"لا يمكن أن تكون العلاقات الدولية للمملكة موضوع ابتزاز من أيٍّ كان، ولأي اعتبار، لا سيما في هذه الظرفية الدولية المعقدة. ومن هنا، فإن استغلال السياسة الخارجية للمملكة في أجندة حزبية داخلية يشكل سابقةً خطيرةً ومرفوضةً"، يقول بلاغ الديوان الملكي المغربي، الذي نُشر يوم الإثنين 13 آذار/ مارس 2023، رداً على بيان لحزب العدالة والتنمية، بشأن العلاقات بين المغرب وإسرائيل، عادّاً أنه "يتضمن تجاوزات غير مسؤولة ومغالطات خطيرةً"، بحسب نص البلاغ "الملكي".
كانت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية الذي ترأس الولايتين الحكوميتين السابقتين، ووقّع على اتفاقيات التطبيع، قد أصدرت بياناً الأسبوع الماضي، انتقد مواقف وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، من إسرائيل ودعوته إلى العمل المشترك معها.
بعد صمت لأيام، واجتماع للأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، أصدر بياناً في 15 آذار/ مارس الجاري، يؤكد على "احترامه" المؤسسة الملكية، وعلى "أن ممارسات الحزب ومواقفه وبلاغاته مقيدة بما يخوله الدستور لأي حزب سياسي، كون الأحزاب تؤسَّس وتُمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون"، ولأن "وزير الشؤون الخارجية، باعتباره عضواً في الحكومة، يخضع كباقي زملائه في الحكومة، للنقد والمراقبة على أساس البرنامج الحكومي".
حلقة الشدّ والجذب بين القصر والحزب الذي عاد إلى المعارضة قبل عامين، بعد عشرة أعوام قضاها في "السلطة"، تطرح تساؤلات حول طبيعة هذه المواقف، وعلاقة الحزب بالمؤسسة الملكية.
السياسة الخارجية "حكر" على القصر
لغة بيان الديوان الملكي "الصارمة"، أكدت على أن السياسة الخارجية مجال خاص بالملك، لكنه في الآن ذاته، عدّ أن خطاب الحزب يأتي لأغراض سياسية "ضيّقة"، قائلاً إن المغرب "لا يخضع للمزايدات السياسويّة أو للحملات الانتخابية الضيّقة"، ومذكراً بأن مجال السياسة الخارجية للمملكة من اختصاص الملك، "بحكم الدستور، ويدبّره بناءً على الثوابت الوطنية".
تذكير الديوان الملكي، بدا "توبيخاً" للعدالة والتنمية، الذي كان إلى حد قريب يُعدّ من الأحزاب التي تعمل إلى جانب المؤسسة الملكية، ولم تدخل في مواجهة معلنة معها سابقاً.
أصدر الديوان الملكي المغربي بياناً ينتقد بشدّة حزب العدالة والتنمية بعد أن ندّد الأخير بتصريحات لوزير الخارجية المغربية تدعو إلى العمل المشترك مع إسرائيل
بيان الأمانة العامة للعدالة والتنمية الذي أشعل "الأزمة"، استهجن المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها مدافعاً عن إسرائيل في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية، في الوقت الذي "يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على إخواننا الفلسطينيين ولا سيما في نابلس الفلسطينية".
وطالب الحزب، الدولة المغربية بـ"مضاعفة الجهود في هذه المرحلة الدقيقة دفاعاً عن فلسطين وعن القدس في مواجهة تصاعد الاستفزازات والسلوكيات العدوانية الصهيونية"، داعياً إياها إلى "التنديد بالإرهاب الصهيوني الذي لا يتوقف"، بحسب نص البيان.
العدالة والتنمية ينفي "التهم"
في رده على بلاغ الديوان الملكي المنتقد لمواقفه من السياسة الخارجية للدولة، نفى حزب العدالة والتنمية، عقب الاجتماع العام الاستثنائي لأمانته، يوم الثلاثاء 14 آذار/ مارس 2023، برئاسة الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، "نفياً قاطعاً كل ما يمكن أن يُفهم من البيان على أنه تدخّل للحزب في الاختصاصات الدستورية والأدوار الإستراتيجية للملك".
وقالت الأمانة العامة للحزب، إنها تلقّت "بكل ما يليق من تقدير، البلاغ الصادر من الديوان الملكي، وتؤكد أن الحزب لا يجد أي حرج في تقبّل ما يصدر عن جلالته من الملاحظات والتنبيهات، انطلاقاً من المعطيات المتوفرة لديه، وكونه رئيس الدولة، وممثلها الأسمى"، مؤكدةً أنها "تنفي نفياً قاطعاً علاقة ذلك بأي أجندة حزبية داخلية أو انتخابية أو بأي مغالطات أو مزايدات سياسوية أو أي ابتزاز".
في السياق ذاته، قال القيادي في حزب العدالة والتنمية عبد العزيز أفتاتي، إن بلاغ حزبه الذي كان موضوع انتقاد الديوان الملكي، "عبّر عن موقف وطني لا مزايدات فيه، ولم يعبّر عن موقف حزبي خاص به".
نفى العدالة والتنمية أن يكون انتقاده لتصريحات وزير الخارجية المغربي بخصوص إسرائيل جزءا من "أجندة حزبية داخلية أو انتخابية أو بأي مغالطات أو مزايدات سياسوية أو أي ابتزاز"
وأضاف أفتاتي في حديث إلى رصيف22، أن "انتقاد أداء وزير الخارجية أمر عادي، لأنه وزير في حكومة الدولة وليس الدولة"، مردفاً أن "الانتقاد طال تصريحات الوزير المخالفة للموقف الوطني بخصوص القضية الفلسطينية، وأن حزب العدالة والتنمية تطرّق إلى موقف وطني، بتوجه وأساس جامع ومشترك بين الطيف السياسي المغربي المناهض للصهيونية والداعم للقضية الفلسطينية"، وفق تعبيره.
وقَّع على التطبيع... ويعارضه
عن طبيعة السياق الذي جاء فيه بلاغ الديوان الملكي، يرى المحلل السياسي نوفل بعمري، أنه "سياق محدد ومرتبط بتوضيح موقف الديوان الملكي من بيان العدالة والتنمية الذي تناول السياسة الخارجية للمملكة بشكل قدّم فيه مغالطات كانت تستوجب التوضيح في ما يتعلق بالاختصاصات الموكلة إلى الملك بموجب الدستور، والتي يدخل ضمنها الحقل الدبلوماسي، خاصةً في ما يرتبط بتحديد السياسة الخارجية للمملكة، التي تُعدّ مجالاً محفوظاً للمؤسسة الملكية، ولا يمكن أن تكون موضوع تدافع حزبي داخلي أو سياسي بين المعارضة والأغلبية، لأن الأمر يتعلق بمصلحة المغرب العليا التي لا يجب أن تكون موضوعاً لاستغلال حزبي ولا مجالاً للابتزاز السياسي لتحقيق مكاسب سياسوية".
أفتاتي: "الانتقاد طال تصريحات الوزير المخالفة للموقف الوطني بخصوص القضية الفلسطينية، وأن حزب العدالة والتنمية تطرّق إلى موقف وطني، بتوجه وأساس جامع ومشترك بين الطيف السياسي المغربي"
أضاف بعمري، في تصريح لرصيف22، أن "البلاغ أعاد التذكير بالمواقف الثابتة للمملكة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية"، مشيراً إلى أن "ذلك يعكس حسب البلاغ نفسه، أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للملك، وراهنيتها بالنسبة إلى العلاقات الخارجية للمغرب، والتي يظل العاهل المغربي هو المحدد والضابط لها، والتي تظل مجالاً معقداً يحتاج التفاعل فيه إلى أن يكون منضبطاً للضوابط والثوابت المغربية ومقروناً باتزان سياسي".
ورداً على سؤال عما إذا كان بلاغ حزب العدالة والتنمية الأول يحمل "تبرُّؤاً" من التطبيع مع إسرائيل، أجاب بعمري، بأن الإعلان "تم توقيعه بين الطرفين إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وتم توقيعه من طرف رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني أمام الملك"، عادّاً أن "حزب العدالة والتنمية منخرط في السياق الذي أشار إليه بلاغ الديوان الملكي بجلّ قياداته، بمن فيهم الأمين العام الحالي للحزب، والسؤال ليس هل تمت تبرئة الحزب من العلاقة مع إسرائيل، بل السؤال هو ما الذي جعل بنكيران ينقلب على ما كان قد عبّر عنه آنذاك؟".
وكان حزب "العدالة والتنمية" عاش منذ 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020، جراء توقيع أمينه العام ورئيس الحكومة السابق حينها، سعد الدين العثماني على الاتفاق باستئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل، نقاشاً في أوساط الحزب، جرّاء تباين مواقف أعضائه من خطوة التطبيع، بين مواقف رافضة لها، وأخرى تتجنّب إعلان موقف صريح من الاتفاق، لكن لم يتم إعلان أي معارضة للمسار بشكل رسمي من داخل الحزب.
"دولة قوية وتراجع ديمقراطي"!
عن السياق السياسي والقانوني لهذا الجدل الذي أعاد إلى العلن سؤال دور المؤسسة الحزبية وعلاقتها بالقصر الملكي ومجالات تدخل الفاعلين السياسيين، قال أستاذ القانون الدستوري في جامعة الحسن الأول عبد الحفيظ اليونسي، إنه "إذا أردنا القيام بتحليل واقعي، سنجد أن الوثيقة الدستورية، تقول إن الملك هو رئيس الدولة في المغرب، وسنجد أننا إزاء واقع ملموس يقول إن المغرب مضى في عملية التطبيع في سياق دقيق مرتبط بوحدته الترابية، وإذا ربطنا التطبيع بملف الوحدة الوطنية، سنجد أن بلاغ الديوان الملكي له ما يبرره".
