لم يكن عيد الأم معروفاً في قريتنا، ولم يسمع أو يحتفل به أحد قبل منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأ بعض أفراد القرية الذين كانوا على احتكاك بأبناء المدينة الاحتفال وتقديم الهدايا لأمهاتهم. مع الوقت، أصبح جميع من في القرية يحتفلون بعيد الأم.
أمي مواليد عام 1938، وهي مثل كل أهالي القرية، لم تكن فيما مضى تعرف من الأعياد سوى عيد الفطر والأضحى والقداس والبربارة... وما شابهها من الأعياد المتوارثة عن الأجداد.
أيضاً لم تكن تعرف بأن يوم ولادة الشخص يُعتبر عيداً، ويُطلق عليه اسم "عيد الميلاد"، كما يتم الاحتفال فيه وتقديم الهدايا، وللدقة أكثر هي لم تكن تعرف تاريخ اليوم والشهر اللذين ولدت فيهما! ومما لاشك فيه أنه خلال حياتها كلها لم يحتفل أحد بعيد ميلادها، باستثناء مرة واحدة منذ حوالي 13 سنة، حيث قمتُ بدعوة أخوتي وأولادهم للاحتفال به. كانت هذه المرة الأولى التي تسمع فيها أغاني عيد الميلاد وتقوم بإطفاء الشموع، وتتمنى أمنية رفضت أن تخبرنا بها.
الزلزال طرد أمي من منزلها
كل عام، قبل عيد الأم بيومين أو ثلاثة، كانت أمي تحرص على جلب الحلويات والفاكهة ومستلزمات الطبخ، لأن العائلة كلها ستجتمع في منزلها. اجتماع العائلة كان مصدر فرح وسعادة بالنسبة إليها.
هذه السنة بعد أن طردها الزلزال الذي ضرب اللاذقية في 6 شباط / فبراير من منزلها وطردني أنا وأبي معها، أظن بأنها لن تكون سعيدة، لأسباب كثيرة، منها عدم استقبال أولادها في منزلها؛ فهي الآن تعيش في منزل أختي. ومن النادر أن يمرّ يوم دون أن تبكي وتردّد: "خرب بيتي وصرت لاجية"، "يلي بيطلع من دارو بيقلْ مقدارو". "ياربي دخليك شو عاملي ذنوب لحتى صار فيني هيك"، مع العلم أنّ أختي تقوم بخدمتها والاعتناء بها على أكمل وجه.
أمي الآن مُهجّرة مطرودة ولاجئة، ولم يعد لها منزلٌ تشعر فيه بالأمان والطمأنينة، ولا أمل لها بالرجوع إلى منزلها لأنه غير آمن وسيتم هدمه.
أمي مواليد عام 1938، وهي مثل كل أهالي القرية، لم تكن فيما مضى تعرف من الأعياد سوى عيد الفطر والأضحى والقداس والبربارة... وما شابهها من الأعياد المتوارثة عن الأجداد
أهديت أمي حظاً وتجربة
لا أحب المناسبات والأعياد الدينية والاجتماعية، بما في ذلك عيد الأم، لكنني أحتفل وأقدم الهدايا أحياناً من أجل الآخرين، لأن هذا يجعلهم سعداء.
كل عام أفكر بتقديم هدية لأمي يكون لها أثر نفسي إيجابي، بغض النظر عن القيمة المادية لها. مثلاً في أحد الأعوام أهديتها ورقة يانصيب، وباستغراب قالت: "شو هيدي؟"، قلت: "ورقة يانصيب." وشرحت لها ما هو اليانصيب وكيف أن الربح فيه يعتمد على الحظ الجيد. وضعت الورقة في جيبها وقالت بأسى: "يلي ما إلو حظ لا يشقى ولا يتعب، حظي وبعرفو والله مارح اربح ليرة وحدة". ثم أكملت: "يا حايش الهوا، الهوا ما ينحاش، أنا يلي حِشتْ حَوشي، طلعت حَوشتي بلاشْ".
يمكنني القول إنني أهديت أمي حظاً جيداً جعلها تفرح
في اليوم التالي لعيد الأم قلت لها: أعطني ورقة اليانصيب فأنا ذاهب إلى المدينة وسأرى إن كانت ورقتك رابحة. بعد عودتي مساءً أعطيت أمي مبلغاً لا بأس فيه من المال مدعياً بأن ورقة اليانصيب قد ربحت. يمكنني القول إنني يومها أهديت أمي حظاً جيداً جعلها تفرح.
في عام آخر كانت هديتي لها هي تجربة شيء لم تجربه في حياتها كلها؛ وهو السكْرْ. رغم أن أمي متديّنة، وهي ابنة شيخ وزوجة شيخ أيضاً، إلا أنني استطعت إقناعها بأن تشرب الويسكي، ولاحقاً تُجرب حالة السكرْ. كيف فعلت ذلك؟
قبل عيد الأم بأسابيع عدة أصيبتْ زوجة عمي بجلطة دماغية، ما جعل أمي تشعر بالخوف من أن تُصاب بالجلطة. ولكي أطمئنها قلت لها إنّ حبة جوز مع رشفة ويسكي كل يوم يمكنهما حمايتك من الجلطة. على الفور وافقت بأن تأكل حبة الجوز، لكن قبولها بأن تشرب مقدار ملعقة كبيرة من الويسكي احتاج نقاشاً طويلاً لأيام عديدة. وكان عليّ أن أستشهد بآيات من القرآن وأحاديث للرسول، تقول إن الخمر له فوائد، وإن الله لا يحاسب المريض إن تناول أو شرب شيئاً بهدف العلاج، وخاصة إن كان شرابه وطعامه لا يسببان الأذية للآخرين. بعد عناء نجحتُ في جعلها تشرب كل يوم رشفة ويسكي.
ملاحظة: لقد ألّفتُ بعض الآيات والأحاديث النبوية بهدف إقناعها.
أمي الآن مُهجّرة مطرودة ولاجئة، ولم يعد لها منزلٌ تشعر فيه بالأمان والطمأنينة، ولا أمل لها بالرجوع إلى منزلها لأنه غير آمن وسيتم هدمه
حين جاء عيد الأم جهزت عشاء خفيفاً، شغلتُ أغاني للمطربة ماري بشارة التي تحبها أمي، وقمت بخلط الويسكي مع البيبسي، ما جعل مذاقها لذيذاً وسلساً. حين أنهت أمي كأسها الأول بدأت تضحك وتقول: "ولك شو يلي شربتني ياه، والله حاسي البيت عم يدور فيني". يومها ضحكت كثيراً وضحك أبي وباقي أفراد العائلة متأثرين بضحكها وكلامها. كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي تجرب فيها أمي حالة السكرْ.
الزلزال أفسد فرحة عيد الأم
هذا العام وبعد أن قام الزلزال بطرد أمي من منزلها، أظن أن عيد الأم لن يجعلها تشعر بالفرح والبهجة مقارنة مع الأعوام السابقة. أنا أيضاً وبسبب الزلزال كان عليّ التفكير بهدية تتناسب مع الوضع الجديد. فكرت طويلاً وقرّرت أن أهديها الطمأنينة والأمان وأشياء أخرى. الأشياء الأخرى سأقدمها لها أولاً والتي ستكون مبلغاً من المال، إضافة إلى بعض الحلويات والشوكولا الفاخرة التي تحبها.
بعد ذلك سأبدأ بالحديث معها عن حياتها الجديدة في منزل أختي وأطرح عليها أسئلة حول ما تشعر وتفكر فيه، بحيث أجعلها تتحدث باستفاضة عن كل ما في داخلها من مخاوف وقلق وأفكار سلبية. بعدها سأناقش معها تلك المخاوف والأفكار كلها وأحاول قدر الإمكان تبسيط الأمور وزرع الطمأنينة في داخلها وطرح الحلول للوضع الذي هي فيه، والتركيز على فكرة أن العيش لمدة عام في منزل أختي أمر جيد وجميل وآمن، وبأنني سأبني بيتاً جديداً وآمناً لها ولأبي بدل الذي سنهدمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه