لسبب لا أعلمه إلى الآن آثر الضابط المكلّف بختم الجوازات أن يؤجل ذلك بأن دعاني إلى التنحي جانباً محتفظاً بجواز سفري؛ أمر قد يكون مرده لحيتي التي أطلقها دون سبب شخصي واضح، ولكنه امتد لدقائق من الحيرة المجردة من ردود الفعل بكل أشكالها حتى تناهى إلى مسامعي صوت ضابط آخر أمسك بجواز سفري وسألني: "انت خليل ابن الحبيب؟ تعال معايا حنوديك السجن". تبعته دون رد فعل أو تعليق حتى التفت نحوي مرة أخرى: "مالك، بنهزر معاك"، وسلمني جوازي وأشار إلى المكان الذي يمكنني منه تسلم حقائبي.
حين خرجت من مطار القاهرة الدولي بعد استكمال إجراءات الكوفيد المعقدة كنت أعتقد أني بحاجة إلى أمر حقيقي يجعلني أتحقق من أني غادرت تونس للمرة الأولى في حياتي وأني وصلت "مصر" أخيراً وأن الأمر قد صار الآن واقعاً حتى حدثني السائق الذي يهم بإيصالي إلى منطقة "الدقي" بأن قال: "خلّص السجارة يا باشا براحتك ونطلع"؛ جملة قد تكون حقيقة بلا أثر سوى أثرها الموسيقي المختلف في أذني أن "صدّق" فقد وصلت "مصر" فعلاً.
ترتبط صورة مصر لدينا وفي أذهاننا بالحكايات والسينما وبما يمر في التلفزيون وذلك انطلاقاً من سنوات تحسسنا الأول لتلك الصور ومراكمتها وتخزين ما يمكن منها حتى لحظة نزول الطائرة هناك لننطلق في عملية مسح بصري وسمعي لما يطابق تلك الصور حتى أني لم أميز جيداً ما قاله سائق التاكسي في طريقنا إلى منطقة الدقي، خصوصاً حين وقع البصر ولأول مرة على نهر النيل العظيم. مفارقة عجيبة بحثت عنها في رأسي عن ذلك النيل الذي تغنى به محمد عبد الوهاب في "إمتى الزمان" وعن ذلك المكان الشهير الذي تم فيه التقاط أغلب لقطات ومشاهد القفز والانتحار في السينما والتلفزيون المصريين.
ترتبط صورة مصر لدينا وفي أذهاننا بالحكايات والسينما وبما يمر في التلفزيون وذلك انطلاقاً من سنوات تحسسنا الأول لتلك الصور ومراكمتها وتخزين ما يمكن منها
المرور ببرج القاهرة كان بدوره قادحاً للكثير من الذكريات والصور، خصوصاً تلك الشارة المرئية لنشرات الأخبار التي كنا نتابع، والتي كانت تبث من مصر على وقع صوت خيري حسن، قارئ الأخبار الأشهر هناك. هناك على قمة البرج الذي لم أدخل شاهدت سريعاً نور الشريف وبوسي الممسكة بالطفلة التي اختطفتها في "آخر الرجال المحترمين" بينما كانت سعاد حسني هناك تحتسي قهوتها في "موعد في البرج " بانتظار صلاح ذو الفقار.
في صباح يومي الأول بمصر كانت وجهتي المعلومة هي الوصول إلى منطقة "التجمع الخامس"، حيث يقام معرض القاهرة الدولي للكتاب حيث يكون الخيار الأول والأخير ربما هو العثور على سيارة تاكسي والتوجه إلى هناك مباشرة غير أن إغراء فكرة "المغامرة" كان أعلى من أن يقاوم.
قبل المغادرة إلى المعرض صباحاً اكشفت فجأة وجود عربة فول بجوار النزل، فانبغى أن أتوقف عندها لأطلب في ارتباكٍ صحناً مشيراً للبائع إلى أني أرغب في الحصول على صحن مثل الذي حصل عليه متحلقون كثر حول العربة. في الحقيقة يجاوز الأمر فكرة مغالبة الجوع إلى كونه قياماً بقرص الجلد قصد التأكد مجدداً من الحلول بتلك الأرض الطيبة.
كان من المفترض ألا تأخذ الطريق مني الى محطة مترو "الأوبرا" أكثر من عشر دقائق سيراً على الأقدام، لكني أخطأت قراءة إملاءات الـ"Google Maps" لأكتشف أنني كنت أسير عكس الاتجاه المفترض، لأبلغها بعد أكثر من نصف ساعة مستغلاً فرصة الوقوف عند عدد من المنازل الأقرب إلى القصور والتي تحيط بها مساحات خضراء هائلة، حتى أني قرأت على بعضها أنها ملك فنانين تشكيليين على وجه الخصوص، وأنها اليوم متاحف لأعمالهم ومفتوحة للزوار وللعموم.
في محطة الأوبرا شدني غياب أمر هيأتُ له نفسي قبل السفر من تونس وهو "الزحام"، فحين دخلت المحطة واقتطعت التذكرة بالجنيهات الخمس لم يكن معي في المحطة سوى قاطع التذاكر والسيدة التي تتأكد من سلامة ما في الحقائب، حتى أن النزول بالمصعد الكهربائي إلى حيث يصل المترو كان أشبه بمكان غادره أهله منذ زمن، كما لم يكن في المترو حين وصلت سوى عدد قليل من الأشخاص وكانت الوجهة ميدان الشهداء أي بعد أربع محطات.
عند الصعود بالدرج الآلي مرة أخرى كنت أردد في نفسي جملة نتندر بها هنا من فيلم "طباخ الرئيس": "وديتو الشعب فين يا حسن؟"، لذات سبب غياب الزحام الذي تحمله لنا الأفلام والمسلسلات والكتب
لوهلة اعتقدت أن كل الذين في المترو إما متفقون على النزول جميعاً في محطة ميدان الشهداء أو أن وجهتهم واحدة بعد نزول جميع الراكبين معاً دون استثناء، وكانت الوجهة هذه المرة ميدان العتبة لمعلومة حملتها معي أيضاً من تونس. عند الصعود بالدرج الآلي مرة أخرى كنت أردد في نفسي جملة نتندر بها هنا من فيلم "طباخ الرئيس": "وديتو الشعب فين يا حسن؟"، لذات سبب غياب الزحام الذي تحمله لنا الأفلام والمسلسلات والكتب.
المعلومة التي كنت أحملها معي من تونس هي أن إدارة المعرض والقائمين عليه يوفرون حافلات نقل مجانية في شكل رحلات مسترسلة؛ أمر لم يكن من العسير تمييز وجهته، خصوصاً مع تعالي الأصوات التي تنادي "المعرض. المعرض. المعرض ". هكذا تمكنت من بلوغ أرض المعرض باستعمال الجنيهات الخمس التي اقتطعت بها تذكرة المترو.
أحتفظ لنفسي وفي ذاكرتي باحتفالية إعلامية أقيمت في معرض تونس الدولي للكتاب ذات دورة بمناسبة بلوغ الإقبال عتبة الخمس مائة ألف زائر، فيما عد حينها رقماً غير مسبوق وصامداً إلى اليوم.
في معرض القاهرة حدثني صديقي المصري الجميل "سمير" عن مناهزة الإقبال في تلك الدورة عتبة الخمسة ملايين زائر، فلم أشأ أن أفصح له عن أرقامنا خشية الحسد ولعله يقرأها الآن للمرة الأولى. لا يتعلق الأمر كثيراً بالتفاوت الكبير بين عدد سكان البلدين مصر وتونس، ولكن ما لمسته هناك لا يمكن اعتباره إلا حالة تعلق فطري بالفن والثقافة عموماً حتى خارج الإطار المناسباتي لمعرض الكتاب، فالمدينة التي كنت أعلم أنها لا تنام مطلقاً لم أكن أعرف قبل زيارتها أنها تحتفظ بمكتباتها مفتوحة إلى منتصف الليل مع إقبال وحركية محترمين.
بالعودة إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب يخصص لكل كاتب من الكتّاب، والكتاب النجوم خصوصاً، ركن خاص به تعرض فيه كتبه ويستدل عليه باسمه الموضوع في الأعلى، حتى أنني وخلال يومين تقريباً لاحظت شغور المكان الخاص بـ إبراهيم عيس من الكتب، حتى أن أحد الأصدقاء هناك أشار علي بالانتظار ريثما يتم إحضارها، ولأني وبطبعي ثقيل الحركة قررت الانتظار قليلاً بعد أن وصلت الكتب أخيراً حتى يأخذ بعض الذين يتعجلون ذلك ما يريدون، لكن وفي النهاية لم تصلني الكتب ولم تصل إلى الرف مطلقاً، فقد نفذت في صناديقها الكرتونية.
في غمرة الحيرة بمبنى معرض القاهرة الدولي للكتاب بخصوص الأروقة التي وجبت زيارتها دون غيرها اختصاراً للوقت، بدا الأمر أشبه بأرض انفلقت فجأة عن طوفان بشري غير محدود، طوفان حين جمعنا مثله في تونس ذات يوم تأكدنا بما لا يدع مجالاً للشك بأننا أسقطنا النظام الحاكم حينها.
حدثني أحد الأصدقاء الذي كلّف نفسه عناء التنقل إلى وسط البلد حتى يقلني معه بأنه أمضى أكثر من عشر دقائق ينتظرني في الجهة الثانية من الطريق دون ينبهني إلى ذلك بعد أن شاهدني مستغرقاً في النظر إلى دار القضاء العالي، فلم يرد ربما قطع تلك الحالة التي كنت عليها بعد أن تداعى كم هائل من الصور والمقاطع السينمائية في رأسي دفعة واحدة.
