على مدار تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، اشتد الصراع الحربي بين المسلمين والبيزنطيين، ما أسفر عن وقوع كثير من المسلمين أسرى في أيدي الروم، واختلفت طريقة التعامل مع هؤلاء وفقاً لمعطيات عدة، منها الظروف السياسية ومنها طريقة معاملة الأسرى البيزنطيين في ديار المسلمين.
ولم يقتصر الأسر من الجانبين على الجنود والمحاربين فقط، وإنما تعداه ليطال سائر طوائف السكان من علماء وتجار وحرفيين، إضافة إلى أعداد كبيرة من النساء والأطفال والشيوخ، لأن الغارات التي كان يشنّها كل طرف كانت تُوجَّه إلى المدن والقرى الواقعة عبر الحدود لتعذّر مهاجمة الحصون لمناعتها، حسبما ذكر الدكتور حامد زيان غانم في كتابه "الأسرى المسلمون في بلاد الروم".
حبس وفقاً للطبقة والوظيفة
وبحسب غانم، عمدت الدولة البيزنطية إلى إبعاد الأسرى عن الحدود الإسلامية التي كانت معرّضة دائماً لإغارة المسلمين، وكانت تسارع بنقلهم إلى أماكن أُعدَّت لهم في عاصمة الدولة البيزنطية نفسها، أو في مدن أخرى.
وكان الأسرى يُحتجزون في دار "البلاط"، حيث كان يُحبس الأشراف من المسلمين إذا أُسروا، كما وُجدت سجون أخرى لباقي الأسرى، وكان لكل منها صفات معيّنة، فمنها المريح الذي كان يجد فيه الأسير كل رعاية وعناية، ومنها السيئ الذي لا يجد فيه الأسير سوى الهوان وعدم الراحة والتضييق، وكان البيزنطيون ينزلون الأسرى في سجونهم كل حسب طبقته ووظيفته.
ويروي غانم أن بطريرك القسطنطينية بين عاميْ 901 و907م، البطريرك نيقولا، أرسل إلى الخليفة المقتدر بالله العباسي رسالة يشرح له فيها حال الأسرى المسلمين، وما يتمتعون به من عناية ورعاية، وكيف أُنزلوا في أماكن مريحة، يتمتعون فيها بالهواء النقي كما يليق بحياة الإنسان.
غير أن حديث البطريرك هذا لم يكن صحيحاً، إذ أن بعض السجون كانت ضيقة ومؤلمة مثل حبس "النومرة"، وهو ما لا يليق بحياة الإنسان، حسبما نقل غانم عن أبي القاسم النصيبي المعروف بابن حوقل في كتابه "صورة الأرض".
تنصير الأسرى
أوردت مصادر إسلامية أنه منذ بداية عصر الإمبراطور قسطنطين السابع (913- 959م) لاقى الأسرى تعسفاً شديداً وأجبروا على اعتناق المسيحية. وما إنْ علم وزير الخليفة المقتدر، علي بن عيسى، بذلك حتى اشتد غضبه وأرسل رسولاً مع مبعوثين من قبل بطاركة أنطاكية وبيت المقدس إلى القسطنطينية للوقوف على حقيقة الأمر.
ولم يكن لدى القائمين على الأمور داخل الدولة الإسلامية القدرة على تغيير سياسة الدولة البيزنطية الداخلية تجاه الأسرى المسلمين ورفع البلاء عنهم إلا عن طريق إرسال رسائل للمسؤولين هناك، وأوضح ذلك صراحة الوزير علي بن عيسى عندما قال للخليفة: "ليس لي مما لي فيه حيلة، لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا".
وعندما فشلت هذه الوسيلة في الضغط على البيزنطيين، لجأت الخلافة العباسية إلى وسيلة أخرى تمثلت في إعادة النظر في معاملة المسيحيين المقيمين داخل الدولة الإسلامية، وانتهى الأمر بأن قرر المقتدر عام 295هـ حرمان كل المسيحيين من العمل بالوظائف الحكومية في الدولة الإسلامية، فيما عدا الطب والجهبذة (إحدى وظائف ديوان بيت المال).
وكانت لهذا القرار نتائج كبيرة، أهمها تحسين معاملة البيزنطيين للأسرى المسلمين، ومسارعة بطريرك القسطنطينية نيقولا في إرسال رسالة إلى الخليفة المقتدر يحثه فيها على العدول عن قراره، ويؤكد له عدم المساس بالحرية الدينية للأسرى المسلمين، حسبما روى غانم.
وإذا كان القائمون على الأمور في الدولة البيزنطية قد حاولوا التخلص من تهمة إكراه الأسرى المسلمين على تغيير ديانتهم، فإنه من الثابت تلكؤهم في العناية بالأسرى المسلمين ورعايتهم. ويتضح ذلك من تقرير الرسول الذي بعثه ابن عيسى للوقوف على أحوال الأسرى المسلمين، والذي أشار إلى أن هؤلاء الأسرى أهملوا إهمالاً تاماً في مأكلهم وملبسهم. ومما جاء في التقرير: "رأيت الأسرى وكأن وجوههم قد أُخرجت من القبور تشهد بالضرر، وما فيه من العذاب"، حسبما نقل غانم عن المحسن بن علي التنوخي في كتابه "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة".
استفادة البيزنطيين من الأسرى اقتصادياً وعسكرياً
لم يكن ما أثاره رسول الوزير علي بن عيسى قاعدة عامة تنطبق على كل الأسرى المسلمين، إذ عمل البيزنطيون على الاستفادة من الأسرى أصحاب الحرف والصناعات، فشغّلوهم في مختلف الأعمال ليتسفيدوا من خبرتهم.
كما اشتغل بعض الأسرى المسلمين في الأعمال التجارية وجنوا من وراء ذلك بعض المكاسب المادية، ذكر غانم.
على مدار تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، اشتد الصراع الحربي بين المسلمين والبيزنطيين، ما أسفر عن وقوع كثير من المسلمين أسرى في أيدي الروم، واختلفت طريقة التعامل مع هؤلاء وفقاً لمعطيات عدة...
أما عامة الأسرى، فقد استُخدموا في أعمال أخرى لا تتطلب خبرة، ويبدو أن هذه الفئة نالت بعض الامتهان إلى درجة أن شمس الدين المقدسي وصف أحوالهم في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" بكلمة "الاستعباد". كما أشار ستيفن رنسيمان في كتابه "تاريخ الحضارة البيزنطية" إلى أن بعض الأرقاء في الدولة البيزنطية كانوا من المسلمين الذين لم يتم فداءهم، حسبما نقل غانم.
والغريب أن البيزنطيين عملوا كذلك على الاستفادة من الأسرى المسلمين في بعض المجالات العسكرية. ففي العام 283هـ، هاجم الصقالبة الدولة البيزنطية وأنزلوا بها الهزيمة، وعندما فشلت جهود الإمبرطور ليو السادس في وقف تقدمهم، لم يجد أمامه سوى الاستعانة بالأسرى المسلمين في الدفاع عن القسطنطينية، وتحقق له ما أراد.
وبدلاً من أن يكافئ ليو السادس هؤلاء الأسرى على هذا الجميل، خشي من قوتهم العسكرية، ومن أن يقوموا بعمل عدائي ضده وهم مجتمعون في القسطنطينية لذا وزعهم وشتتهم على مختلف أنحاء الإمبراطورية.
حرية تنقّل وتريض
لم تكن حياة الأسرى المسلمين في الدولة البيزنطية مليئة كلها بالعذاب والجهد والبلاء، فهناك جوانب أخرى ظهر فيها حسن معاملة البيزنطيين لهم، مثال ذلك عدم إكراههم على أكل لحم الخنزير الذي حرّمته الشريعة الإسلامية، ومنح بعضهم حرية التنقل داخل الدولة البيزنطية، خاصة الذين قضوا مدداً طويلة فيها، وذلك بطبيعة الحال تحت مراقبة السلطات البيزنطية، بحسب غانم.
كذلك، تحاشى البيزنطيون تعذيب الأسرى المسلمين، وأشار إلى ذلك المقدسي في كتابه المذكور بقوله "ولا يثقبون أنفاً، ولا يشقون لساناً"، وكانوا إذا حكموا على أحد بالإعدام يعدمونه بدون تعذيب، وتباهى بذلك البطريرك نيقولا في رسالته إلى الخليفة العباسي المقتدر، محاولاً إلصاق تهمة التعذيب بالمسلمين أنفسهم.
ويُروى أن الأسرى مارسوا بعض الألعاب المرحة، واتخذوها وسيلة للترفيه عن أنفسهم، حسبما ذكر الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه "الإمبراطورية الإسلامية والدولة الإسلامية".
لم يقتصر الأسر من الجانبين على المحاربين فقط، وإنما تعداه ليطال سائر طوائف السكان من علماء وتجار وحرفيين، إضافة إلى أعداد كبيرة من النساء والأطفال والشيوخ، لأن الغارات كانت تُوجَّه إلى المدن والقرى الواقعة عبر الحدود
وينقل العدوي عن المقدسي أنه كان بين قصر الملك ودار البلاط ميدان في وسطه دكة لها درج يجتمع عليه الأسرى للعب، وينقسمون في ذلك إلى قسمين، أحدهما يمثل حزب الملك، والثاني يمثل حزب الوزير، ثم يرسلون خيولاً تجري حول الدكة التي تتوسط الميدان، فإنْ سبقت خيل الملك صاحوا منادين بأن الغلبة للمسلمين، وهنا يقبل البيزنطيون المشاهدون للمباراة على الأسرى المسلمين، ويتلطفون معهم ويغدقون عليهم الهدايا لأن الغلبة لهم.
فداء الأسرى
إزاء كثرة عدد الأسرى المسلمين في بلاد الروم، كانت تجري بين وقت وآخر عمليات فداء لهم، أو مبادلتهم بأسرى بيزنطيين لدى المسلمين. ويذكر الدكتور رضا السيد حسن في كتابه "المعارك والأسر بين العرب والروم"، أنه لم يقع أيام بني أمية فداء مشهور، وإنما كان يُفدى بالنفر بعض النفر في سواحل الشام ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور.
وفي العصر العباسي، أخذ الفداء بين المسلمين والروم شكلاً منتظماً، إذ كان يُحدد اسم المتولي به (أي المتولي بالفداء) من قبل المسلمين، وكذلك اسم المتولي من الروم، وكل فريق يحجز عنده متولي الفريق الآخر، ويُطلقان معاً عند انتهاء عملية تبادل الأسرى، فكان يُفدى أسير من المسلمين بأسير من الروم، ويُحدد لهذا الفداء مكان معيّن، مثل نهر "اللامس"، وهي قرية على البحر المتوسط في مقاطعة سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس، وكذلك ثغور فلسطين مثل "قيسارية".
وكانت إجراءات الفداء تتم بصورة رسمية احتفالية، وكلما زاد عدد الأسرى لدى طرف عن الطرف الآخر تُبذل الأموال لفكهم، بحسب حسن.
بالإضافة إلى المسلمين، كانت الدولة الإسلامية تفتدي المسيحيين المختطفين على أرضها من قبل البيزنطيين
وجرى أول فداء بين المسلمين والروم في عهد الخليفة جعفر المنصور سنة 139هـ، عندما غزا صالح بن علي ملطية، ورغب الإمبراطور في فداء الأسرى، فيما كان المنصور يأبى ذلك حتى كتب إليه الإمام الأوزاعي رسالة شديدة اللهجة بالمبادرة إلى الفداء قائلاً: "فليتق الله أمير المؤمنين، وليتبع بالمفاداة بهم من الله سيلاً"، فوافق المنصور وجرى الفداء، ثم توالت بعدها الأفدية في المراحل التالية.
وبالإضافة إلى المسلمين، كانت الدولة الإسلامية تفتدي المسيحيين المختطفين على أرضها من قبل البيزنطيين، ذكر حسن.
امتحان الأسرى في مسألة خلق القرآن
اتسم عهد الخليفة الواثق (227-232هـ) بحالة هدوء نسبي في علاقته الحربية مع الروم، ما مكنه من إتمام فداء عام 231هـ في عهد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث (227-253هـ)، وبلغ عدد مَن افتُدوا من المسلمين نحو أربعة آلاف رجل وستمئة من النساء والصبيان، ومن "أهل الذمة" مئة نفس، حسبما ذكرت الدكتورة منى سعد محمد في دراستها "الفداء وتبادل الأسرى بين المسلمين والبيزنطيين في العصرين الأموي والعباسي".
وتأثر هذا الفداء بتعصب الواثق لمسألة خلق القرآن، والتي أثيرت من قبل في عهد الخليفة المأمون (197-218هـ)، فقد أمر الواثق بأن يُمتحن كل أسير في تلك القضية، فمَن قال إن القرآن مخلوق افتُدي بل وأخذ دينارين، ومَن قال عكس ذلك بقي في أيدي الروم. وبحسب الباحثة، فضل البعض البقاء في الأسر على أن يقروا بهذه المسألة.
