بعد ستة أشهر من المداولات، وأكثر من ثلاثة ساعات من المشاورات المغلقة، انتهت محكمة القضاء الإداري في مصر أمس السبت 18 مارس/ آذار ، إلى إعلان عدم اختصاصها بنظر القضية المعروفة إعلامياً باسم "قضية الطفل شنودة" وذلك بعد جلسات دامت ما يزيد عن 6 أشهر استمعت فيها إلى أطراف القضية وعلى رأسها أسرة الطفل بالتبني.
تعود الوقائع القانونية للقضية إلى يوليو/ تموز من العام المنقضي، حين أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي في مصر (المسؤولة عن الأطفال المشردين والأيتام ومجهولي النسب) قراراً بنزع الطفل من حضانة أبويه اللذين ربياه منذ كان عمره عدة أيام، وإيداعه أحد دور الأيتام وتغيير اسمه وديانته إلى الإسلام. وتقدمت أسرة الطفل بطلب إلى المحكمة المختصة "مجلس الدولة" لوقف وإبطال القرار الصادر عن وزيرة التضامن الاجتماعي بنزع الطفل وإيداعه في دار للرعاية تحت إشراف الوزارة، مطالبين برده إلى أسرته، وإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن تسليم الطفل، ووقف تغيير اسم الطفل وتحويل ديانته إلى الإسلام.
بعد 6 أشهر من المداولات، أعلنت محكمة القضاء الإداري تخليها عن الفصل في قضية الطفل شنودة، بحكم "عدم الاختصاص"، وتسبب الحكم في غضب وخيبة أمل واسعة، وصل صداها للبرلمان المصري
قرار المحكمة جاء صادماً لأسرة الطفل، كون محكمة القضاء الإداري هي الموكولة دستورياً بنظر احتجاج الأفراد والهيئات على القرارات الإدارية التي يصدرها مسؤولون أو جهات حكومية.
حكاية "شنودة"
بداية القضية تعود إلى العام 2018 حين عثر أبوا الطفل "شنودة"، بالتبني، عليه وهو رضيع حديث الولادة بأحد حمامات كنيسة السيدة العذراء مريم بالزاوية الحمراء بالقاهرة، وقررا تبنيه على الشريعة المسيحية بمنحه اسميهما واحتضانه في بيتهما، كونهما حُرما من الإنجاب. إلا أنه – بحسب محامي الأسرة نجيب جبرائيل- تقدمت ابنة شقيقة الزوج بعدة بلاغات ضد الأبوين، تتهمهما فيه بالعثور على طفل مجهول النسب خارج الكنيسة ونسبته "زوراً" إليهما وتربيته على العقيدة المسيحية، وذلك خوفاً منها أن يحجب وجود الطفل ما تراه حقاً لها في الميراث. وعلى الرغم من حفظ النيابة العامة للمحاضر التي تقدمت بها أكثر من مرة إلا أنها واصلت التقدم بالبلاغات إلى أن استجابت لها وزارة التضامن بنزع الطفل وتغيير اسمه وديانته، وألقت الشرطة القبض على الأبوين بتهمتي التزوير والخطف في يوليو/ تموز 2022، قبل أن يطلق سراحيهما بعد ثبوت عدم علمهما بالإجراءات القانونية المتبعة حال لعثور على طفل مجهول النسب، وأحيل الأمر لوزارة التضامن التي أصدرت وزيرتها قراراً فورياً بنزع الطفل وإيداعه دار رعاية للأطفال المسلمين بعد تغيير اسمه من شنودة إلى يوسف، وكذلك تغيير ديانته.
منذ وجدت القصة طريقها إلي الإعلام، لقيت قضية الطفل شنودة تعاطفاً اجتماعياً واسعاً، دفع المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر إلى إعلان تبنيه قضية الطفل، والعمل على اقتراح تعديلات تشريعية في قوانين الكفالة في مصر بعد التوافق مع الجهات المعنية (تمنع مصر التبني استناداً إلى تحريمه في الشريعة الإسلامية، وتسمح بالكفالة).
وكان نجيب جبرائيل، محامي أسرة الطفل شنودة، قد أعلن فور صدور الحكم أمس عن عزمه الطعن على قرار محكمة القضاء الاداري بعدم إعادة شنودة لأسرته بالتبني في المحكمة الإدارية العليا فور استلام حيثيات الحكم والتي ستمكنه من تقديم الطعن عليها. إلا أن الطفل باق في دار الرعاية إلى أن يتم الفصل في قضيته وإن استغرق ذلك سنوات.
منذ وجدت طريقها إلي الإعلام، لقيت قضية الطفل شنودة تعاطفاً اجتماعياً واسعاً، دفع المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر إلى إعلان تبنيه لقضية الطفل، والعمل على اقتراح تعديلات تشريعية في قوانين الكفالة بعد التوافق مع الجهات المعنية
قضية لا تخص أصحابها فقط
وتسبب الحكم الصادر أمس، السبت، في غضب وخيبة أمل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصل صداها للبرلمان المصري؛ حيث استنكرت النائبة البرلمانية دينا عبدالكريم، الحكم بعدم الاختصاص والذي جاء بعد شهور من الصمت احتراماً لأحكام القضاء.
وقالت البرلمانية في تدوينة لها عبر صفحتها الرسمية، إنها سبق أن تقدمت بأكثر من خمس طلبات إحاطة وأسئلة فى مجلس النواب ولم تتم مناقشتها ولا الرد عليها، معتبرة أنه لا القضاء ولا مجلس النواب ولا الكنيسة ولا الأزهر لهم يد فى ابتعاد الطفل عن أسرته، وأن الحكم الآن للرأى العام، وللدولة أن تنتصر فى قضية لا تخص أصحابها فقط إنما تخص المواطنة ، والإنسانية والمنطق والرحمة وكل المعاني "التي لا تحتمل الميوعة ولا كل هذا الوقت ولا كل هذا التضليل"، بحسب تعبيرها.
بدوره يندد مكاريوس لحظي، عضو المفوضية المصرية للحقوق والحريات، بالحكم الذي جاء بعد نحو عام من المداولات، مؤكدًا لـرصيف22 أن من صفات العدالة إنها ناجزة؛ "فإذا رأت المحكمة أنها غير مختصة، لا يكون هناك معنى للطريقة التي سارت بها المحاكمة، ولا معنى إذاً لبقاء الطفل شنودة في دار الرعاية لحين القضاء في أمره، ولا معنى لانتزاعه من حضن أسرته من الأساس".
إلهام عيداروس: منظومة الكفالة التي أتاحتها وزارة التضامن ليست معروفة لكل الناس، كما أن إجراءاتها بالنسبة للمسيحيين شديدة التعقيد، وبالتالي لا يجب لوم أسرة شنودة لأن تلك المنظومة لم تكن معروفة ولا متوفرة لهم
"كارثة إنسانية"
فيما ترى إلهام عيداروس، الباحثة في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بمؤسسة "قضايا المرأة المصرية"، أن قضية الطفل شنودة بمثابة "كارثة إنسانية لها آثارها الوخيمة على الطفل وأسرته؛ حيث ستؤثر نفسياً بشدة على شنودة وهويته، وعلى الأسرة التي تعاقب بسبب أوضاع فوق قدرتها"، متسائلة: "من المختص إذا كانت المحكمة غير مختصة؟ وزارة التضامن الاجتماعي هي المسؤولة حالياً عن الطفل والأسرة، وهي جهة إدارية"، معترضة على المسلك الذي اتخذته الوزراة، مشيرة إلى أن هناك أخطاء وقعت فيها الأسرة منذ البداية عند توثيق العثور عليه، لكنها لا تلومهم على ذلك نظراً لبساطتهم.
وتضيف عيداروس لـرصيف22، أن المسيحيين في مصر محرومين من التبني رغم أن اللائحة رقم 37 نصت عليه، لكنه موقوف فعلياً، وعلى الجانب الآخر فإن منظومة الكفالة التي أتاحتها وزارة التضامن ليست معروفة لكل الناس، كما أن إجراءاتها بالنسبة للمسيحيين شديدة التعقيد، وهذا العام فقط نجحت أول أسرتين مسيحيتين بمصر في الكفالة، وبالتالي لا يجب لوم أسرة شنودة لأن تلك المنظومة لم تكن معروفة ولا متوفرة لهم لأنه تم تفعيلها هذا العام فقط، داعية إلى تفعيل نظام التبني عند المسيحيين وتسهيل اجراءات الكفالة للمنتمين لمختلف الشرائع، وهو ما تعتقد أنه سيستغرق زمناً، متسائلة "هل سيظل شنودة يدفع الثمن؟".
الأولى أن تقوم الكنيسة برفع الدعوى
وعلى النقيض من حالة الدهشة لدى الكثيرين فإن الباحث والكاتب إسحاق إبراهيم، مسؤول ملف الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، كان يتوقع الحكم بعدم الاختصاص في قضية شنودة "بسبب كون إجراءات الدعوى غير سليمة"، مؤكداً أنه كان من الأولى أن تقوم الكنيسة برفع الدعوى، أو تتدخل في الدعوى الحالية. وأن تكون الطلبات محددة بإلغاء القرار الإداري بتغيير اسم وديانة الطفل، وبالتزامن مع ذلك يتم طلب إعادة تحقيقات النيابة العامة وصولاً لنقل الطفل إلى دار رعاية مسيحية، "وفي مرحلة تالية، يمكن من خلال نظام الكفالة تسليم الطفل إلى الأسرة التي ربته واحتضنته بالنظام الجديد".
وأضاف إسحاق في تدوينة له، عبر حسابه على فيسبوك، أن ما يعقد القضية هو التعامل غير القانوني مع الطفل منذ وُجِد بالكنيسة، لافتاً إلى أنه "كان من الأجدر أن تعترف الكنيسة بخطأ الكاهن الذي سلمه بدون تحرير محضر بالواقعة، وتطلب تصحيح الإجراءات حتى لو حملت إدانة للبعض بعض النظر عن حسن النية ونبل الهدف"، مشدداً على أن الاكتفاء بكتابة إقرار بأن الطفل وُجد داخل كنيسة لن يعيد شنودة.
من ناحيته يؤكد الأب رفيق جريش، راعي كنيسة القديس كيرلس للروم الكاثوليك، والمتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية، لـرصيف22 أن الشريعة المسيحية تسمح بالتبني، وتعطي الطفل المكفول الحق بالميراث كالابن البيولوجي، "لكون المسيحية لا تفرق بين طفل شرعي وغير شرعي ولا تهتم بمسألة الأنساب. إلا أن الأطفال المسيحيين المكفولين بمصر لا يتمتعون بذلك وتسري عليهم أحكام القانون المدني المصري المستمدة من الشريعة الإسلامية"، وهو ما يستنكره بدوره مطالباً السلطة المصرية بأن "تفك القيود عن أيدي الكنيسة في قضية التبني المحظورة، كي يتم منح الطفل اسم العائلة والحق في الميراث وحل العديد من المشكلات الاجتماعية"، مستنكراً كذلك عدم تضمن قانون الأحوال الشخصية الجديد لمسألة التبني وموضوع المواريث عند المسيحيين على الرغم من صراحة النص الدستوري الذي يعطيهم الحق في الاحتكام إلى شرائعهم في قضايا الأحوال الشخصية.
والدولة: "كل لقيط ينتمي للشريعة الإسلامية"
وفي حديثه لـرصيف22 أكد المستشار أحمد مهران أستاذ القانون العام، ومدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، أن ما أقدمت عليه أسرة الطفل شنودة عند تبنيه بتسجيله باسميهما "مخالف لأحكام القانون المصري ولوائح وزارة التضامن الاجتماعي، التي تنص على الكفالة لا التبني المحرم شرعاً وقانوناً؛ فكان على أسرة شنودة أن تكفله، لا أن تتبناه، لكنه تحول إلى ابن شرعي للأسرة وله الحق في الميراث، مما أثار حفيظة بعض أقارب الأسرة"، لافتاً لكون الدعوى التي رفضتها محكمة القضاء الإداري كانت بغرض إلغاء قرار سحب الطفل.
ويوضح أستاذ القانون العام أن الحكم بعدم الاختصاص جاء بسبب كون قرار السحب ليس إدارياً يمكن الطعن عليه بل هو تنظيمياً داخلياً، خاص بوزارة التضامن الاجتماعي فيما يخص تطبيق القانون وتنفيذه "بالصورة التي تجعل كل طفل لقيط داخل القطر المصري، ينتمي إلى الشريعة العامة في مصر والتي هي الشريعة الإسلامية، باعتبار أن المادة الثانية من الدستور تؤكد على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وبالتالي فإن كل طفل لقيط يحسب على إنه من المنتمين إلى القاعدة العامة في مصر وهي الشريعة الإسلامية".
جهة الاختصاص هي محكمة الأسرة
بينما يُبيّن المحامي سيد فايز، باحث الدكتوراة في القانون بجامعة الإسكندرية والمهتم بحقوق الأقليات الدينية، أنه رغم إنسانية قضية الطفل شنودة إلاّ أن القانون يحدد إجراءات محددة للتقاضي وحفظ حقوق كل صاحب مظلمة ينبغي اتباعها وإلّا كان مصير الدعوى الرفض، موضحاً لـرصيف22 أن حكم الإدارية الصادر بعدم الاختصاص: "حكم صحيح قانوناً لأن جهة الاختصاص بنظر الدعوى هي محكمة الأسرة، أما ما يخص طول الإجراءات قبل الحكم فمبرر لكون المحكمة دائماً تحكم من خلال الطلبات الختامية للخصوم وينبغي على المحكمة الدراسة والنظر قبل الفصل في الدعوى" .
ويعتبر باحث الدكتوراة أن قضية شنودة "من القضايا الكاشفة لوضع أطفال الشوراع ومجهولي النسب وما يتم معهم في دور الرعاية، مما يلزم تدخل الدولة لتصحيح مسار دور الرعايا وحقوق الأطفال أصحاب الحالات المماثلة للحق في وجود أسرة حقيقية تحتضن وترعى".
ويرى فايز أن حل مشكلة الطفل شنودة يكمن فى تدخل دار رعاية مسيحية تتقدم بطلب للدولة لتسليم الطفل لها، على أن تتولى رعايته كطفل لقيط مسيحى بحكم العثور عليه داخل كنيسة، والبعد عن إدخال من تبنوه خلال الفتره الماضية لعدم وجود صفة أو مصلحة لهم فى الدعوى، كما يمكن الاستناد إلى الحكم النهائى غير المطعون فيه، رقم 5312 لسنة 13 قضائية البحيرة "قضاء إدارى"؛ حيث أن الطفل مجهول النسب يتم تسليمه لدور رعاية، ولما كان الغالب واليقينى أن الطفل مسيحى نظراً لظروف العثور عليه ، فمن ثم كان لزاماً على النيابة تسليمه لدور رعاية مسيحية، ومن هناك يمكن لأسرته أن تكفله بحسب أحكام القانون السارية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...