شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عن الآباء... أولئك

عن الآباء... أولئك "الرجال" الأشد شراً والأشد حبّاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 3 يناير 202012:30 م

يضحّي أغاممنون بابنته إيفيجينيا من أجل الانتصار في حرب طروادة، يقدمها قرباناً بشرياً للآلهة، هي أحب أبنائه إليه، يُخاطبها قائلاً: "كم سعيدة أنت في براءتك...أعلم كمَّ الخجل لدى البنات الصغيرات حين يراقبهن العالم، قريباً ستذهبين في رحلة بعيدة عنّي"، إيفيجينيا على أبواب الموت لأجل حرب والدها، تتحول كموضوع تحديقته من امرأة/ ابنته إلى أضحية في سبيل عنف خارجي، والدها المحب يخفي وراءه عنفاً سيقع على جسدها لأجل انتصار ما، هذه العلاقة مع الابنة كغرض لدرء المصيبة نراها أيضاً في الحكايات القرآنية، في قصة لوط الذي "قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ"، التفسيرات ترى في الطهرانية التي يقدمها لوط لقومه دعوة للزواج الشرعي من بناته، لكن يمكن تفسير الحكاية بصورة أبسط: هناك خطر وخراب قادمان، وفي كلا الحكايتين، الآباء يقدمون البنات كـغرض صنعه حب الوالد وخوفه في سبيل اجتناب المصيبة أو الخسارة، وفي القصتين تعجز "البنات" عن الرفض.

يشكل الآباء نماذج رجولية شديدة العنف، "مشكلاتهم" تمتد ثقافياً وأحياناً جسدياً إلى بناتهم اللواتي يدخلن في صراع لقتلهم أو الانسلاخ عنهم، خصوصاً أن "الأب" يمثل قوة العمل، المحارب "خارجاً" لحماية "الداخل"، ولا نتحدث فقط عن الصورة الرجعية للأب، بل أيضاً تلك المعاصرة، "المتحررة"، هو مدَرّب لـ"يقاتل" في أنظمة "الخارج" الخطرة، ويستريح "داخلاً" في الفضاء الخاص. لكن، يظهر الحس النسوي لدى "الآباء" في اللحظة التي تولد بها بناتهن، يتحولون إلى مدافعين عن حقوق المرأة، ولا نتحدث عن الطهرانية أو العذرية، بل عن مفاهيم الحماية والمنع والسماح، والتي تتحرك بين الحب والعنف، فـ"هم"، يعرفون سمومية الرجولة الخارجية، يكشفون أمام بناتهم أنها ليست حبيسة أجساد الرجال فقط بل أيضاً تكوّن "الخارج"، ليظهروا كالقادرين على التحديق عميقاً في سمّية الرجولة وعنفها ونقل التحذيرات بخصوصها، والتي تتجلى بالنصيحة الأبوية الشهيرة: "كل الرجال متشابهين، كلهم يبحثون عن شيء واحد".

سحر الأبوّة الخفي

تتفعل نزعة الحماية حين يدخل "رجل جديد" إلى حياة الابنة، التي تتحول في نظر والدها من موضوع بريء طاهر إلى غرض جنسي، تحذيرات و تنبيهات تلاحق علاقتها، "أنا واحد من أولئك الرجال، أعلم بم يفكرون، أنا أنبهك، أنا خضت معاركهم وأعرف ألاعيبهم"، فجأة تتحول سطوته إلى خوف يتجاوز حماية ابنته من الرجال، نحو استعادة رغائبه وتاريخه الشخصي، هناك رعب من أن يتكرر ما قام به أو ما يتخيّله عن اللاتي يشتهيهن، خصوصاً أن "الرجولة" وسمّيتها لا تنشأ كلياً داخل المنزل، بل في الخارج، ضمن المساحات التي لا يمتلك فيها "الأب" السيادة، هو جزء من اللاعبين في نادي الرجال، هذه "الخارج" يختزل في جسد الرجل الجديد، هذا الخوف أيضاً اختبار رجولي على مهارات الخارج، هل الرجل الجديد لاعب محترف، هل يمتلك ذات أدوات "الأب"، وهنا يظهر الامتحان الذي يبدو أحياناً بسيطاً جداً، أسئلة يوجهها الأب للرجل الجديد، قد تبدو ساذجة ومبتذلة: "هل تحفظ جدول الضرب ؟"، "لم لا تعمل بما درسته؟"، أسئلة تخفي ورائها الرغبة بمعرفة مقدار السطوة في العالم الخارجي، والأهم، القدرة على لعب دور الأب الأشد جوهرية: "الحماية".

لتكوين الذات النسوية، لا بد من كراهية الأب قبل تعلم حبه، لابد من غرض/ الأب، لنكرهه وندمره بل ونقتله ودون هذه الكراهية لن يكون هناك لعب، ولا فرح، ولا اختلاف، وربما، لا "أنا"
 يظهر الحس النسوي لدى "الآباء" في اللحظة التي تولد بها بناتهن، يتحولون إلى مدافعين عن حقوق المرأة، ولا نتحدث عن الطهرانية أو العذرية، بل عن مفاهيم الحماية والمنع والسماح، والتي تتحرك بين الحب والعنف

تتضح صورة الأب العنيف والحنون في خطاب بنات القادة، هن يعرفن مدى سطوة آبائهن وأحياناً وحشيتهم لكنهم يبررون لهم، يرسخون صورتهم، ولا يلعبن إلا دور البنات اللاتي عليهن التعامي عن آبائهن، هناك دوماً "وجه الأب الحنون" الخفي الذي لا نعرفه، إيفانكا ترامب تقول عن والدها الذي يشتهيها والذي يريد "مسك النساء من أكساسهن"، بأن أكثر ما يريحها في العالم هو أنها تعرف والدها، منى جمال عبد الناصر تصف والدها بأنه "كان في منتهى الرقة، كان لديه أيضاً شخصية حازمة، ومازال كل شيء جميل بالنسبة لي أتى منه"، هكذا آباء لا يمكن التخلص منهم بسهولة، أو كراهيتهم علناً كحالة إيفيجينيا التي قبلت تضحية والدها بها.

سمية الرجولة الأبوية ضمن الأسرة نتلمسها في الحكايات الخرافية والأدبية التي تظهر فيها الأسرة دوماً كمساحة خطرة وعنيفة، الحسناء أعطاها والداها للوحش حفاظاً على حياته وحياة أسرته، والد شهرزاد يتركها تدخل "مسلخ" شهريار وتخاطر بحياتها لأجل المدينة، الملك لير الذي رغبة منه بنيل حب بناته، أودى بحياة كورديليا التي أحبته، هي لم تستطع أن تكرهه، فذهبت ضحية تصوره عنها.

تحطيم الأب وصورته

الإشكالية أن سحر الأب هذا ينتقل للدور النسوي التقليدي في بعض الأحيان، الإيمان بسمية العالم الخارجي، تجعل البحث عن "الرجل" هو بحث عن أب آخر، يمارس ذات السطوة ويمتلك ذات الامتيازات والمهارات الأبوية، وهنا يظهر التعبير المتحيز جنسياً Daddy’s issues، والذي يحيل إما إلى نفي كلي للأب وسلطته وصورته، أو ترسيخ لها ورغبة في استنساخها كلياً.

يظهر العنف الشديد في سبيل تدمير صورة الأب أحياناً في سياقات مضطربة، إذ يتم الحديث عنه في تجارب النساء اللاتي عملن في تجارة الهوى، لـخلق متخيّل أن الجنسنة الخفية -المتمثلة بالحماية- لجسد الابنة تحولها إلى غرض جنسي لاحقاً، لكن بعيداً عن هذه الخرافة، تحدي السلطة الأبوية أيضاً له سمّيته كونه قد يوجه ضد كافة "الذكور".

لتكوين الذات النسوية تقترح كاثرين أنجيل، أنه لا بد من كراهية الأب قبل تعلم حبه، لابد من غرض/ الأب، لنكرهه وندمره بل ونقتله، لكن ليس كلياً، لابد له من النجاة والاستمرار، لنتمكن من التحديق به والاختلاف عنه، لنرى ذواتنا منفصلة عن هذا الغرض ومتمايزة عنه، لأن، إن مات كلياً سيبقى أبدياً وداخلياً، ولن يتحول إلى شيء واقعي/ شخص/ غرض يمكن الانفصال عن صورته، لتحدق الأنا بأصلها، و"تختلف" لتكوّن ذاتها، فالحنين إلى الأجساد التي أتينا منها هو حنين إلى مرحلة ما قبل الأنا، إلى الطفل المحمي شديد البراءة، ودون هذه الكراهية لن يكون هناك لعب، ولا فرح، ولا اختلاف، وربما، لا "أنا".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard