خلال الدقائق التي تلت هبوط الطائرة على أرض مطار مسقط، نويت معاينة كل ما أمكنني من ملامح هذه البلاد العريقة، واكتشاف كل شيء من المرة الأولى، وإن بدا ذلك مستحيلاً. فالمدينة هادئة تشعرنا بالسلام وبالترحاب.
لمحت أول ما لمحت وجوهاً سمراء تميل إلى اللون البرونزي. أعلم من خبرتي في السفر بأن أصحابها ليسوا من السكان الأصليین. فالعُمانيون لهم زي مميز، وشكل عربي لافت، لكن هذه الوجوه مختلفة في الملامح.
المواطنون الهند في كل مكان في أرض سلطنة عمان. يمثلون غالبية العمال الوافدين فيها كما في معظم دول الخليج الأخرى التي زرتها. لكنهم مرتاحون في هذه البلاد أكثر، كأنهم ليسوا في رحلة عمل مؤقتة، أو هجرة، مما دفعني للتفكير في جذور تلك العلاقة.
معبدان
بعد ليلتي الأولى وبدايات النهار الأول في عمان، سألت بعض المقيمين عن أماكن مختلفة تستحق المشاهدة، عددت لهم تلك التي زرتها في رحلتي السابقة، فاقترح أحد الهنود الذهاب إلى "معبد شيفا، أقدم معبد هندوسي في عُمان".
"شيفا، معبد، عمان، كيف لهذه الكلمات أن تجتمع؟!".
"ليس شيفا فقط، هنا كريشنا أيضاً"، هكذا أجاب صديقنا الهندي.
وعرفت أنه يوجد في مسقط معبدان للجالية الهندية، الأول هو "اللورد شيفا" في منطقة "مطرح" بالقرب من "قصر العلم"، القصر السلطاني، وهو أقدم المعابد الهندوسية في الشرق الأوسط. ويقال إنه بني قبل أكثر من مائة عام، وقد شيّده التجار الهنود الذين أتوا من ولاية "كجرات" الهندية واستقروا في مسقط منذ قرون.
وقد زار المعبد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في 12 شباط/فبراير 2018 أثناء زيارته الرسمية إلى عُمان.
اقترح أحد الهنود الذهاب إلى "معبد شيفا، أقدم معبد هندوسي في عُمان".
"شيفا، معبد، عمان، كيف لهذه الكلمات أن تجتمع؟!".
"ليس شيفا فقط، هنا كريشنا أيضاً"
والمعبد الثاني هو "شري كريشنا" الذي يقع في "دارسيت" ويبعد عن مطار "السيب" الدولي نحو 30 كيلومتراً، وشيده أيضاً تجار هنود من ولاية كجرات.
في كلا المعبدين كهنة، وموظفون، ومتطوعون يؤدون مهام الخدمة.
ذهبت إلى المعبد عند الظهيرة، وأخذت أتأمل المبنى، الذي يشبه المعابد الهندية ولا يختلف عنها. أصبت بدوار، وشككت في وجودي بدولة خليجية، وانهالت علي ذكريات دخولي المعابد في رحلات سابقة إلى الهند، التي ترددت عليها بشكل متقطع أكثر من عشر سنوات.
تحدثت مع زوج من الهنود، فأخبراني أن الطقوس ذاتها التي تؤدى في المعابد الهندية توجد في هذين المعبدين. وأبرز هذه الطقوس التي تعتبر القاعدة الأولى لدخول أي معبد هو خلع الحذاء.
وخلع الحذاء هنا ليس من أجل الاحترام، وإنما من باب التواضع والنظافة وعدم ارتداء ملابس مكشوفة، وتغطية الكتفين والجزء السفلي من الجسم، ثم تقديم القرابين، وهي من الممارسات الشائعة عند زيارة المعابد.
وبعد انتهاء الصلاة يقدم الكاهن المياه المقدسة للزائرين. وهي خليط من الكافور والأعشاب التي تستخدم لغسل المعبود. يمد الكاهن الملعقة أمام كل مصلٍّ، وعلى المصلي فتح يده اليمنى, ووضع اليسرى تحتها, حتى ينال نصيبه من المياه المقدسة ويشربها.
ثم يجلب الكاهن النار المقدسة، ويمرر المصلي كلتا يديه بلطف على النار وبعد أن يلمسها، يمسح بها على وجهه. وأخيراً يقدم الطعام كقربان (للآلهة) وهو الطعام الصالح للأكل، ومبارك من الآلهة. يمد الكاهن يديه ببعض الطعام ثم يمد المصلي أيضاً اليد اليمنى لأخذه، ثم يضع الكاهن نقطة على جبهة المصلي كبركة لعينه الثالثة.
ودفعتني تلك النظرات والكلمات إلى البحث عن الوجود الهندي في عمان، وأثارتني المعلومات التي اكتشفتها بشكل يكاد يتفوق على استثارتي وأنا أمام هذين المعبدين.
الهنود حالة عمانية خاصة
أينما ذهبنا في الخليج نجد عمالة من جنسيات مختلفة، وخاصة الهنود الذين ينتشرون في عدد من الدول، ولكن نشعر بثقل وجودهم في سلطنة عمان، وأغلبهم من العمال، وبعض المستثمرين. وجودهم قديم، ليس وليد اكتشافات البترول، ويعود إلى التقارب الجغرافي والتواصل التجاري بين الهند وعمان.
فقد حظيت سلطنة عُمان بموقع إستراتيجي لعب دوراً هاماً في تاريخ عُمان السياسي والثقافي والحضاري، لا سيما مع الحضارة المصرية القديمة، والسومرية، والرومانية، والهندية.
وكان للعمانيين نفوذ واسع في شرق القارة وغربها، وفي القارة الإفريقية أيضاً، حين اتخذوا من زنجبار عاصمة لهم. كان يضرب بهم المثل في بطولاتهم البحرية والبرية عبر التاريخ، ويظهر ذلك جلياً حينما طردوا البرتغاليين من أراضيهم وحازوا استقلالهم.
ذهبت إلى المعبد عند الظهيرة، وأخذت أتأمل المبنى، الذي يشبه المعابد الهندية ولا يختلف عنها. أصبت بدوار، وشككت في وجودي بدولة خليجية، وانهالت علي ذكريات دخولي المعابد في رحلات سابقة إلى الهند
وظلت سلطنة عمان تحتفظ بعلاقات تجارية مع معظم الدول، وحلقة وصل بين الشرق والغرب بسبب موانئها الممتدة علي طول المدن الساحلية، وأشهرها سمهرم، الميناء الأشهر في تصدير اللُبان، الذي کان من أبرز البضاعات التجارية في العالم في ذلك الوقت.
فقبل 5000 عام. كانت سلطنة عُمان مدينة ثرية ومركزاً للتجارة في شبه الجزيرة العربية بسبب عمل أهلها في تجارة الذهب واللؤلؤ والبخور واللُبان المنتشرة أشجاره بكثرة في محافظة ظفار.
ووفقاً للأساطير العُمانية، كان لبان أشجار ظفار مميزاً حتى أن ملكة سبأ أهدته للنبي سليمان ذات مرة.
قرأتُ ما تداولته مواقع عمانية عن المؤرخ العماني إسماعيل بن أحمد بن هارون الزدجالي، في كتابه "تجارة عمان الخارجية في عهد السلطان فيصل بن تركي البوسعيدي 1888 – 1913" إن أعداد الهنود زادت في مسقط في عهد دولة "اليعاربة" التي استجلبت الهنود والفرس للعمل كصناع وأصحاب أعمال وتجارة، فاستوطنوا عمان ووجدوا فيها مبتغاهم نتيجة الأمن والاستقرار، ومبدأ التعايش الذي يميز العمانيين عن غيرهم في المنطقة.
ونظراً لما تتمتع به سلطنة عمان من سياسات ليبرالية، وخاصة منحها حرية العبادة لمواطنيها بغض النظر عن معتقداتهم الدينية مما أتاح للهنود المقيمين في مسقط بناء معبدين هندوسيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه