شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
محمد رويشة الفنان والإنسان والذاكرة... نجم لم يأفل بعد ترجّله عن صهوة الحياة

محمد رويشة الفنان والإنسان والذاكرة... نجم لم يأفل بعد ترجّله عن صهوة الحياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 يناير 202203:32 م

كثر من الفنانين يرحلون إلى مثواهم الأخير تاركين وراءهم جرحاً في القلب، وقليلون أيضاً من يرحلون من دون أن ترحل ذكرى آلاتهم وأغانيهم. هكذا هي الحال بالنسبة إلى عراب الأغنية الأمازيغية في المغرب، الفنان محمد رويشة (1950-2012).

بعد عقد على رحليه، لا زالت أغانيه الخالدة إناس إناس، وغرست وردة، وسامحي يا يما، شاهدةً على مروره كنجم بازغ في سماء الفنّ المغربي والموسيقى الأمازيغية، بعد أن سرقه الموت من دون استئذان، وبكت مدينة خنيفرة، ومعها مدن المغرب، رحيل روحه في السابع عشر من كانون الأول/ يناير 2012، هو الذي كان يملأ سهرات العالم دفئاً على شاشة القناتين الأولى والثانية في السهرات الموسيقية التي تبثها كل سبت.

ريشة من جبال الأطلس

إن كان يشتهر بـ"رْوِيشَة"، فإن اسمه الحقيقي هو محمد الهواري بن مولاي لحسن من مدينة خنيفرة الواقعة في جبال الأطلس المتوسط. ترعرع الفنان على إيقاعات الأغنية الأمازيغية، وعشق آلة الوْتَارْ منذ طفولته، إذ بدأ مشواره الفني في سن مبكرة، وهنا انطلقت شرارة عندليب الأغنية الأمازيغية الذي كان وحيد أمه، وكان أباها وابنها البار؛ تحمّل المسؤولية في سبيلها، وكانت ملهمته التي استوحى منها كلماته، وغنى لها.

شكون ينساك آ رويشة، هكذا ردّد مغن مغربي في أغنية تحيي نجم الموسيقى الأمازيغية الراحل محمد رويشة. بعد 10 أعوام، على وفاة"عندليب الأطلس" ما زال حاضرا في قلوب الصغار والكبار ... وتجاوزت أغانيه الحدود

لا بد لكل عابر من جبال الأطلس أن يمر ويسمع صدى أغانيه تتردد بين فجاجها، في المقاهي الشعبية والأعراس وغيرها. وحيثما ولّيت وأنت في طريقك في الأطلس من خنيفرة إلى إفران ومرريت وأزرو وغيرها من مدنه وقراه، تسمع أغانيه، وتستوقفك خالدته: "إناس إيناس ما يريخ أداسيخ إزمان/ أونا وريوفين مغاس إيش إونا ذتمون/ أورذا إيسناقس د صارث غاس الجيب إخوان/ الدنيت أوريتريت الدنيت أوريتريت/ أسينغا أسينغا القنض أباعدي أوبريد دوسمون" (قل له قل له ماذا عساي أفعل للزمان/ من لم يجد ما يقدمه للحبيب/ لا ينقص من كبرياء المرء إلا الفقر/ يا أيتها الدنيا لماذا لا تريديني/ اشتقت إلى الحبيب والطريق إليه بعيد).


لقد كانت إيناس إيناس سفيرة الأغنية الأمازيغية إلى بلدان العالم، فغنّاها بها الكبير والصغير، وأداها فنانون في كل مكان داخل المغرب وخارجه، وتجاوز صداها حدود الممكن. غنّى رويشة عن الأم وعن الحب والحياة والكفاح، وكان صوت سكان الأطلس المنسيين.

تحكي الصحافية في الإذاعة المغربية الأمازيغية، خديجة بوصبري، لرصيف22، عن حسّه الإنساني، وكيف كان بيته مفتوحاً للجميع. وتتذكر تسجيل برنامج إذاعي خُصصت إحدى حلقاته صيف 2010، للفنان رويشة. كان، كما تتذكّر، حواراً شيّقاً في بيته في مدينة خنيفرة، حيث كانت جلسة فنية أمطنا فيها اللثام عن جوانب مهمة من مساره الفني، فمنح من وقته الحلقة ساعاتٍ طوالاً تحدث فيها بكل أريحية عن حياته وفنه.

في حديثها عن الراحل، تقول بوصبري إنه كان مستمعاً جيداً يؤمن بالتنوع الثقافي والموسيقي لكل المجتمعات، ويستمع إلى الموسيقى الشرقية والهندية والخليجية. بحثَ في تاريخ كبار الموسيقيين، مثل بيتهوفن وموزارت وغيرهما، واستمع بإمعان إلى أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، منطلقاً من فكرة أن الفنان يجب أن يخضع لتكوين مستمر ويتغلغل في أعماق بقية الثقافات.


تشير بوصبري، إلى أن أول أغنية غنّاها محمد رويشة للإذاعة، تعود إلى سنة 1964، بعنوان "واياياي أتمانو عفام الكية". وهذه الأغنية هي في الأصل لفنان أمازيغي آخر، اسمه حمو وليازيد، فأعاد غنائها رويشة بكل إتقان، وكذلك أغنية "بيبيو سغوي". وبعد ذلك سجّل أغنيات عدة بالأمازيغية والدارجة المغربية في إذاعة الدار البيضاء. ومع توالي السنين، أصبح يمتلك رصيداً غنائياً كبيراً ما تزال خزانة الإذاعة الأمازيغية تحتفظ به.


تستقي بوصبري شهادةً على لسان رويشة الذي يقول إن الفنان يجب أن يكون مستمعاً وفياً لمن سبقوه، ويثق بذوقه، ويؤمن بقدراته الفنية وكل ما ينتجه، ويقول الراحل إنه على الفنان أن يكون مبدعاً مسايراً للعصر، وإن الحرمان والعثرات هي التي تصنعه، ولا بد من النهوض بعد كل سقوط مع أخذ العبرة.

تقول بوصبري نقلاً عن رويشة، إن التقليد جيد، وفيه احياء للتراث، لكن الاجتهاد مطلوب، وعلى الفنان أن يصنع اسمه لتكون لديه بصمة خاصة تميزه عن بقية الفنانين، كما أن الراحل كان دائماً يؤكد على تطوير الأغنية الأمازيغية من خلال صقل موهبة العزف، مع الحفاظ على الأصالة، كما أن الفن صنعة، والإبداع يحتاج إلى الاعتكاف في فضاء هادئ ومريح مع التمارين المستمرة، مشدداً على أن الفنان الأمازيغي يجب أن يكون حافظاً للشعر الأمازيغي الأصيل، لأن ما يميز الأغنية الأمازيغية هو العزف الجميل والكلمات المنتقاة بعناية.

نفذ إلى روح "الوتار"

قال الصحافي الإذاعي ومعد البرامج باللغة الأمازيغية، مصطفى بوكريم، لرصيف22: لقائي الأول برويشة كان سنة 2000. لقد أبهرني بشخصيته المضيافة وتلقائيته، وكرمه الذي يجعلك تتأقلم بسرعة مع الأجواء التي كان يخلقها ببساطة طبعه وثقافته. كان مهتماً بالمواضيع المتعلقة بالأطلس، فضلاً عن تعلقه بمدينة خنيفرة التي كانت أمه الثانية.

وأضاف بوكريم: "كان ضيفي سنة 2006، في برنامج المجلة العربية، وكان الحوار حول الوتار (آلة وترية)، وعدد أوتاره، والمراحل التي مر بها تطوره، وقد صُنع للمرة الأولى في قبيلة في الأطلس المتوسط في القرن السابع عشر، وبعد ذلك أضيف إليه الوتر الثالث، ليتمكن رويشة من إضافة الوتر الرابع، ويسجل باسمه هذا الإنجاز الذي يدلّ على تمكنه من فهم روح الموسيقى وجوهرها".


حسب بوكريم، فإن رويشة هو الفنان الأمازيغي الذي أوصل الأغنية الأمازيغية المغربية إلى خارج الحدود، خاصةً عبر أغنية "إيناس ايناس"، التي حظيت باهتمام وسائل إعلامية، وأذكر هنا برنامج موسيقى الشعوب الذي قدمته الفنانة اللبنانية عبير نعمة من جبال الأطلس المتوسط، وأدت فيه أغنية رويشة باحترافية، على الرغم من أنها تكتشف الأجواء لغةً وثقافةً للمرة الأولى.

جدّد آلة الوتار، وغنى بالأمازيغية والدارجة المغربية لكنه لم يغفل تدريب أذنه على الموسيقى العربية المشرقية وعلى أغاني العالم. محمد رويشة، كان رمزا للموسيقى الشعبية المغربيّة وشاعرا حفظ الملايين أغانيه

في حديث إلى رصيف22، حكى الفنان الأمازيغي إسماعيل أوعزوز، وهو الآخر عاشق لآلة الوتار، وصانع لها ومبدع في غنائه وكلماته، عن الراحل رويشة عادّاً أنه كان في غاية الذكاء، إذ انطلق الراحل من المدارس الموسيقية الأمازيغية والعربية المهمة التي تغنّت بالوتر، لكن هذه المدارس لم تنفتح على غيرها من المدارس المنتمية إلى الأنواع الموسيقية المتخلفة عنها، على عكس رويشة الذي استفاد من بقية المدارس، وأخذ الأساس ثم اشتغل عليه، وكذا على الآلة لخلق عزف جديد عن الذي كان في السابق، وبهذا الاجتهاد طوّر الموسيقى الشعبية، وجعلها مدرسةً غنيةً وعصرية.

وقد أتى من بعده آخرون استفادوا من الأرضية الفنية الخصبة التي تركها، بعد أن اشتغل على زخرفة الموسيقى الأمازيغية بالموسيقى العربية، عن طريق دمجهما، وإبراز جمالية العود والوتر، ليختم أوعزوز حديثه متمنياً "أن يستفيد الموسيقيون الحاليون ممن سبقوهم، من دون تقليدهم، داعياً إلى الابتكار والابداع لخلق لمسات موسيقية جديدة انطلاقاً من التراث".

الإنسان والذاكرة

يقول الباحث الأكاديمي في التراث الأمازيغي والثقافة الأمازيغية، عبد المالك حمزاوي، مؤلف كتاب "محمد رويشة الإنسان والذاكرة"، في حديثه إلى رصيف22، إن الراحل محمد رويشة قامة فنية تركت فراغاً كبيراً في الساحة الفنية الأمازيغية والمغربية. كان غنياً عن التعريف، ولقبه بالأمازيغية "رْوِي"، أي امزج "وشَا" (شيء ما)


يقول حمزاوي إن الراحل كان مفرداً بصيغة الجمع، وكان يعزف على آلات وترية عدة، كالعود والكمان، لكنه كان يعزف على آلة الوتار معظم الوقت، وسجل أغنيته الأولى سنة 1964، في سن مبكرة، وقضى 50 سنةً في ممارسة الفن من 1962 إلى 2012.

وحسب حمزاوي، رويشة فنان لن يكرره الزمن، وإن لم يستطع متابعة الدراسة لأن ميوله كانت فنيةً، فقد حدثت له واقعة طريفة وهو تلميذ. إذ إن أستاذاً سمع وهو يلقي الدرس رنين آلة موسيقية، ليتفاجأ لاحقاً بأن رويشة أعدها على الطاولة، بواسطة "خيط الصنارة"، لتعطي صوتاً رنّاناً. لُقّب رويشة بألقاب عدة منها "فريد الأطلس"، و"أمير الوتر"، وغيرهما.

كان مفرداً بصيغة الجمع، وكان يعزف على آلات وترية عدة، كالعود والكمان، لكنه كان يعزف على آلة الوتار معظم الوقت، وسجل أغنيته الأولى سنة 1964، في سن مبكرة، وقضى 50 سنةً في ممارسة الفن من 1962 إلى 2012.

ويضيف الباحث أن شهرته الواسعة بدأت سنة 1979، بعد حفل في مسرح محمد الخامس في العاصمة الرباط، وتطرق في أغانيه إلى مواضيع عدّة أبدع فيها، كما تعاون مع عدد كبير من الكتاب والزجالين، كل هذا مع قدرته على إحياء الربرتوار القديم، ليجعله جديداً، وكان كلما أراد أن يلحّن أغنيةً، اختلى بنفسه في مكان يسمّيه الخلوة.


إذا كان زرياب قد أضاف الوتر الخامس إلى العود، فإن رويشة أضاف الوتر الرابع إلى آلة الوتار، وإلى جانب الأمازيغية، غنّى رويشة عدداً من الأغاني، منها الدينية والعاطفية وأغاني العيطة عن مدينته خنيفرة، وغنّى "آ المحاين آ الفقايس"، و"كندير حتى ننساك".

وإن كانت أغاني الراحل اليوم تُردّد في البيوت والمطاعم وفي المسارح والحانات، فإن الحياة لم تمهله كثيراً، إذ أصيب بمرض أُدخل على إثره إلى المستشفى في العاصمة الرباط، ودُفن في مقبرة مدينته الأثيرة خنيفرة، ليرثيه الغني والفقير، والمثقف والأمي، وتلقّت أسرته برقية عزاء من الملك محمد السادس تقديراً له. بعد وفاته رثاه فنانون كثر من ضمنهم عادل الميليودي الذي غنّى "شكون ينساك آ رويشة". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard