"شاعر المشرق"، "شاعر الإسلام"، "شاعر الماضي والحاضر في شبه القارة الهندية"، "العلامة"؛ هذه كلها ألقاب المفكر والفيلسوف والمحامي والكاتب وشاعر باكستان الوطني، محمد إقبال، الذي عُدّ من القامات الإسلامية الكبيرة التي شاع صيتها شرقاً وغرباً، لإسهاماته في الفكر والسياسة والمجتمع.
وُلد محمد إقبال عام 1877، في مدينة سيالكوت في إقليم البنجاب، والتي أصبحت جزءاً من باكستان بعد استقلالها عن الهند. كان والده الشيخ نور محمد، يشتهر بالتصوف، وقد ربّاه تربيةً صارمةً كان لها أثر بالغ في حياته، وقد تعلّق بالقرآن منذ الصغر نتيجةً لتلك التربية الصوفية.
وبالإضافة إلى العربية والأردية، تعلّم اللغة الفارسية من المدارس القديمة التقليدية، حتى أصبح ملمّاً بتلك اللغات، ثم دخل المدرسة البريطانية "سكاتش ميشن"، في مسقط رأسه، وانهمك في دراسة أصول العلوم الحديثة ومبادئها. في بواكير شبابه، انضم محمد إلى الطريقة القادرية الصوفية، وتعلّم هناك العرفان والشعر والآداب حتى تكونت حياته الفكرية والروحية.
شهادات أكاديمية ورسائل جامعية
واصل إقبال دراسته في كلية حكومية في لاهور، وحصّل معرفةً تامةً بالأدب الإنكليزي والآداب الأوروبية، وحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في مادة الفلسفة الغربية، ثم انبرى للتدريس في قسم اللغات الشرقية في الكلية الحكومية نفسها، وتولّى إعطاء دروس في اللغة العربية والأدب الإنكليزي والاقتصاد والتاريخ والفلسفة.
سعى إقبال إلى تعريف مسلمي الهند بقيمهم وتراثهم الروحي وإعدادهم لنيل الحرية والاستقلال واستعادة هويتهم التاريخية والثقافية، وخلال تلك الفترة بدأت معرفته الأشد عمقاً والأكثر سعةً بأفكار جلال الدين الرومي
ظل يمارس البحث والترجمة والتأليف في هذه المجالات، وكانت له مقالات حول الإنسان الكامل والتوحيد الوجودي من وجهة نظر المتصوف عبد الكريم الجيلي، كما لخّص وترجم كتاباً في علم الاقتصاد السياسي من الإنكليزية إلى الأردية، وألّف كتاباً آخر في علم الاقتصاد الحديث. ومن أعماله العلمية الأخرى في هذه الفترة، تأليفه كتاباً عن تاريخ بريطانيا من القرن الـ11 حتى الـ15 م، وكتاباً في تاريخ الهند لطلاب الجامعة.
سافر إلى لندن ودرس في جامعة كامبردج، حتى حصل على شهادة عالية في الفلسفة وعلم الاقتصاد، كما مكث هناك سنتين يحاضر عن الإسلام. ثم سافر إلى ألمانيا ودرس الفلسفة في جامعة ميونيخ، وحصل على شهادة الدكتوراه على دراسة بعنوان "تطور الميتافيزيقيا في إيران"، بعد ذلك عاد إلى بريطانيا وحصل على شهادة في المحاماة من جامعة "كامبردج"، وانتسب إلى مدرسة علم الاقتصاد والسياسة في لندن، وتخرّج في المادتين.
ثورة شاعر
قبل أن يسافر إلى أوروبا، وفي بداية القرن العشرين حينما كانت التيارات الفكرية والحركات السياسية والتحررية المطالبة بالاستقلال قد بلغت ذروتها في شبه القارة الهندية، وكانت تستقطب بطبيعة الحال طبقة الشبان المستنيرين، كان إقبال، بعيداً عن أجواء التدريس الجامعي، يمضي غالبية أوقاته في الجمعيات الأدبية والندوات الشعرية، وكانت أشعاره تُتناقل في البقاع الناطقة بالأردية، وذاع صيته بوصفه أحد أبرع شعراء هذه اللغة وهو في الثلاثين من عمره.
كانت اجتماعات جمعية حماية الإسلام في ولاية لاهور باكستان، من ضمن المجالس التنويرية والتحررية التي كانت تُعقد لنيل الاستقلال، وقد أسهم إقبال في هذه الجمعية مساهمةً فاعلةً ومؤثرةً، إذ كان يلقي في كل مجلس يُعقَد قصيدةً من أشعاره، وسط استقبال نخبوي وشعبي كبير.
سعى إقبال إلى تعريف مسلمي الهند بقيمهم وتراثهم الروحي وإعدادهم لنيل الحرية والاستقلال واستعادة هويتهم التاريخية والثقافية، وخلال تلك الفترة بدأت معرفته الأشد عمقاً والأكثر سعةً بأفكار جلال الدين الرومي.
كان شعر إقبال في تلك الفترة ذا طابع صوفي وعرفاني، وكان يتّبع أساليب ومضامين الشعر الأردي التقليدي، إلا أنه مع انشغاله في التيارات السياسية آنذاك، ومساعي المسلمين لإحياء الروح الوطنية وحفظ حقوقهم في مقابل الأكثرية الهندوسية، كانت أشعاره تصطبغ تدريجياً بصبغة سياسية واجتماعية.
غنّت له أم كلثوم قصيدة "الشكوى"، التي اشتهرت باسم "حديث الروح"، وكان قد ترجمها إلى العربية الشيخ الصاوي شعلان، وأخذت الأغنية أصداء كبيرةً في البلاد العربية، ومن أبياتها:
حديث الروح للأرواح يسري... وتدركـه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح... وشقّ أنينه صوت الفضاء
ومعدنه تراب ولكـن... جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني... حديثـاً كـان علوي النـداء
فحلّق في ربا الأفلاك حتى... أهـاج العـالم الأعلى بكائي.
فلسفة إقبال
كان إقبال غارقاً بعمق في القضايا الفكرية والفلسفية الغربية والإسلامية، وبعد عودته من أوروبا وفي الفترة التي كان منهمكاً فيها في تنظيم آرائه وأفكاره طرأ نوع من التطور الكلي في آرائه السياسية والاجتماعية. كان يرى أن إصلاح المجتمع المسلم في الهند يكمن في تغيير الأسس والمبادئ الفكرية للمجتمع واكتساب العلوم والفنون والمهارات الحديثة، وكان يسعى إلى أن يبيّن آراءه في إطار تعابير ومقولات تكون مقبولةً لدى فئة الشباب ودعاة التجديد من المسلمين. كما كان يرى أن الانقياد الأعمى للعقل والنزعة العقلية ذات الاتجاه الواحد أمرين غير مقبولين، ويرفض تقليد أسلوب الحياة الغربية والتقييم الأخلاقي والاجتماعي الغربي، ويخاطب الغربيين: "إن حضارتكم سوف تقتل نفسها بخنجرها... إن العشّ لا يثبت على غصن ضعيف مضطرب".
أدرك إقبال أن الحياة السياسية والاجتماعية لمسلمي الهند لا ينبغي أن تُعدّ منفصلةً عن المجتمع المسلم الكبير خارج الهند. وخلال إقامته في الغرب ومشاهدته الحروب والصراعات بين الشعوب، أدرك أن أكثر تلك الكوارث وسفك الدماء، وليد مشاعر قومية وفي سبيل الحصول على مكاسب مادية واقتصادية وطنية، فلخص تطور المجتمعات وأعمار الدول في هذه الجملة: "تعال أنبئك بمصير الأمم وعاقبتها، سنان ورماح ثم لهو وغناء".
تراجع عن الوحدة العالمية للإسلام
من حيث الفكر السياسي، اعتقد إقبال بالوحدة العالمية للإسلام والتحاق مسلمي الهند بالعالم الإسلامي، وهذا التيار الفكري السياسي كان قد بدأ بنشر أفكار جمال الدين الأسد آبادي، بهدف تأسيس خلافة إسلامية عالمية، وكان له مؤيدون كثر في صفوف الجماهير المسلمة والمستنيرين في الهند.
وإثر دراسته الأوضاع الاجتماعية في الهند وصراعاتها الداخلية والمؤامرات والفتن التي تثيرها القوى الاستعمارية، وصل إلى نتيجة مفادها بأن تعايش المسلمين مع الهندوس في بلد واحد سينتهي إلى هيمنة وسيادة الأكثرية ذات الديانة الهندوسية على الأقلية المسلمة، وبرغم أن توافقاً واتحاداً تم بين الفريقين في خضم النضال لطرد القوى الأجنبية المعتدية، إلا أن ما لا شك فيه أن الحرب والصراع واضطراب الأوضاع ستعمّ أرجاء الهند بعد نيل الاستقلال، ولن تكون نتيجتها في مصلحة المسلمين على أي حال. وعلى هذا، سيكون من الأفضل أن ينفصل مسلمو الهند عن الأكثرية الهندوسية في أسرع ما يمكن، وينضموا إلى المجتمع الكبير لمسلمي العالم اتّباعاً لمبدأ الوحدة الإسلامية.
لكنه أدرك في السنوات الأخيرة من عمره، أن مجتمعاً كهذا لا وجود خارجياً له على أرض الواقع، إذ شاهد اضطراب الأوضاع والخلافات الحزبية والعقائدية في البلدان الإسلامية وتفشّي الضعف والهوان والتخلف بينهم، وهزيمة الإمبراطورية العثمانية، وتفوق القوى الاستعمارية العظمى بشكل مباشر وغير مباشر على الشعوب الإسلامية، وبيّن ذلك في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، الذي يُعدّ من أهم مؤلفاته.
اليوم أينما حللت وارتحلت في باكستان، تشاهد اسمه مرفوعاً على اللافتات، من مطار لاهور، إلى جامعة إسلام آباد، بالإضافة إلى متحف إقبال الوطني ومكتبة باسمه، ناهيك عن الشوارع التي تحمل اسمه، والمراكز العلمية والتجارية التي تتصارع باستمرار لتحوز هذا الاسم الذي يجلب لها الفخر والرفعة
وخلال الثورة الروسية (1917 م)، كان إقبال قد أصبح من أنصار الحركة الاشتراكية، وكان يعدّ نظريات ماركس مفيدةً لمقارعة الرأسمالية ومفاسدها. وفي ديوان "ضرب كليم"، يذكر ماركس والثورة الاشتراكية بخير، ويرى أن الاشتراكية تنسجم بشكل عام مع الرؤية الاجتماعية الإسلامية، ويعتقد بأن القرآن يرفض الرأسمالية واستغلال الطبقة المحرومة ويناصر المحرومين والكادحين، لكنه في الوقت نفسه يرفض كفرها وإلحادها. وكان في البدء يتقبل الآراء السياسية الاجتماعية لموسوليني، إذ أُعجب بعد اللقاء الذي جمعه به في إيطاليا سنة 1932، بشخصيته وأعماله، لكنه بعد فترة، وعندما شنّت إيطاليا هجوماً على إثيوبيا، استنكر إقبال الحرب بشدة وأدان الاعتداء والأهداف السياسية للزعيم الإيطالي.
علماء أثّروا فيه
أشار إقبال في إحدى مذكراته اليومية إلى عدد من الذين أثّروا في تكوين شخصيته العلمية وحياته الروحية والفكرية في الشرق والغرب، وقال إن أسد الله غالب، من أبرز علماء السلفية في شبه القارة الهندية وأستاذ اللغة العربية، والصوفي ميرزا عبد القادر بيدل، علّماه أن يبقى شرقياً في فكره وروحه ضمن اجتذابه وتلقّيه الآراء والمقاصد الغربية، أما هيغل وغوته، فقد وجّهاه نحو بواطن الأمور وحقائقها، بينما أنقذه وردزورث أيام حداثته من الإلحاد.
ذاع صيت إقبال وطارت شهرته حتى تُرجمت أشعاره وأفكاره إلى معظم اللغات العالمية، وقد زار فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وأفغانستان والقدس ومصر.
له تسعة دواوين، تضمّنت نحو 12 ألف بيت من الشعر، منها قرابة سبعة آلاف بيت باللغة الفارسية، وخمسة آلاف بيت بالأردية.
توفي العلامة محمد إقبال، في 21 نيسان/أبريل 1938، ودُفن في لاهور، قبل سنوات قليلة من تحقيق حلمه باستقلال باكستان من الهند. واليوم أينما حللت وارتحلت في باكستان، تشاهد اسمه مرفوعاً على اللافتات، من مطار لاهور، إلى جامعة إسلام آباد، بالإضافة إلى متحف إقبال الوطني ومكتبة باسمه، ناهيك عن الشوارع التي تحمل اسمه، والمراكز العلمية والتجارية التي تتصارع باستمرار لتحوز هذا الاسم الذي يجلب لها الفخر والرفعة. ويُعدّ يوم ميلاد شاعر باكستان الوطني ويوم وفاته يومي عطلة رسمية في بلاده، كما له ضريح رسمي في جامع لاهور يزوره الآلاف سنوياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...