شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ظننت أن السرقة داخل البيت حلال"... عن المال والأخلاق داخل أسر تونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 1 أكتوبر 202004:39 م

تعتبر الأسرة أو العائلة المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل المبادئ والقيم ونواميس العيش واللغة وغيرها، وتختلف عادات كل أسرة في التربية عن الأخرى وإن اشتركت كلها في قيم ومبادئ مجتمعية ودينية وثقافية كبرى، على غرار العيب والحرام وغيرهما، إلا أن تفاصيل صغيرة في دروب التربية الأسرية من شأنها صقل شخصية الفرد، حسب المواقف التي يعيشها يومياً داخل البيت، فترسخ في شخصيته سلوكيات بنيت بعد تجربة داخل الأسرة بغض النظر إذا كانت إيجابية أم سلبية.

غالباً عندما نتحدث عن الجانب الأخلاقي والسلوكي نربطه آلياً بالجانب المعنوي الذي تنضوي تحته القيم والأحاسيس، كالاحترام، والحب، والكره، والحسد، والظلم، وغيرها من الأمور اللامادية، إلا أن للجانب المادي دوراً كبيراً في التربية داخل الأسر، لأن المال من شأنه أن يشكل أخلاقيات ومشاعر وثقة وشك على حد السواء.

"بخله دفعني لسرقته"

يعتبر البخل صفة غير محببة، ويلاقي الشخص البخيل نفوراً كبيراً من قبل المحيطين به، في أول موقف يحصل بينه وبينهم تتجلى تلك الصفة السيئة فيه، وغالباً ما يعمد البخلاء إلى إخفاء بخلهم بحجة التقشف أو التوفير.

تقول فاطمة (45 عاماً) ربة منزل من محافظة جندوبة التونسية: "قبل الزواج كان زوجي يقلل من المقابلات بيننا، ويفضل زيارتي في بيت أهلي على الخروج إلى المقاهي، بحجة أنه ملتزم دينياً، وأنا صدقته، لكن الأمر ليس كذلك، فبعد الزواج اكتشفت أنه بخيل جداً لدرجة أني صدمت من بعض التصرفات، التي يقوم بها إذ يمنعني من شراء أبسط الأشياء، علماً أنه ميسور الحال مادياً".

"قبل حفل زواج أختي طلبت من زوجي نقوداً كي أشتري ملابس، تخيل أنه قال لي البسي بيجاما، وأعملي حالك مريضة، ولا تتحركي من مكانك، وهكذا لن يتنمر أحد على ملابسك"

تروي فاطمة لرصيف22 قصص بخل زوجها "اللامتناهية"، تتنهد تارة، وتضحك متهكمة تارة أخرى، تقول: "قبل حفل زواج أختي طلبت منه نقوداً كي أشتري ملابس، تخيل أنه قال لي البسي بيجاما، وأعملي حالك مريضة، ولا تتحركي من مكانك، وهكذا لن يتنمر أحد على ملابسك".

صدمت فاطمة من رد فعله، وقررت الانتقام من بخله، فأصبحت تختلس "الفكة" من جيبه يومياً، إلى أن جمعت سعر فستان الفرح، تقول: "أنا لست سارقة لكن بخله أجبرني".

يعتبر المال "خطاً أحمر" في بعض الأسر التونسية، فمهما بلغت درجة الحب، والاحترام، والثقة بين الزوجين فإن بعض الأزواج أو الزوجات يخبأ عن شريكه المبلغ الذي يتقاضاه شهرياً.

يقول مراد (34 عاماً)، يعمل في شركة اتصالات: "تزوجت منذ ثلاث سنوات وتعرفت على زوجتي قبلها بخمس سنوات، لكنها إلى اليوم لا تعرف كم أتقاضى شهرياً"، ويضيف ضاحكاً: "لو علمت كم أقبض سوف تكثر المشاكل بيننا، فالحل الأنسب أن أترك الأمر سراً، وأن أخبأ بعضاً من النقود للأزمات والأمور الطارئة".

"جيبي خط أحمر"

يعلّم الآباء أبناءهم عادة أن السرقة حرام وعيب، وينهونهم عن مد يدهم إلى أملاك غيرهم، وفعلاً ترسخت لدى الأطفال تلك الفكرة، لكن الآباء ربما غفلوا عن تعليمهم أن كل شيء يؤخذ دون إذن أو علم من صاحبه هو سرقة، حتى لو تعلق الأمر بأفراد الأسرة.

تقول سارة (22 عاماً) طالبة من تونس: "تربينا في أسرة محترمة، فوالداي علمانا أن الظلم والسرقة والتعدي على أملاك الغير عيب وحرام، لكن عندما تأخذ أختي علبة العطر من غرفتي في غيابي لا أحد ينهرها، مما جعلنا نعتقد أن السرقة جائزة داخل البيت, فأنا مثلاً آخذ نقوداً من جيب أبي صباحاً دون علمه، ولم أعتبر يوماً أن ذلك سرقة، إلى أن فعل أخي الأصغر الشيء نفسه، ووقع تحت قبضة والدي، الذي أبرحه ضرباً، واتهمه بأنه سارق, عندها فقط اعتبرت واعترفت له بكل شيء".

البعض يرجع المشاكل القائمة على المال، لا إلى انعدام الثقة، أو الأخلاق، ولكن إلى الظروف الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، مما يؤثر بشكل كبير على العلاقات الأسرية، ويجعل المال يحتل حيزاً كبيراً.

فرغم انخفاض نسبة التضخم قليلاً، شهدت تونس تراجعاً في نسب النمو، اقترب من الصفر، قبل أن يصعد بمتوسط 2.1 بالمائة خلال العامين الماضيين، لكنه يبقى أقل من نسب النمو المسجلة قبل الثورة البالغة خمسة في المائة.

ووفق ما جاء في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، فإن الحد الأدنى للأجور بمختلف المهن في القطاعات غير الزراعية في نظام عمل بمدة 48 ساعة في الأسبوع كان 378.560 ديناراً (125.6 دولار أمريكي) في حين قدّر في نظام عمل 40 ساعة في الأسبوع بـ 323.439 ديناراً (107.5 دولار) شهرياً، وهو أقل بكثير من حاجات أسرة مكونة من ثلاثة أو أربعة أفراد.

ثقة جدي... و حبات اللوز

تبنى الثقة داخل الأسرة على تفاصيل صغيرة، وأحياناً على امتحان يقوم به أحد الأفراد ليختبر البقية، فلا أحد معصوماً من الخطأ، والتجربة هي الفيصل.

يروي صالح (32 عاماً)، صحافي من تونس، قصة امتحان ثقة اختبره به جده في الصغر، يقول لرصيف22: "كنت أقضي عطلة الصيف عند جدي في منطقة ريفية، كان يحبني كثيراً، ويثق بما أقول، وفي إحدى المرات، مررنا بأشجار لوز لأحد معارفه، وكانت محملة، لم تقطف ثمارها حتى جفت على الأغصان. نبهني بألا أقترب منها، في غفلة منه قطفت حبات ودسستها في جيبي، وأحس هو بذلك، فنهرني ثم التفت إلي وهمّ بتفتيشي، فأقسمت أني لم أقطف أياً منها، حينها قال لي أنا أثق بما تقول، ولن أفتش جيوبك، افعل ما شئت، خشيت أن أخرج الحبات، فأفقد ثقته إلى الأبد. ثم أرجعتها إلى مكانها. كان امتحاناً عسيراً لطفل لم يتجاوز الثامنة".

ويتابع: "في الصباح قال لي جدي وهو يتحاشى النظر إلي، أنا أعلم أنك قطفت حبات لوز، وأعرف أنك كذبت علي، ولو لم تعدها وتصرفت كالأطفال لن أصدقك بعد اليوم، هنيئاً لك بثقتي و هنيئاً لي بك".

"كنا نعتقد أن السرقة جائزة داخل البيت, فأنا مثلا آخذ نقوداً من جيب أبي صباحاً دون علمه، ولم أعتبر يوما أنها سرقة"

تشير حياة بوقديدة، اختصاصية في علم النفس الاجتماعي، في حديث لرصيف22 إلى أن الطفل يتأثر أكثر مما يراه من سلوك الأبوين، مقارنة بالتلقين، ولا يستطيع التفرقة بين الملكية الخاصة والملكية الجماعية، إذا ما مر بتجربة داخل الأسرة ترسخ في ذهنه تلك المفاهيم المغيبة.

وتضيف: "الطفل لا يعرف حدوداً لملكية الأشياء داخل البيت، فلا يفرق بين أغراضه الخاصة وأغراض الجميع المشتركة، فيحدث الخلط، ويتكون لديه سلوك السرقة الذي يعتبر سلوكاً مرضياً يعبر عن حاجة نفسية لدى الطفل على غرار الحرمان العاطفي أو المادي أو حباً للتملك أو غيرة من أحد الإخوة إلخ".

وتنصح بوقديدة الوالدين، بعد الاهتمام بسلوكهما أمام الطفل، إذا ما لاحظا سلوكاً اضطرابياً لديه أن يعرفا السبب، فالسبب نصف العلاج، ثم عليهما أن يحكما سلوكياتهما المرتبطة بالموضوع أمامه، مع تعليمه أموراً سلوكية، كأن يشرحان حدود الملكية، واحترام ملكية الغير، ومدى حرية الشخص عند بداية حرية غيره، وبالتالي يترسخ المفهوم الصحيح لديه، ويبتعد عن السلوك الخاطئ الذي كان يسلكه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image