قد أحب قصص بناء الأهرامات أو عمليات تنصيبها، وقد أجنح أحياناً إلى سماع تفاصيل من قبيل قيام كائنات فضائية بذلك، وقد يحبب إلى قلبي أحياناً مشاهدة الإعلامي محمود سعد للمرة المائة في أحد مقاطع الفيديو لزياراته إلى الأهرامات، لكني ولسبب أجهله جزئياً وجدتني مفضلاً عدم الذهاب إلى هناك حين كان هامش الاختيار لدي ضيقاً لاقتراب موعد العودة إلى بلدي. لذلك وجدتني أحرص مع من يرافقني من الأصدقاء أن أذهب إلى الأماكن حيث يمكنني تحسس الحكايات ولمس الروائح الحقيقية والاستماع مرهفاً إلى اللهجة المصرية المحببة المختلطة بأكثر الأماكن شعبية وازدحاماً.
في وسط الطريق كان "الكوبري" منتصباً ومجتهداً في تسهيل عملية مرور السيارات، بينما كنت أراه، وحين دققت النظر فيه أكثر بعين القلب مجتهداً في الفصل بين عالمين متجاورين متناقضين حيث كان حي "المهندسين" ينام هانئاً على يمينه، بينما كانت "بولاق الدكرور" مستيقظة تماماً على شماله وطبعاً كانت وجهتنا هناك حيث الحياة التي لا تهدأ.
على الرصيف بين طريقين وعلى قهوة "ترعة المجنونة" خليط من الأصدقاء الذين أقابل بعضهم لأول مرة وحديث عن تفاصيل يومية تدور داخل دوائر ومربعات لم أشعر للحظة أنّي غريب عنها؛ دوائر كان يتخللها صوت رضا البحراوي، ومسح بصري للحركة المستمرة على جانبي الطريقين، حيث كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وبرغم ذلك فإن الحركية كانت في أوجها، سواءً تعلق الأمر بالتجارة أم بحركة السيارات والدراجات، وخصوصاً ذلك الكائن العجيب المكنى بالـ"تكتك ". كجامع حكايات وقصص بالتخصص كنت أرى أن هذا الكم من الدفء والحميمة والحكايات في أماكن مثل بولاق الدكرور و "أرض اللواء" وغيرها من المناطق الشعبية التي زرتها دليل إضافي على أن مثل هذا "الطقس" هو عنصر مؤسس لفكرة أن ننفق عمرنا كله وأن لا ننتبه إلى كوننا روائيين عظماء أو قصاصين متمكنين دون أن ننشر كتاباً أو حتى أن نكتب حرفاً.
تحت مبنى مجمع التحرير المهيب كنت أرى كمال الشناوي متقمصاً دور وزير الداخلية مفاوضاً الجميلة عائشة الكيلاني حول صعود ابنها إلى المبنى في "الإرهاب والكباب"
تحت مبنى مجمع التحرير المهيب كنت أرى كمال الشناوي متقمصاً دور وزير الداخلية مفاوضاً الجميلة عائشة الكيلاني حول صعود ابنها إلى المبنى في "الإرهاب والكباب". كان ذلك في اللحظة التي قطعنا فيها ميدان التحرير باستعمال الدراجة النارية، حيث كان السمع المرهف قليلاً كفيلاً بتكرير الأصوات والصور والذكريات المنبعثة من المكان والتي كانت شاشة التلفزيون الباردة تقف بيننا وبينها ذات 2011 رغم ذلك الكم من الأدرينالين الذي كان يعترينا حينها.
في واحدة من رحلات العودة إلى النزل بمنطقة الدقي من معرض القاهرة الدولي للكتاب اختار سائق سيارة التاكسي المرور عبر محور "جيهان السادات" لقلة الحركة، به الأمر الذي سمح لنا بالتوقف لبضع دقائق أمام مقام تاريخي كان يأخذ مكانه كتحفة معمارية وسط الطريق لا يعيبها سوى جانبها الأيمن المعاد ترميمه حديثاً بعيداً عن الحجارة والطريقة الأصليين حتى أن السائق حين سألته عن السبب وراء ذلك أجاب بأن النية كانت تتجه إلى هدمه، غير أن سائق الجرافة أصابته نوبة مفاجأة، كما تعطلت بعد ذلك جرافتان، حتى أعرض الجميع عن القيام بهذا العمل وتم اعتبار المقام....
لم أكمل الاستماع إلى القصة التي كان السائق الطيب يسترسل في سردها بعد أن كنت قد عدت إلى تونس فعلاً، فأنا أعرف هذه القصة وأعرف مآلها بعد أن سمعتها هناك في بلدي حول مقام لولي صالح أيضاً، بل وأعرف أيضاً قصة السائق الذي تعنت في ذلك وفقد اثنين من أبنائه، تماماً كما أعرف قصة المعز لدين الله الفاطمي وتفاصيل حياة بيرم التونسي وقصة الجد التونسي ليوسف وهبي، والكثير من الوشائج الأخرى التي تجعل السفر والانتقال بين البلدين أشبه بالذهاب من غرفة إلى أخرى داخل منزل واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...