شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"من مكان مظلم إلى آخر فيه نور"... يمنيات يتسلّحن بمحو الأمية لمواجهة المصاعب الاقتصادية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

السبت 18 مارس 202311:15 ص

"لكيلا نمدّ أيدينا لطلب المساعدة من أحد". هكذا تبرر مها علي (20 سنة)، التحاقها منذ سنتين ببرنامج لمحو الأمية تنظمه "مؤسسة جنتي للتنمية" في صنعاء. فيه، تتعلم القراءة والكتابة إلى جانب مهنة الخياطة لإعالة طفليها وزوجها العاطل عن العمل.

تقول لرصيف22: "كان زوجي يعمل صيّاداً في محافظة الحديدة التي نزحنا منها قبل ثلاث سنوات، وكنتُ أنا مجرد ربّة بيت لم أكمل تعليمي، لكن وبسبب النزوح وظروف المعيشة الصعبة وارتفاع الإيجارات في صنعاء، كان عليّ تعلّم شيء مفيد مادياً".

تحلمُ مها بإكمال دراستها ليس فقط لتتمكن من مساعدة صغيريها في متابعة دروسهما عندما يدخلان المدرسة، بل لتكون قادرةً أيضاً على إيجاد وظيفة إلى جانب الدخل الذي توفّره من عملها في الخياطة.

قصة مها تشبه كثيراً مئات القصص الأخرى لنساء يمنيات في مختلف الأعمار، خففت الحرب التي اندلعت في البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات القيود الأسرية المفروضة عليهن، فالتحقن بمؤسسات حكومية أو خاصة لمحو أمّيتهن وتعلّم مهن تخفف عن عائلاتهن وطأة الفقر.

إقبال على التعلّم

بحسب مدير عام محو الأمية وتعليم الكبار في حكومة صنعاء، أحمد الكبسي، رفعت ظروف الحرب نسبة الأمّية بين اليمنيين، وخاصة بين النساء. لكن السنوات الأخيرة شهدت محاولات لتدارك ذلك، عرفت خلالها مدارس محو الأمية في صنعاء، الخاضعة لسيطرة الحوثيين، إقبالاً يصفه الكبسي بالجيد، بعد وصول أعداد الملتحِقات بها إلى نحو ثمانية آلاف امرأة.

ويؤكد الكبسي لرصيف22 أن مصاعب كثيرة تواجه الدارسات، أهمها شحّ الكتب وبُعد مقارّ سكنهن عن المدرسة أو عن مراكز محو الأمية في المديريات التابعة لصنعاء، فضلاً عن عدم وجود حوافز مادية لتشجيعهن على الاستمرار، إضافة إلى قلة أعداد المعلمات المؤهلات لتعليمهن.

ويشير إلى أن الدراسة في مراكز محو الأمية الحكومية ضمن المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، مجانية، وأضيفت فصول دراسية لتعليم الراغبات حِرفاً يدويةً مختلفةً تجعلهن قادرات على الاعتماد على أنفسهن، ويعتقد بأن ذلك هو السبب الرئيسي الذي زاد من إقبال النساء على مراكز وفصول محو الأمية، لا سيما أن القاسم المشترك بينهن جميعاً هو الفقر.

وتُعدّ العاصمة صنعاء التي يسكنها وفق إحصائيات غير رسمية نحو 2.9 مليون نسمة، من أكثر المحافظات اليمنية التي تشهد إقبالاً على فصول محو الأمية، نظراً إلى أن أعداد النازحين فيها أكبر من المحافظات الأخرى.

العام الدراسي الواحد في مراكز محو الأمّية العامة والخاصة يتألف من فصلين، كل فصل يعادل سنةً دراسيةً كاملةً، لذا فالدراسة من الصف الأول إلى السادس الابتدائي لا تستغرق سوى ثلاث سنوات فقط، وتصل نسبة الدارسات الإناث إلى 95%، بينما تبلغ نسبة الذكور فقط 5%، وفق بيانات دائرة محو الأمية وتعليم الكبار في صنعاء. ويبرر مسؤولون فيها هذا التباين بالتحاق الكثير من الرجال الأمّيين بجبهات القتال، فيما ينشغل آخرون بالأعمال.

هدى علي (40 سنة)، من صنعاء، حرمتها التقاليد والأعراف الاجتماعية من الدراسة، وزُوِّجت وهي في الـ15 من عمرها. اليوم، تحاول اللحاق بما فاتها من تعليم عبر فصول محو الأمية التابعة لجهاز محو الأمّية الحكومي.

تتلقى هدى، دروساً يومية في اللغة العربية والرياضيات، وتقول إنها تصير قادرةً، يوماً بعد آخر، على مساعدة أطفالها الأربعة في مراجعة دروسهم، وتحلم بوظيفة مناسبة بعد حصولها على شهادة محو الأمية التي تعادل شهادة الدراسة الابتدائية.