الآن أمام دولة مغربية تعدّ أن كل ما يمكن له أن يشوّش عليها في ملف الصحراء، ستواجهه باستعمال قوتها المادية والرمزية
مضيفاً أن "البلاغ يعطينا صورةً واضحةً عن قوة الدولة، لكنه في الآن ذاته يشكّل تراجعاً عن الديمقراطية. فالدولة الآن تكرّس لمنطق 'الدولة القادرة'، التي استطاعت تدبير الأمور الاجتماعية في مرحلة 'كورونا'. اليوم نحن إزاء مأسسة هذا الدور، بحيث تصبح الدولة تتحرّك بأريحية من دون حدود مؤسسية أو تلك التي لها علاقة بحقوق الإنسان أو بالتأويل الديمقراطي للدستور، لأن الوضع صعب، والتحولات الدولية متسارعة ومعقّدة".
ترسيم حدود تدخّل الأحزاب
يبرَّرُ قرار التطبيع في المغرب بالاتفاق الثلاثي مع الولايات المتحدة خلال إدارة دونالد ترامب، الذي أدى إلى اعتراف أمريكا بـ"مغربية" الصحراء الغربية المتنازع عليها مع جبهة بوليساريو المدعومة من الجزائر.
يرى اليونسي في تصريح لرصيف22، أننا "الآن أمام دولة مغربية تعدّ أن كل ما يمكن له أن يشوّش عليها في ملف الصحراء، ستواجهه باستعمال قوتها المادية والرمزية، خاصةً في الملفات الحارقة مثل ملف الوحدة الترابية. ويشير إلى أن "حزب العدالة والتنمية كان في موقع التدبير ووقّع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، وبلاغ الديوان الملكي جاء من أجل ترسيم حدود تدخّل حزب سياسي في السياسة الخارجية، وتخصّ حزباً كان في موقع التدبير الحكومي لحظة توقيع اتفاق التطبيع. والدولة المغربية تعدّ أن ملف الصحراء عليه إجماع وطني، وكل ما يمكن أن يشوش على هذا الإجماع في ملف الوحدة الترابية، وفق فهم الدولة نفسها، ستردّ عليه بحزم ومن دون تساهل، فهي لن تهادن أي طرف، سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو غير ذلك".
رسائل موجهة إلى الخارج
يرى اليونسي، أن بلاغ الديوان الملكي "حمل رسائل لقوى مختلفة، فهو موجه إلى الخارج، وتحديداً إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وذلك في ظل وجود حكومة إسرائيلية متطرفة، ماضية في تنفيذ مشروعها الاستيطاني، مع إمكانية حدوث اعتداءات على المقدسات الدينية الإسلامية في شهر رمضان المقبل، وهو الأمر الذي سيحرج المملكة المغربية، التي وقّعت اتفاق التطبيع في ظرفية خاصة". وأضاف وفق تقديره أنه "إذا تم إحراج المغرب من خلال المس بالمقدسات، والملك محمد السادس يُعدّ أميراً للمؤمنين، ورئيساً للجنة القدس، فإنه يمكن له أن يتراجع عن قرار تطبيع العلاقات مع إسرائيل".
"بلاغ القصر حمل الوضوح والشفافية التّامة، بعيداً عن سياسة التدبير من وراء الستار التي تجعل موقف القصر غامضاً وقابلاً للتأويل والتوظيف من طرف أطراف مختلفة"
بدوره، قال الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي المغربي يوسف لوكيلي، في تصريح لرصيف22، إن "بلاغ الديوان الملكي حمل رسائل عدة إلى الخارج تقول إن العلاقة مع إسرائيل هي خيار دولة، ولن تسمح لأحد بالتشويش عليها، ولكنها في الوقت نفسه علاقة مرتبطة ارتباطاً وجدانياً بقضية الصحراء المغربية، وتتأثر بشكل مباشر بموقف الدول المعنية خاصةً إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من مغربية الصحراء". مضيفاً أن "البلاغ في الوقت نفسه، يؤكد على أن الملك سيظل رافضاً لأي اعتداء على مقدسات المسلمين والمسيحيين في القدس".
إلى ذلك، يقدّر لوكيلي، أن البلاغ من القصر الملكي نقطة إيجابية، ويرى أن "إصدار بلاغ رسمي متاح للعموم مؤشر على تعاطي المؤسسة الملكية مع كل القضايا المتعلقة بالشأن العام، سواء كانت تتعلق بمواطنين أم بأحزاب سياسية، بالوضوح والشفافية التّامة، بعيداً عن سياسة التدبير من وراء الستار التي تجعل موقف القصر غامضاً وقابلاً للتأويل والتوظيف من طرف أطراف مختلفة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...