شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بروائح الأنثى ومذاق الأدب... الجريمة حين تُكتب

بروائح الأنثى ومذاق الأدب... الجريمة حين تُكتب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 27 أكتوبر 202203:05 م

تتسارع أنفاسي وراء محقق يضع كلَّ تركيزه للكشف عن القاتل في الأفلام الأجنبية والمسلسلات البوليسية، وألهث بين صفحات رواية للكاتبة أغاثا كريستي، منتظرة النهاية التي تحلّ فيها لغزاً بدأتْه بحرفية شديدة، مستمتعة بكل التفاصيل.

حبس الأنفاس، مراقبة الخطوات، الترقب والانتظار بشوق، حالة لم أعشها إلا مع الجريمة، فهي جزء من حياتنا مهما رفضناها، وارتعدت أوصالنا لحدوثها.

هذا الفضول الذي يجعلنا نتوقف أثناء سيرنا لمشاهدة العراك الدائر بين سائقين، هذه الغرائز المستمرة والمتلاحقة للبقاء، والمتعة التي تخلفها بسبب كسر هذا الهدوء الذي يغلف حياتنا. أحداث الجريمة في أحيان كثيرة تضيف نكهةً لحياتي. اضطراب كريه، ولكنه يثير الشغف والخوف معاً.

أُلفة الدّم والخيال

شعرت بالدهشة عندما قرأت عن اتهام الكاتبة الأمريكية نانسي كرامبتون بروفي بقتل زوجها دانيال بروفي، وتم اعتقالها منذ عام 2018، وأدانتها هيئة المحلفين.

والغريب في الأمر أن اتهام الكاتبة جاء بعد سنوات من كتابتها لمقال بعنوان "كيف تقتلين زوجك؟"، وذلك في عام 2011.

بحثت عن المقال برغبة قوية للتعرف عما إذا كان سبباً لإدانتها.

شرحتْ نانسي كيف يمكن للمرأة أن تخطط لقتل زوجها، وعن الأسلحة المختلفة التي يمكن أن تستخدمها لتنفيذ الجريمة، سواء باستخدام السلاح الأبيض، البندقية أو السم، أو عن طريق استئجار قاتل محترف.

كتبتْ: "الشيء الذي أعلمه عن القتل هو أنه كامن في دخيلة كل واحد منا، لا سيما عندما يمارَس عليه ما يكفي من الضغوط".

وختمت مقالها، حالمة: "فقط لو أنّ القتل الذي ننشد به الحرية لا يزجّ بنا في السجون!".

عادة ما نربط العنف بالرجال، فالمرأة دائماً أو غالباً هي المعتدى عليها، ولكن بالنظر إلى هذه الحياة الدفاعية المستمرة لها- في رأيي- فلقد أصبحت الأكثر قدرة على الكتابة عن الجريمة، وكأنها بذلك تدمّر هذه الثوابت، وتفعل ما لا تستطيع فعله في الواقع.

وإن تأملنا أكثر، فالمرأة هي الأكثر تعاملاً مع الدم في حياتها اليومية، والأقل حساسية منه؛ فهي تتعرض للدورة الشهرية، تلد وتتعامل مع جروح أبنائها باستمرار، لذا فهي تمتلك هذا الحق لإطلاق قدراتها التخيلية في الكتابة عن الجريمة.

"إنسانية التفاصيل"

في الآونة الأخيرة، ظهر عدد من التجارب النسائية للكتابة في أدب الجريمة، لكاتبات عرب قررن أن يتصدرن المشهد بهذا النوع الأدبي الذي يحتاج لمقاييس خاصة ومقادير مضبوطة.

ما الذي يميز المرأة عن الرجل في كتابة هذا اللون؟

قال الكاتب والروائي في أدب الجريمة، ميسرة الدندراوي، عن المرأة وأدب الجريمة، لرصيف22: "المعالجة واحدة، لأن أدب الجريمة أو الأدب البوليسي عموماً يلزمه مقومات معينة، من الضروري أن تتوافر في الكاتب، أياً كان جنسه، بمعنى أن كاتب الأدب البوليسي لابد أن يملك مقومات صناعة التشويق، الإثارة والحبكات الملتوية".

المرأة هي الأكثر تعاملاً مع الدم في حياتها اليومية، والأقل حساسية منه، فهي تتعرض للدورة الشهرية، تلد وتتعامل مع جروح أبنائها باستمرار، لذا فهي تمتلك هذا الحق لإطلاق قدراتها التخيلية في الكتابة عن الجريمة

وشرح الدندراوي الذي له عدد من الروايات في أدب الجريمة والإثارة ومنها "العشاء الأخير"، "آثار جانبية"، "صمت مزعج"، في حديثه لنا ،أن ما يميز المرأة في هذا اللون، في ضوء ما تابع وقرأ: "نظرتهن الأشمل للنفس البشرية؛ فالنساء يملكن نظرة أشمل. وهذا ما يجعل الأدب البوليسي المكتوب بواسطة أنثى، يتميز دائماً بعلاقته مع النفس البشرية، وتقلباتها، ودوافعها، بينما الرجل يركز أكثر على الحدث، وكيفية حدوثه".

 "النساء يملكن نظرة أشمل"

"أغاثا كريستي هي أعظم من كتب الأدب البوليسي عموماً، بينما آرثر كونان دويل مثلاً، كان عظيماً في أدب الجريمة التحليلي أكثر من كريستي، برغم أنه رجل واهتمامه بالتفاصيل أقل من أي سيدة"، ينهي الدندراوي حديثه لنا.

وبالنسبة للكاتبة المصرية نهى داوود، فإن ما تمتاز به المرأة التي تكتب أدب الجريمة هو "إنسانية الكتابة، فبينما الرجل يهتم أكثر بالتفاصيل الإجرائية، تهتم المرأة بالدوافع والإنسانيات".

في رواية "جريمة في العقار 47" عام 2022، تقدم نهى حبكة من نوع أقرب إلى الخيال العلمي، إذ تعتمد لربط خيوط جريمتها على خاصية متخيلة، امتلكتها بطلةُ العمل، وهي "الأطياف"، والتي تنقل لها مشاعر الآخرين وتستخدمها لتعرف من هو القاتل.

استطاعت الكاتبة أن تميز الشخصيات من خلال إبراز أهم صفاتهم، وبات القراء يستطيعون التعرّف بسهولة على سير الأحداث من خلال الوصف الدقيق وغير المتكلف، فالكاتبة ابتعدت في لغتها عن التقعّر والمزايدة في ألفاظ قد تثير بلبلة لدى القراء.

نهى داوود، صدر لها عدد من الروايات في أدب الجريمة، منها "جريمة في ليلة ممطرة"، "جريمة السيدة هـ"، "جريمة في الفندق"، "رضا".

توظيف الجانب العاطفي

"الجريمة المتشابكة" نوع من السرد لا تقتصر حكاياته على جريمة قتل عادية، يبحث عبرها القراء عن القاتل حتى النهاية. هذا ما استطاعت أن تقدمه بسمة دجبي، كاتبة تونسية، في روايتها "ظل الحقيقة".

كانت بسمة في محل تجميل، وعندما طال انتظارها تساءلت: إن كانت هناك جثة تحت البلاط، فماذا ستفعل؟

تجيب بسمة: "إنه توقُّع قد يبدو سخيفاً، ولكنه كان بدايتي مع أدب الجريمة".

"الذي يميز كاتبة الجريمة عن كاتب الجريمة هي أنها جعلت من الجريمة ومن القتل والموت أمراً قريباً من القراء، يمكن أن تكون أختك قاتلة متسلسلة أو جيرانك خاطفي أطفال"... الكاتبة بسمة دجبي

تتحدث بسمة عن تميز المرأة في هذا اللون من الأدب، قائلة: "منذ بداية العشرية الثانية من هذا القرن، لاحظنا بروز أسماء جديدة في عالم أدب الجريمة، عرفت كيف تهيمن على هذا المجال، أغلب هذه الأسماء هي لنساء كتبن كتاباً أو اثنين، وحققن مبيعات هائلة، على رأسهن جيليان فلين، صاحبة رواية (الزوجة المفقودة). لو نظرنا إِلى نوعية ما تكتب لرأينا أنها توظف الجريمة كحدث فارق صوب أحداث رئيسية أخرى، ترتكز على تحليل نفسية الشخصيات، خاصة النسائية منها، مع محاولة الإلمام بأدق التفاصيل الصغيرة، لذا تعتمد أقلام الكاتبات من أمثالها على دراسة الجانب العاطفي مع حسن توظيفه في النص، وهو ما خلق تقريباً ما سُمي بالإِثارة النفسية".

تشير بسمة إلى ملمح آخر من ملامح الكتابة النسائية في أدب الجريمة، وهو "نوعية الشخصيات غير المثالية"، تقول: "نوعية الشخصيات التي توظفها الكاتبات، خاصة الشخصيات الرئيسية، إن كانت صالحة أَو شريرة، هي شخصيات غير مثالية، بعيدة عن فكرة الشرطي القوي والذكي، مثل شرلوك هولمز أو الشرير الماكر جيمس موريارتي، وهي صفات هيمنت على روايات الجريمة التي يكتبها الرجال".

"شخصياتها واقعية، تتمحور حول امرأة مدمنة فقدت عائلتها وتريد الانعزال، أو امرأة اكتشفت خيانة زوجها وتريد الانتقام. الذي يميز كاتبة الجريمة عن كاتب الجريمة هي أنها جعلت من الجريمة ومن القتل والموت أمرين قريبين من القراء، يمكن أن تكون أختك (قاتلة متسلسلة) أو جيرانك (خاطفي أطفال)، يمكن أن يكون القاتل أحد زملاءك الطيبين، هذه النقاط تخلق المزيد من الغموض والإثارة النفسية التي يمكن أن نجدها في كتب كتّاب الجريمة من الرجال أيضاً، لكن بطعم مختلف تماماً"، تقول بسمة دجبي، وقد صدر لها روايات: "الراقدون فوق التراب"، "ظل الحقيقة"، و"العطش الأصفر".

مشاعر الدم

"لا شيء"، عندما نقرأ هذا العنوان لرواية الكاتبة الفلسطينية جهاد جودة، نبدأ في التساؤل عن سبب اختيارها لهذه العبارة الساخرة، على الرغم من أن العمل يحمل الكثير من التعقيدات النفسية لامرأة قررت أن تحقق العدالة بنفسها.

عندما تسمعون من أمامكم، يردّ عليكم أحد: "لا شيء"، فاعلموا أن هناك الكثير والكثير من الأسرار وراء هذه الكلمة.

بطلة قررت أن تقيم العدالة بنفسها، وتنتقم لكثير من النساء اللواتي تعرّضن لظلم الرجال في حياتهن، وتقوم بقتل الرجال الذين ظلموهن، وقبل تنفيذ حكم الإعدام فيها بيوم واحد، تقرّر أن تكتب مذكراتها، وتكشف لنا الكثير من الأسرار حول حياتها، وعن أسرار الجرائم.

ترى جهاد أنه برغم تفضيلها للدموية في كتاباتها، فإن المرأة الكاتبة لهذا اللون، عادة ما تحب التركيز على الجانب النفسي، ومن خلفها الدوافع، بينما يركز الكاتب الرجل على الجريمة نفسها وتفاصيلها الدموية.

جهاد جودة كاتبة فلسطينية ،صدر لها روايتا: "زهور الأحد البيضاء"، و"لا شيء"، إلى جانب كتابتها لعدد من القصص القصيرة.

وتوجز الكاتبة حبها وولعها لأدب الجريمة، قائلة: "أفضل ما في أدب الجريمة هي الحبكة، تظل تفكر في كل الخيوط خوفاً من أن تسقط طرفاً أو تفصيلاً قد يؤثر على أحداث الرواية، ويجعلها تسقط من عين القراء، وبالتالي نحن نهتم بكل التفاصيل التي قد لا يهتم بها كتاب ألوان أخرى".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image