شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"التشعبينة"... وطقوس استقبال رمضان في الجزائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 20 مارس 202312:58 م

"شعبان اللي عندو حبيبو يبان"  قول من الأقوال التي قيلت عن "التشعبينة" التي لم تفارق مجالس الجزائريين أينما حلّوا وارتحلوا، والتي تُعدّ رمزاً من رموز الثقافة الجزائرية، إذ تلخص طقوساً وتقاليد خاصةً لاستقبال الشهر الثامن من السنة القمرية أو التقويم الهجري، شعبان.

ومن اللحظات التي توثق فرح عائلة فوزية (في العقد الرابع من العمر)، من محافظة جيجل الساحلية، عشية حلول شهر رمضان، لحظات لمّ الشمل العائلي، إذ تقول لرصيف22: "في ليلة النصف من شعبان، تدعونا والدتي لحضور مأدبة عشاء على شرف هذه الليلة المباركة، فأمي ما زالت تقول لنا:'ارواحوا تشعبنوا'".

وتروي فوزية بشوق وحنين تفاصيل هذه الاحتفالية، قائلةً: "تعدّ والدتي في هذا اليوم أكلة البويشة أو بوقشش وهي تشبه أكلةً تُعدّ في منطقة القبائل تُسمّى بتكربابين أو ثغصبانت، وهي أشهر الأكلات لدى الأمازيع ولا تغيب عن موائدهم".

المغزى الحقيقي من التشعبينة في الجزائر هو السعي للغفران والتسامح  قبل حلول العيد

أطباق خاصة

لهذه الأكلة الشعبية تفاصيل وأسرار مشوقة، فهناك من النسوة من يعددنها باللحم والتمر، وهناك من يعددنها بالتمر بعد نزع النوى، ليُخلط مع السميد الخشن وزيت الزيتون والماء حتى تصبح متجانسةً، ثم تُحشى في معدة الخروف أو "الكرشة" مثلما يطلَق عليها باللهجة المحلية.

لكن اللغز والسر في هذه الأكلة يكمنان حسب فوزية، في أن مدة الطهي في الماجة تُقدَّر بـ8 ساعات كاملة، أي أنها تستغرق تقريباً الفترة الصباحية، ليتم فتح "الكرشة" في الساعات الأولى من الصباح الذي يعقب يوم الطهي على شكل خليط جاف ومتجانس.

وتشرح فوزية أكثر عن هذه الاحتفالات قائلةً: "الطقوس التي يقوم عليها الاحتفال بالتشعبينة، تتجاوز هدف إعداد الأطباق، إلى هدف لمّ شمل العائلة الكبيرة في بيت كبيرها وسيدتها، وأحياناً يتجاوز عدد المعازيم 30 شخصاً، خاصةً إذا أراد رب الأسرة دعوة الأخوال والأعمام وطبعاً أبناء العمومة والأصهار الذين تربطنا بهم علاقة مصاهرة".

والأهم بعد نهاية لمّ شمل العائلة، تقول فوزية: "لا نفترق إلا بعد أن نطلب العفو والصفح ونتسامح، ويحرص الجميع على عدم التخلف عن الموعد لأنه يُعدّ فرصةً مناسبةً للصفح وإزالة الغلّ والحقد، لكي نستقبل رمضان والقلوب سليمة ونقية".

"يقوم والدي بدعوة بناته المتزوجات من أجل قضاء خمسة أيام أو أسبوع من شهر شعبان، وخلال هذه الفترة نقيم احتفالات خاصةً لتوديع هذا الشهر، تسمّى التشعبينة"؛ بهذه الجملة استهلت ماريا حديثها إلى رصيف22، وأضافت: "البنت تعزم في شعبان لأن العادات والتقاليد السرّية في مجتمعنا تقول إنها لا تزور أهلها إلا في ثاني أيام العيد وتمكث بضعة أيام، خاصةً إن كانت متزوجةً حديثاً".

الغياب ممنوع 

وتتحدث ماريا عن طبيعة الأطباق المعدّة لهذه الليلة: "والدتي تقدّس هذه المناسبة، وما من طبق مناسب أكثر من 'دي كحل' (كسكسي بالبلوط والبتشنة)".

"كان هذا الطبق يُعدّ قديماً، الزاد والطعام الأساسي لسكان مدينة جيجل برفقة سميد الذرة أو البشنة، ولا يزال يتم تحضيره في مناطق معينة كأعالي العوانة وسلمى بن زيادرة وتاكسنة وبني ياجيس، نظراً إلى توافر المادة الأولية التي يحضّر منها، في تلك القرى، وما زال يحافظ على مكانته لأنه صحي".

ولا يجوز حسب ماريا، "التغيّب عن هذه المناسبة، فالجميع يحرصون على حضور التشعبينة في بيت الجد أو كبير العائلة، فهي تمثل العلاج الوحيد للتفكك الأسري، وهي من الأسباب التي تزيد من اللحمة والتكاثف والتماسك بين أفراد المجتمع إذ تترك أثراً إيجابياً في نفوسهم".

وتختلف مراسيم الاحتفال في مدينة البليدة (مدينة الورود، وتقع على بعد 45 كيلومتراً غرب العاصمة الجزائرية)، وتقول سهام (في العقد الرابع من العمر)، من بلدة وادي العلايق، لرصيف22: "في العادة، تحضّر والدتي مجموعةً من الأطباق التقليدية على غرار الرشتة (طبق جزائري تقليدي يتكون من معجنات رقيقة تُطهى مع مرق الدجاج وطبق الكسكسي)".

سألتها: لماذا هذه الأطباق التقليدية تحديداً لا أطباق أخرى؟ فأجابت: "لأن هذه الأطباق لا تُطهى عادةً في رمضان، لأنها تربك المعدة وثقيلة عليها".

من التقاليد السرّية في الجزائر ان العروسة لا تزور أهلها إلا في ثاني أيام العيد

خلافات زوجية

من ضمن التقاليد المتداولة في المنطقة، تقول سهام متذكرةً الأيام الخوالي: "في العادة، كان كبير العائلة، وهو غالباً رجل وقور يحظى باحترام الجميع، يبرم على هامش مأدبة العشاء أو الغذاء التي تقام، جلسة صلح بين زوجين متخاصمين، ويحل النزاع بينهما تفادياً للتصدع الأسري".

"التشعبينة" في مدينة خميس مليانة (تقع غرب العاصمة الجزائرية)، تتخللها عادات وتقاليد مميزة تأبى الاندثار وما زال الكثيرون يعدّونها داءً لمعالجة التصدع الأسري. تقول أمينة (في العقد الرابع من عمرها): "برغم التحولات الاجتماعية التي عرفناها خلال العقدين الماضيين من الزمن، ما زلنا نحافظ على هذا التقليد، فمن ضمن عادتنا تبادل العزائم، ويجب على كل ربّة المنزل في العزومة التقيد بإعداد أصناف الطعام التقليدية على سفرتها، كتحضير المسمن أو الملوي أو الرغايف، حسب كل منطقة، والبغرير وهي أكلة تقليدية معروفة ولها تسميات عدة ترمز إلى الفرح والكرم والبركة، إذ يطلَق عليها تيغرفن باللهجة القبائلية، وهوذفيست باللهجة الشاوية، وثيملين في اللهجة المزابية".

ومن سمات هذه الاحتفالات، كما تحكي أمينة، أن "العائلات تنتهز هذه الفرصة للتعريف بالعروس الجديدة، وتبرز الأخيرة في أحسن مظهر من حيث الزينة واللباس، وتعدّ العائلات هذه المناسبة فرصةً لتوطيد أواصر القرابة والتعارف عبر المصاهرة".

وتشدد أمينة على أن "المغزى الحقيقي من التشعبينة، الغفران والتسامح قبل حلول العيد، حيث يحرص الجميع على أن يكون شعبان فرصةً لتجسيد الصفح الجميل بلا عتاب، فشهر شعبان هو فرصة حقيقية للتغيير".

على مشارف نهاية شعبان، وبالتحديد في اليومين الأخيرين اللذين يسبقان حلول شهر رمضان، يلتقي كبار القرية في معظم قرى تيزي وزو، ويقررون جمع التبرعات النقدية، ثم شراء رؤوس الثيران من أسواق الماشية، لتُذبح وتُسلَخ وتُقطّع ثم توزَّع على جميع أبناء القرية، فقراءً وأغنياء، وتقول جميلة من قرية الجعافرة (شمال محافظة برج بوعريريج)، لرصيف22: "يقوم زعماء القرية بجمع المال من المتبرعين، ومن ثم شراء العجول وذبحها من قبل الرجال وتقسيمها وتوزيعها بطريقة متساوية وعادلة حتى يتمكن جميع الأشخاص من أكل اللحم، لا سيما الفقراء منهم".

تباين ثقافي

وتختلف الاحتفالات بهذه المناسبة من منطقة إلى أخرى في الجزائر. يقول أستاذ الأدب الشعب والفلكلور والأنتروبولوجيا في جامعة الشهيد حمة لخضر، في محافظة الوادي، أحمد زغب، لرصيف22: "في بعض المدن يحرص الجزائريون على إحياء ليلة النصف من شعبان، وهو تقليد يمتد إلى آلاف السنين".

ويضيف أحمد زغب قائلاً: "طريقة إحياء هذه المناسبة غير موحّدة، وتختلف من منطقة إلى أخرى، فلكل مدينة طقوسها وأورادها الخاصة بها". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image