شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أربعون عاماً من الإفطار في رمضان

أربعون عاماً من الإفطار في رمضان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 21 أبريل 202207:26 ص

عندما نصغي باهتمام إلى متزوج يدلي بشهادته في موضوع الحياة الزوجية، بعد أربعين عاماً قضاها مراهقاً يسبب المتاعب لشريكته في الحياة، أو نقرأ بتشوق عن تجربة قاتل في عوالم الجريمة والموت في روايات وشهادات، فأعتقد أن أربعين عاماً من الإفطار في رمضان تجربة تستحق التوثيق والتسجيل.

وُلدت في دمشق في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهذا يعني أن خبرتي الرمضانية في الإفطار تتجاوز الثلاثين عاماً من الوعي بهذا الطقس المتبدل بين الشهور الميلادية، والذي يخلق محنته الخاصة للصائمين بين فصول السنة.

أنتمي إلى مراهقة جيلٍ كان دخول مقهى النوفرة مثلاً ممنوعاً عليه، لأنه للكبار فقط، ولكني، وبعد سن الخامسة والعشرين، شاهدتُ المراهقين الصغار يحتلون معظم مقاعده، لأن حكواتي رمضان سيبدأ بقراءة قصة الزير سالم.

إن مشهد الحنفيات التي لا شاربين حولها في المدارس الابتدائية في دمشق، وخاصةً في صفَّي الخامس والسادس، هو المشهد الأقدم الذي أذكره لهذا الطقس، إذ كان من العار أن تقترب من حنفيات الماء وتشرب منها أمام التلاميذ، أو لنقل صراحةً، لم يحصل أن شرب أحدهم لنشاهد ما يجري من أجواء. كانت الأخبار تصلنا همساً في الأذن: "هناك سندويشة في حقيبة عامر"، طبعاً عامر سيعود بالسندويشة إلى المنزل كما كنت أعود بها أنا، مدّعياً أمام أمي أنني نسيت تناولها.

كانت الأخبار تصلنا همساً في الأذن: "هناك سندويشة في حقيبة عامر"، طبعاً عامر سيعود بالسندويشة إلى المنزل كما كنت أعود بها أنا، مدّعياً أمام أمي أنني نسيت تناولها.

هناك اختبارات كشف المفطرين التي يقوم بها طلاب محددون لسبب ما زال مجهولاً عندي، ففي كل رمضان يقترب أحد هؤلاء المختارين من أي شخص، ويطلب منه فتح فمه ومدّ لسانه، فيقول بثقة: أنت صائم. عرفت أن اللسان يجب أن يبدو جافاً، وهي عملية لا تقتضي الصيام، بل فقط التوقف عن شرب الماء بعد الخروج من المنزل. أما الذي يبدو لسانه مبللاً، فيدخل في تداعي الحلفان المتصاعد بأرواح الأحياء والموتى كوسيلة أخيرة، وكانت ناجعةً دائماً. شخصياً، ابتدعت في طفولتي فكرة المضمضة لتغيير رائحة الفم، وكنت أعبّ في أثنائها القليل من الماء، وأستطيع القول بثقة إنها أصبحت أسلوباً متبعاً للكثير من الأولاد الذين ثابروا على المضمضة مرات عدة في أثناء الفرصة المدرسية.

ثمة في الطفولة ذلك الشخص، قد يكون البقال أو اللحام أو الجارة، الذي يمتلك الوقاحة اللازمة ليستفرد بطفلٍ صغير سائلاً: "هل والداك صائمان؟"، ولأني أعرف أن أبي نادراً ما شاهدته صائماً، وأمي، وهي أكثر التزاماً بالصيام من أبي، فلا أذكرها تصوم الشهر كاملاً. بالمختصر كان لا بد أن أكذب، وأحياناً يكون السؤال أكثر مكاشفةً: "لماذا لا يصوم والداك؟". يبدو أنه كان يعرف أمراً لا أستطيع ترقيعه أمامه.

ثمة المسحراتي في زيه التقليدي، والذي يعرضه التلفزيون السوري كل رمضان تقريباً، بشخصية الممثل رفيق سبيعي. لم أشاهده بهذا الزي إلا مرة واحدة عندما كانوا يدقون على الأبواب قبيل العيد مطالبين بالعيدية. علمت وقتها أنه كشاش حمام في الحي، وأن أهل الحي كانوا يحبذون عمله هذا، علّه يقلع عن عادة كش الحمام المستهجنة في المجتمع، ولكن رجاءهم خاب لأنه استمر يكش الحمام على السطح المقابل لبيتنا، ولطالما استمتعت في طفولتي بعمله هذا، وخاصةً أيام الجمعة في الصباح الباكر. طبعاً يسجَّل لرفيق سبيعي أنه كان المسحراتي الوحيد الذي سمعته يترنم بأنغام شجية، فزعيق من عرفتهم وجعيرهم كانا أقرب إلى التهديد، خاصةً عندما كان ينادي سكان الحارة بالأسماء ويصرّ على اسمٍ محدد حتى يشاهد أنوار المنزل.

لقد تبخرت نهائياً الهيبة السحرية لرجل الليل في مراهقتي، عندما شاهدته ليلاً مرتدياً بنطالاً من الجينز، ويقرع على غالون ماء بعصا راكباً دراجةً هوائيةً، ما فسّر لي نهائياً سر الظهور والاختفاء المباغتين والمتكررين في الليلة الواحدة.

ثمة في الطفولة ذلك الشخص، قد يكون البقال أو اللحام أو الجارة، الذي يمتلك الوقاحة اللازمة ليستفرد بطفلٍ صغير سائلاً: "هل والداك صائمان؟"، ولأني أعرف أن أبي نادراً ما شاهدته صائماً، وأمي، وهي أكثر التزاماً بالصيام من أبي، فلا أذكرها تصوم الشهر كاملاً. بالمختصر كان لا بد أن أكذب

نعم، حاولت الصيام في أحد أيام رمضان في مراهقتي أيام الإعدادية، وفي الساعة الثانية ظهراً، تعطلت كل مسيرة يومي من دراسة وقراءة ورياضة، وكانت الرغبة في النوم لا تقاوَم، فاتفقنا ورمضان أن تجمعنا علاقة عذرية لا أكثر. إن أكثر ما يلحّ على ذاكرتي في الطفولة، رغبتي في أن اجتمع بمدرّسنا كتاب الديانة في الصف السادس، لأشرح له ضرورة توعية الأطفال بالكثير من المفاهيم قبل أن يكون خلق "غض النظر عن النساء" أحد أخلاقيات رمضان!

أسأل نفسي: ما هي الأجواء الرمضانية التي تحبها الأسرة السورية، وما شاهدتها في منزل سوري إلا وكانت مختصرةً بزوجة منهمكة في المطبخ حتى اللحظات الأخيرة من وقت الإفطار، بينما الزوج ومعه الابن البكر، الشريكان الأزليان لفن القيادة والتحكم، نائمان أو مسترخيان أمام التلفاز أو يصبّان جام غضبهما على أي موضوع؟

لا أتصور أنها -أعني الأجواء الرمضانيّة- في أكياس التمر هندي التي تُطرح للبيع في الطرقات في شهر رمضان، وبالتأكيد ليست في كم الدراما الهائل في التلفاز أو الاستيقاظ في الرابعة فجراً لتناول السحور، وليست انبعاث كركوز وعواظ، أو الولع المعاصر برقصة المولوية. أليستا من فترة نعدّها مظلمةً في تاريخنا الحديث؟

استمر خجلي من حقيقة العلاقة العذرية التي تجمعني مع رمضان حتى دخولي إلى الجامعة، والتي كانت بالنسبة إليّ محك الحرية في هذه النقطة. ببساطة لست مضطراً إلى أن أكون مجاملاً، فأنا لا أصوم في العادة ولا أريد الصيام، والموضوع برمته لا يعني لي شيئاً. لا بل قد انطلق لساني في أول نكتة ساذجة أمام الأصدقاء، وبعضهم من الصائمين، فكنت أسأل: هل أستطيع صيام الأيام العشر الأولى والثانية من رمضان، وأترك الأخيرة كخيار مفتوح للمستقبل؟

نعم، حاولت الصيام في أحد أيام رمضان في مراهقتي أيام الإعدادية، وفي الساعة الثانية ظهراً، تعطلت كل مسيرة يومي من دراسة وقراءة ورياضة، وكانت الرغبة في النوم لا تقاوَم، فاتفقنا ورمضان أن تجمعنا علاقة عذرية لا أكثر.

