نحوه تسكنه العفاريت". قلت بسخرية: "إنها أساطير الأولين"، رد هارون بقوة العالم ببواطن الأمور أنها حقيقية، وأضاف أنه قبل عامين غرق رجل يدعى عواد ومعه زوجته وطفلهما، كانوا في زيارة لأقاربه، وذات يوم خرج دون أن يخبر أحداً، وركب قارباً به ثقب كبير، وغرق في منتصف البحر أمام شجرة الصفصاف، وأشار بأصبعيه السبابة والخنصر، وقبل أن يكمل جملته الأخيرة كنت قد أغرقت وجهه بالمياه الغازية قبل أن تصل إلي البلعوم، وتركته يمسح وجهه بقطعة القماش التي كان يمسح به الطباشير من فوق جدرانه، ولم أذهب مرة ثانية لذلك المكان الملعون، ليس خوفاً من عواد وعفريته، ولكن من "هارون" بعد أن سمعته وهو يتوعد الصبية أنه سوف يفعل بهم محرمات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image