بدلاً من قضاء الوقت في عالم طفولته، نقلت ظروف الحرب الدائرة في اليمن وهيب القعطبي (12 سنةً)، مبكراً إلى عالم الكبار، ليعمل في متجر بِقالة صغير غرب مدينة تعز، من أجل تأمين المتطلبات المعيشية لأسرته المكونة من والدته وأشقائه الخمسة الأصغر منه سنّاً.
صار مسؤولاً عن إعالتهم بعد أن خطف الموت والده خلال معركة وقعت في جبل الصيبارة في بلدة الوازعية جنوب غرب تعز، عام 2016. يتقاضى في اليوم الواحد ألفي ريال، أي ما يعادل دولارين فقط. يقول لرصيف22 إن المجموع الشهري، فضلاً عن بضعة رؤوس من الماشية تملكها عائلته، ومساعدة من أقاربه، بالكاد تكفي لسد احتياجات الأسرة.
وبخلاف الكثير من الأطفال الآخرين الذين تغصّ بهم مختلف قطاعات الأعمال في اليمن، لم يترك وهيب مقعد الدراسة، بل يواصل وبتحفيز من والدته دراسته في الصف السادس الابتدائي في مدرسة الحضارة شمال المدينة، والتي يذهب إليها ظهر كل يوم، بعد فترة العمل.
يقول بمرح وهو يحرّك يديه أمام وجهه: "أقضي نصف النهار في العمل، والنصف الآخر في المدرسة".
طفولة مسلوبة
الحرب اليمنية التي اندلعت في العام 2014، وتداعياتها التي أشاعت الفقر في أرجاء البلاد التي يسكنها وفق تقديرات غير رسمية ما يربو على 32 مليون نسمة، أسفرت عن تزايد كبير في أعداد الأطفال المنخرطين في شتى الأعمال، والتي يشكل بعضٌ منها خطراً عليهم مثل بيع الوقود، والحدادة، والميكانيك.
وتصف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وضع الأطفال في اليمن بأنهم "يُسلبون من مستقبلهم"، بسبب أكبر أزمة إنسانية تشهدها بلادهم، حسب بيان صدر عنها في مطلع العام 2023، أكدت فيه أن 23.7 ملايين يمني يحتاجون إلى مساعدة، بينهم 13 مليون طفل.
كما يشير البيان إلى أن هنالك أزمة جوع شديدةً تنذر بكارثة حقيقية جعلت في نهاية 2022، نحو 2.2 مليون طفل دون سن الخامسة، يعانون من الهزال، هذا فضلاً عن وجود أكثر من مليوني طفل خارج المدارس التي "عطلتها المعارك كما حدث للخدمة الصحية".
الأستاذ الجامعي والمدير التنفيذي لـ"مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات" صبري عفيف العلوي يتحدث عن رصد حالات انتحار أطفال في اليمن، خلال سنوات الحرب الثمانية، ويعزو ذلك إلى الظروف المعيشية الصعبة والأعمال الشاقة التي يقومون بها وتدهور المستوى التعليمي، مما عرّضهم للاستغلال أو الاعتداء، فلجأوا إلى الانتحار.
يقول العلوي لرصيف22 إن سنوات الحرب أبرزت توجيه الأطفال إلى العمل في مهن لا تتوافق مع بنياتهم الجسمانية أو الذهنية، كالبناء والزراعة وغيرهما من المهن التي تتطلب قوةً جسمانيةً، وبأجور متدنية، فضلاً عن "عمل الكثير منهم في التسوّل، الذي أصبح سلوكاً لديهم، ما ينذر بجيل منزوع الثقة، ومستلَب الإرادة، لا سيما تلك الفئة التي تتعرض لصنوف كثيرة من العنف والاعتداء اللفظي والجسدي".
ويحذّر العلوي من الأبعاد المترتبة مستقبلاً على تنامي ظاهرة عمالة الأطفال، ويرى أنها تزعزع في نفوسهم الثقة والطموح والتحدي، نظراً إلى "ما يتعرضون له من إذلال وقهر في سن الطفولة المبكرة".
ويضيف أن ما يعيشونه "ستنجم عنه عقد نفسية وكراهية للمجتمع المتسلط والقامع لتلك الطفولة مما يجعل أصحابها في المستقبل شخصيات انتقاميةً وعدوانيةً غير مسالمة مع محيطها الاجتماعي، ويؤمنون بأفكار منحرفة وسلوكيات سلبية، كأن يلتحقوا بصفوف التنظيمات الإرهابية والإجرامية، ما يجعلهم عناصر خطرةً على المجتمع".
بدوره، يرى الباحث الاجتماعي وأستاذ علم الاجتماع في كلية التربية في جامعة عدن علي زين أن الحرب التي زادت من دائرة الفقر خلقت أيضاً وضعاً جديداً في المجتمع اليمني، لا سيما في الجزء الريفي منه، يتمثل في تفاقم ظاهرة عمالة الأطفال. ويقول لرصيف22: "الفقر ليس السبب الوحيد، بل ساهمت في ذلك إلى جانبه البيئة الاجتماعية السائدة، وغالباً ما تُرصد هذه الظاهرة في المجتمعات الأقل مدنيةً، لأنها جزء من ثقافتها".
ويرى زين أن من حسن الحظ وجود عائلات يمنية تحرص على إبقاء أطفالها ضمن نطاق التعليم، حتى وإنْ كانت قد اضطرت إلى الزجّ بهم في الأعمال، ويرجع ذلك إلى "إيمانها بأن التعليم مقدسٌ في الحياة، لذلك هي ترفض تسرّبهم من المدارس تحت أي ظرف حتى وإنْ كان الفقر المدقع".
رُصدت حالات انتحار لأطفال في اليمن خلال سنوات الحرب، بسبب الظروف المعيشية الصعبة والأعمال الشاقة التي يقومون بها وتدهور المستوى التعليمي، وتعرّضهم للاستغلال أو الاعتداء
ربيعة يوسف طفلة في الـ13 من عمرها، تسكن في بلدة موزع في محافظة تعز، قُتل والدها إثر قصف جوي عام 2017، وتوفي عمها الذي كان قد كفلها من بعده في حادث مروري، فدفعت حاجة عائلتها الملحّة إلى تسليمها مهام الإشراف على ورشة لصيانة الدراجات النارية والمركبات وتنظيفها، في بلدة المخا التابعة لتعز، وهي ورشة كانت لوالدها، ويساعدها فيها شقيقها الذي يصغرها، وابن عمّ لهما في مثل عمرها.
تفتح ربيعة أبواب الورشة في ساعة مبكرة من الصباح، وتؤدي بعض الأعمال قبل ذهابها إلى مدرسة الإشعاع الابتدائية حيث تدرس في الصف السادس الابتدائي، وبعد عودتها ظهراً إلى الورشة، يذهب شقيقها لتلقّي الدروس في الصف الخامس في المدرسة عينها.
لا يتناسب العمل مع عمريهما، هي وشقيقها، غير أن ما يجنيانه يشكل طوق نجاة لعائلتهما الفقيرة جداً، والتي حرصت بدورها كما فعلت عائلة القعطبي مع الطفل وهيب، على تشجيعهما على مواصلة دراستهما.
تقول ربيعة لرصيف22 إن العمل ليس شاقاً بالنسبة إليها، وإنها تتعلم في كل يوم شيئاً جديداً، وتحرص على مراجعة دروس اليوم التالي مساءً في المنزل، وإنها تريد إكمال دراستها لتصبح موظفةً وتترك الورشة لشقيقها. وتضيف مازحةً: "لأنه عمل رجال!".
مشكلة قديمة
يعتقد رئيس "منظمة سياج لحماية للطفولة" أحمد القرشي، باستحالة الوصول إلى إحصائيات دقيقة بشأن أعداد الأطفال العاملين في اليمن، بسبب المشاكل والأزمات المتعددة التي تعصف بالبلاد، وكنتيجة لذلك لا يكون في وسع أي جهة إجراء المسوحات ووضع البيانات.
لكن مع ذلك، يؤكد لرصيف22 تضاعف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية من ثلاثة إلى خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل نشوب الحرب، وينفي وجود معالجات ومبادرات كافية لتدارك مشاكل الفقر والبطالة وعمالة الأطفال في الوقت الراهن، ويوضح الأسباب: "استمرار الحرب وانقسام البلاد وضعف أو انعدام إمكانات وقدرات مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني اليمنيين".
ويذكر مسؤولٌ في وزارة الشؤون الاجتماعية في عدن، طلب عدم الإشارة إلى اسمه، أن مشكلة عمالة الأطفال قائمة في اليمن منذ زمن بعيد، بسبب الطبيعة القبلية لغالبية المناطق واعتماد الكثير من الأسر، لا سيما التي تمتهن الزراعة وتربية الماشية وصيد الأسماك، على جميع أفرادها في معيشتها، بغض النظر عن أعمارهم.
"الفقر ليس السبب الوحيد، بل ساهمت في ذلك إلى جانبه البيئة الاجتماعية السائدة، وغالباً ما تُرصد ظاهرة عمل الأطفال في المجتمعات الأقل مدنيةً، لأنها جزء من ثقافتها"
وقال لرصيف22: "الحرب نقلت ذلك من الريف وأشاعته في المدن، بسبب عمليات النزوح والفقر المستشري". وأشار إلى أن الوزارة كانت تنظم قبل نشوب الحرب حملات توعية بخصوص عمالة الأطفال في اليوم العالمي لمكافحة هذه الظاهرة، الذي يصادف في 12 حزيران/ يونيو من كل سنة، وإلى أن ممثلين عن الوزارة كانوا يراجعون جهات معنيّة في عدن، بالتعليم والصحة والعمل والجمعيات الأهلية، لمناقشة وضع الأطفال وتشجيع تلك الجهات للعمل على مكافحة عمالة الأطفال، هذا فضلاً "عن إقامة احتفال خاص في عدن بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال، وطباعة بوسترات خاصة بالمناسبة، لكن الحرب أوقفت تلك الإجراءات".
وكانت منظمة العمل الدولية قد بدأت، في العام 2000، بمشروع للقضاء على عمالة الأطفال في اليمن، تضمّن مراحل متعددةً أولها توفير الدعم التقني بشأن توعية المجتمع للوزارات والمنظمات والجمعيات المعنية المحلية بغية الوصول إلى شراكاتٍ وتهيئة البيئة قبل الشروع في تنفيذ باقي مراحل المشروع.
وكان من ثمار ذلك توقيع الحكومة اليمنية اتفاقيتين، تحملان الرقمين 138 و182، وتأسيس لجنة ثلاثية لعمل الأطفال، لاعتماد خطة عمل وطنية وتحديد قائمة بأسوأ أشكال عمل الأطفال في البلاد.
المرحلة الثانية بدأت في العام 2005، وقامت منظمة العمل الدولية خلالها بتنفيذ عشرة برامج، تركزت على تطوير الوحدات المختصة بمكافحة عمل الأطفال في كل من وزارة العمل ومنظمات المجتمع المدني، ودعم خطة العمل الوطنية، وتأسيس ثلاثة مراكز تأهيل للأطفال العاملين في صنعاء وعدن وحضرموت، بهدف إعادة الأطفال إلى المدارس أو توفير تعليم بديل لهم وتأهيلهم مهنياً.
البرنامج امتد لغاية العام 2010، وشرعت المؤسسات الحكومية بعدها في حملة لمكافحة عمالة الأطفال، غير أن الحرب وتداعياتها عطلتها، وهذا ما تؤكده مديرة وحدة مكافحة عمالة الأطفال في وزارة الشؤون الاجتماعية في عدن، منى البان.
وتقول البان لرصيف22 إن الوزارة نفّذت في العام 2010، وبتمويل من منظمة العمل الدولية واليونيسيف والصندوق الاجتماعي للتنمية، مسحاً شاملاً للأطفال على مستوى الجمهورية للفئة العمرية من خمس سنوات إلى 17 سنةً، وأعلنت في 2013 النتائج التي أظهرت وجود "مليون و614 ألف طفل عامل للفئة المذكورة"، وهو الرقم الوحيد الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء، وفقاً لمنى البان، التي تتوقع أن يكون الرقم قد تضاعف الآن.
وأضافت أن الوزارة وضعت في تلك الفترة تعليمات وقرارات حددت بموجبها لائحةً بالأعمال المحظورة على الأطفال العاملين تحت سنّ الـ18، وقامت بتوزيعها على الجهات الحكومية كافة، مثل الداخلية والإعلام والمساجد ووزارة الأوقاف ومنظمات المجتمع المدني.
ونجحت تلك الإجراءات، حسب ما تقول، في سحب أكثر من 90 ألف طفل كانوا يعملون في ظروف خطرة وإعادتهم إلى المدارس. واستدركت قائلةً: "كانت الظاهرة تنحسر، وكنا على وشك المضي إلى أبعد من ذلك، غير أن اندلاع الحرب وتهدّم المدارس وكثرة النزوح أدت إلى فقدان الأطفال مقاعد الدراسة وكثيرون منهم فقدوا معيليهم، لتتفاقم ظاهرة عمالة الأطفال".
في مدينة الحديدة غرب اليمن، يعمل الشقيقان محمد وبشير الحسامي (11 سنةً و12 سنةً)، خمس ساعات في اليوم كمعدل وسطي، في محلٍ لحياكة أثواب يمنية تقليدية تُسمّى "المعاوز"، في وسط المدينة، ويتقاضيان معاً أجراً يومياً يصل إلى 1،000 ريال (أقلّ من دولار في مناطق سيطرة الحوثيين)، ومع أنه غير كافٍ لتلبية احتياجات أسرتهما، إلا أن والدتهما تقول إن "الأجر القليل أفضل من مد اليد لسؤال الناس".
وتروي لرصيف22 أنهما كانا في المدرسة قبل أن يُقعِد المرض والدهما قبل سنتين، وأنها تفكر في إعادتهما إليها بمجرد "أن تتحسن الظروف قليلاً". تفكر برهةً، ثم تضيف بثقة: "هما يتعلمان الآن مهنةً، وقد تكون أفضل لهما من المدرسة، مَن يدري!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...