كانت الحرية التي نلتها في الجامعة في هذه النقطة تتجاوز حدود الحرم الجامعي لتمتد إلى النطاق المحيط، ولكنها لم تصل إلى أن أعدّ مثلاً تدخيني في رمضان أمام سكان الحي الذي أعيش فيه قضيةً طبيعيةً، فهل كنت منافقاً؟ أم أن احتجاجي الخاص لم يكن ناضجاً بعد؟ أعترف الآن أن كلتا الإجابتين صحيحتان، فنضج الفكرة يمنحك سلاماً داخلياً مستمداً من الثقة يضطرك نقصانها إلى النفاق أحياناً.

قبل أن أصل إلى الأربعين، كان موضوع صيامي قضيةً ليست ذات شأن، فكل من يطرح عليّ سؤال: لماذا لست صائماً؟ أشعر تجاهه بالتعاطف، وأخبره ببساطة بأنني لا أصوم، أما من ألمس لديه قليلاً من الوقاحة في السؤال، فأردّه بالسؤال الذي لم ولن أحصل على إجابة عليه حتى اللحظة: "لماذا أنت صائم؟".

"لماذا لست صائماً؟"؛ كان يُطرح بعفوية فضولية تحمل قليلاً من الفجاجة لتتدخل في شأن خاص. كان يكفي جوابي أنني لا أصوم ولا يعني لي الصيام الصلاح أو عدمه، لتجد السائل قد فهم المقصود تماماً، فالشعب السوري في معظمه ذو إيمان بسيط وبعيد عن التعقيد والتحذلق في الكلام، ويلتقط جواباً مختصراً ويفهم أبعاده القارصة بحسن نية. ولكن ثمة البعض ممن يطرحون السؤال ذاته ولكن بخلفية أبوية، يقصد أن يقوم بدور ثلاثي: قاضٍ ومدّعٍ عام وداعية ديني، ضربةً واحدةً.

وحده المنطق الطبيعي يفرض علينا أن نسأل من يقوم بالفعل عن سبب قيامه به، مثلاً: لماذا ارتكبت جريمة القتل؟ لكن القضية تبدو معكوسةً عندما يتعلق الأمر بالدين: لماذا لا تصوم؟ لماذا لا تصلّي؟ فأنا الذي لا يقوم بالفعل والمشاهد من الخارج، بينما أنتم المنهمكون بالفعل والمنخرطون في القضية، أنا من يجب أن يسأل ويحصل على تفسير. طبعاً لن يجد المتدين أو المؤمن نفسيهما أمام سؤال أبوي من هذا النوع، ما دام المفطرون يشعرون بدونية الإثم أمام هيبة المؤمن الناجي المتعالية.

إذا تجاوزنا الجواب المستخفّ بأن الصيام أمرٌ من الله على عبيده، وطرحنا بتواضع: لماذا أمر الله عبيده بهذا؟ فنجد أنفسنا أمام ثلاثة أجوبة تراثية، تكرر ذاتها وتنفتق أمامنا كل رمضان: الإحساس بالفقراء، وصوموا تصحّوا، وتهذيب النفس.

وحده الشخص الهابط من المريخ والذي عرف توّاً بقضية رمضان والصيام، سيفتح التلفاز معتقداً أن نشرة الأخبار هذا المساء، وبسبب رمضان، ستجعل من الفقر رجلاً هارباً من قبضة العدالة

وحده الشخص الهابط من المريخ والذي عرف توّاً بقضية رمضان والصيام، سيفتح التلفاز معتقداً أن نشرة الأخبار هذا المساء، وبسبب رمضان، ستجعل من الفقر رجلاً هارباً من قبضة العدالة. هذا لم ولن يحصل يا عزيزي الصائم، بل على العكس إن مستويات الموت من الجوع تسجل ارتفاعاً في كل عقد من الزمن في عداد الثواني، والأرقام بالملايين. إن الطبق الذي ترسله وقت الإفطار إلى الجيران الأكثر فقراً منك، لا يشكل أدنى حيثية اقتصادية في مسيرة عداد القتل الفخورة بإنجازاته المتراكمة منذ قرون. هل تمتلك الشجاعة أيها الصائم لكي تكون بين الفقراء وحلاً لهم، أم ربما أنا وأنت ذلك الجزء من المشكلة؟

تقدم قضيةُ الصيام والصحة التي تغدو أفضل بسبب الصيام، الدينَ كأنه عبارة عن كتيّب مرشد للعادات الصحية، فهؤلاء يخبرونك بأن التسبيح يقوّي عضلات محددة مرتبطة بخلايا عصبية دماغية، وأن الصلاة تحرّك الدماء الراكدة في شرايين مخفية، وأن الوضوء من الأسرار المبثوثة من الخالق في النظافة، وتستطيع عزيزي المفطر أن تبدأ من كرش محدثك كأحد أسرار طقس رمضان، وأن سيجارة زميله الصائم (والذي بالتأكيد لن ينقطع عن التدخين بعد رمضان) تهلك رئتيه، وأنك ببساطة كي تهتم بصحتك الخاصة عليك العناية بها على مدار العام، وليس شهراً في العام.

ثمة حقيقة محزنة: إن الصيام عن الطعام أحد أكثر الطقوس النبيلة والخطيرة الشأن التي وُجدت في تاريخ الإنسانية، ولكنها خالية، ومنذ قرون، من أي أبعاد لقضية عادلة أو مبدأ سامٍ أو رجاءٍ مكين.

أما تهذيب النفس وتحسين أخلاقها، فعندما ينطبع الصائم بقية العام بما تطبّع به في شهر رمضان، يجوز هذا القول، ما عدا ذلك يكون السلوك الفاضل في شهر من العام والعودة إلى السلوك المألوف في بقية العام الرذيلة بعينها. إن انحدار الأخلاق العام أمر لا يحتاج إلى إيمان أو فلسفة أو حزب أو دراسة، ليتفق الجميع على أنه أمرٌ ذاهب باطّراد، وعلى مستوى الإنسانية التي منها مسلمون، أصحاب الرسالة الأخلاقية في تهذيب النفس عن طريق الصيام والصلاة، إلى الحضيض.

يقدّم المتحذلقون الأجوبة السابقة والتي تدخل إلى تفكير الناس من دون استئذان، بينما الأصدقاء المثقفون الصائمون، يقدّمون أجوبةً يختصر تعقيدها وتشعبها وفذلكتها بعدها عن قلوب البسطاء من الناس، وتالياً الجدوى. ما هي الغاية من الصيام؟ بين الأجوبة الأولى التي تعود للقرون الأخيرة من الإسلام، وإجابات المثقفين التي تختصر علاقتهم بالكتب وليس مع ذواتهم أو الحياة، ثمة حقيقة محزنة: إن الصيام عن الطعام أحد أكثر الطقوس النبيلة والخطيرة الشأن التي وُجدت في تاريخ الإنسانية، ولكنها خالية، ومنذ قرون، من أي أبعاد لقضية عادلة أو مبدأ سامٍ أو رجاءٍ مكين.

يبقى ذلك "الخرتيت" السوري الذي يتحفنا بين رمضان وآخر، بتصريح أو مقال أو تعليق عن حزنه لاختفاء طقوس احترام رمضان بين الناس، وهو غالباً ما يحمل شهادةً دراسيةً فوق متوسطة أو عالية، وذو شخصية اعتبارية إلى حد ما بين الناس. إن طريق هذا "الخرتيت" الذاهب إلى الانقراض هو الذي يصفح له عن هذا العمى الانتقائي لكمية الطقوس والخطوط الحمراء الاجتماعية والمقدسة التي سُحقت في سوريا في العقد الأخير، وعن أجيال بكاملها، نفسياً وعقلياً، في مهب رياح المصادفة، ولا تشكل منها طقوس رمضان إلا هامشاً مثيراً لبكاءٍ ضاحك. علينا أن نسمح لهذا "الخرتيت" بانقراض هادئ.

تجاوزت الأربعين من عمري، وأشعر بالحنين إلى الكثير من سوريا التي عرفتها منذ ولادتي وإلى حد اللحظة هذه، وبالتأكيد ليس رمضان مسجلاً في القائمة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image