ومن الأفدية الشهيرة أيضاً ما حدث في عهد الخليفة المتوكل (232- 247هـ)، عندما ساءت أحوال أسرى المسلمين في أرض الروم، إذ قامت ثيودورا الوصية على ابنها الإمبراطور ميخائيل الثالث بتحريض الأسرى على ترك دينهم واعتناق المسيحية، وإلا تعرّضوا للقتل، وكان عددهم حينئذ حوالي عشرين ألفاً.
وتروي محمد أنه عندما علم المتوكل بذلك أرسل نصر بن الأزهر بن فرج ليستطلع أوضاع الأسرى هناك ويطالب فداءهم، ووافق الروم، وحُدد يوم عيد الفطر من عام 241هـ لإتمام ذلك. لكن بعد عودة ابن فرج من أرض الروم قاموا بعرض الأسرى المسلمين أمامهم، وعرضوا عليهم تغيير ديانتهم إلى المسيحية وإلا يقتلوا، ولما رفضوا قُتل منهم حوالي 12 ألفاً.
وعندما حان وقت الفداء على نهر اللامس، كان عدد الأسرى المسلمين 785 شخصاً، ومن النساء 125 امرأة حسبما، حسبما ذكر أبو جرير الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك"، في حين يشير أبو الحسن المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" إلى أن مَن افتُدي من المسلمين في سبعة أيام بلغ ألفي رجل ومئتي امرأة.
وبحسب المسعودي، لم يدخل "أهل الذمة" هذه المرة في ذلك الفداء، وهو ما أرجعته محمد إلى سوء معاملة الروم البيزنطيين لأسرى المسلمين، والتي بلغت حد تخييرهم بين تغيير دينهم والقتل، في حين لم يقدم الروم على قتل أحد من الأسرى المسيحيين لديهم.
الأسرى المسلمون مصدر معلومات
لعب الأسرى المسلمون بعد فدائهم أدواراً مختلفة لصالح الدولة الإسلامية. يشرح العدوي أن ما ساعد المسلمين على تنظيم أحوالهم الإدارية تلك التقارير التي أدلي بها رجالهم الذين شاهدوا بلاد الدولة البيزنطية.
بل إن الجغرافيين المسلمين الذين وضعوا كتب المسالك في العصور الوسطى، وشرحوا الطرق المؤدية إلى بلاد الدولة البيزنطية وعاصمتها، استمدوا معلوماتهم من المسلمين الذي شاهدوا بلاد الدولة البيزنطية وكانوا موضع ثقة وأهل خبرة ودراية، ومعظم الذين دونوا أوصافاً لأحوال الدولة البيزنطية كانوا من كبار الأسرى الذين حملتهم السلطات البيزنطية إلى العاصمة.
ومن هؤلاء مسلم بن أبي مسلم الجرمي، أحد الأسرى الملسمين الذين أُطلق سراحهم في فداء عام 231هـ، فقد أمدّ الجغرافيين بقائمة عن التقسيمات الإدارية للدولة البيزنطية التي تسمى "البنود"، وكانت معلوماته المادة الأساسية التي بنى عليها جغرافيو المسلمين معلوماتهم في هذا الصدد، مثل ابن خرداذبة، حسبما ذكر العدوي.
ولا يستبعد غانم أن يكون ابن خرداذبة قد تقابل مع مسلم الجرمي بعد إطلاق سراحه، وأخذ عنه تلك المعلومات ودونها في كتابه "المسالك والممالك"، ونقلها عنه بعد ذلك سائر الجغرافيين والمؤرخين المسلمين.
كذلك، كان أول رحالة مسلم وصف القسطنطينية، وهو هارون بن يحيى، أحد الأسرى الذين نُقلوا إلى القسطنطينية في عهد الإمبراطور باسيل الأول (867- 886م)، أو الإمبراطور إسكندر (912-913م)، فوصف طريق البحر الذي حُمل عبره إلى القسطنطينية، كما وصف ما رآه بعينيه فيها من الأبواب والملعب والقصر الإمبراطوري، وكذلك موكب الإمبراطور إلى الكنيسة، وما في العاصمة من أديرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.