وتؤكد لرصيف22 أنها قادرة الآن على تهجئة الحروف، وتعرف كتابة الكثير من الكلمات، وهي سعيدة لأنها تستطيع قراءة ما في لافتات الطرقات وعلى واجهات المحال، وفهمه، وهدفها المستقبلي هو تعلّم الإنكليزية، لتصير قادرةً على قراءة أسماء الأدوية ومواصفاتها. تأخذ نفساً عميقاً وتضيف: "إنها أمنية قديمة".

تفكر قليلاً قبل أن تضيف بشيء من التباهي: "أشعر مع استمرار تعلّمي القراءة والكتابة، بأنني أصبح امرأةً قويةً ومعتمدةً على نفسها. التغيير الطارئ في حياتي إيجابي بكل معنى الكلمة. وكأنني خرجت من مكان مظلم إلى آخر فيه نور، أنا سعيدة بذلك حقاً".

تعليم مهني

إلى جانب المركز الحكومي لمحو الأمية، هنالك مراكز غير حكومية في صنعاء، من بينها "مؤسسة جنتي للتنمية" وهي مؤسسة خاصة يقع مقرها ذو الطوابق الثلاث في شارع الخمسين في حي حدة. الطابقان الأول والثاني فيه يضمّان فصولاً لمحو الأمية، والثالث فصولاً لتعليم الحِرف اليدوية، كصناعة البخور والعطور والحلويات والخياطة.

"أشعر مع استمرار تعلّمي القراءة والكتابة، بأنني أصبح امرأةً قويةً ومعتمدةً على نفسها. التغيير الطارئ في حياتي إيجابي بكل معنى الكلمة. وكأنني خرجت من مكان مظلم إلى آخر فيه نور، أنا سعيدة بذلك حقاً"

تقول رئيسة المؤسسة سبأ الأنسي لرصيف22 إن ما يزيد عن 800 امرأة تخرجن من المؤسسة خلال السنوات العشر الماضية، وهو عمر تأسيسها، وإن نسبة الملتحقات الجديدات ارتفعت بنحو لافت خلال السنتين الأخيرتين، بعد تنظيم دورات مهنية عدة، من بينها الخياطة وصناعة الحلويات والمعجنات والبخور، وإن أغلب الدارسات أو التلميذات نازحات قادمات من محافظتي تعز والحديدة.

ويبلغ سقف الدراسة حدود السادس الابتدائي فقط، والمناهج التي تُدرَّس تتضمّن اللغة العربية والرياضيات والعلوم والتربية الإسلامية، على مدى خمسة أيام في الأسبوع، وبواقع أربع حصص يومية، وفي فترتي دوام: صباحية ومسائية، وبرسم شهري تعدّه الأنسي رمزياً، يبلغ مقداره خمسة آلاف ريال، أي نحو عشرة دولارات لكل فصل، مع مراعاة ظروف اللواتي لا يتمكّنّ من تأمين المبلغ، عبر تقليله أو حتى إعفائهن من سداده، حسب ما ذكرت.

وتضيف "أن الشهادة التي تمنحها المؤسسة تساعد المرأة على دخول أعمال يُشترط فيها امتلاكها شهادةً دراسيةً، وطبعاً إتقان القراءة والكتابة".

أما بالنسبة إلى الأشغال اليدوية، فتدفع المتقدّمات إليها كذلك، مبلغاً مقداره أيضاً خمسة آلاف ريال، وذلك عن كل دورة تتراوح مدتها بين شهر وثلاثة أشهر.

تواظب رقية محمد (50 سنة)، على متابعة دروسها اليومية في مؤسسة جنتي، وبلغت الصف السادس الابتدائي، آملةً أن تُفتتَح فصول جديدة تشمل مرحلتي التعليم الإعدادية والثانوية، لتتمكن من اجتيازهما والحصول على وظيفة جيدة.

لرقية أربعة أبناء عاطلون عن العمل، فضلاً عن زوجها الذي سُرّح من وظيفة الحراسة في مشروع صناعي خاص قبل خمس سنوات، لذا تحملت مسؤولية العائلة بنفسها، وتمكنت من ذلك إلى حد بعيد.

إلى جانب دراستها، تعلمت رقية صناعة البخور، وتنتج في منزلها المستأجر الصغير أنواعاً عديدةً منه، أبرزها "العرائسي"، المكوّن من العود ومادة الأخضرين فضلاً عن عطور ومواد نباتية أخرى تقوم بمزجها وطبخها على نار هادئة حتى تحصل على منتج البخور بحالته الصلبة. تلقي نظرةً على أكوام منها، وتضيف بفخر: "لكل صانع بخور سرّ".

اعتمدَت في بداية تسويق بضاعتها على معارفها في الحارة، وكان ذلك قبل أكثر من سنتين، غير أنها اليوم توسعت في تجارتها وصار لديها زبائن كثر، وتتمنى أن تتقن في يوم ما التعامل مع الكمبيوتر، لكي تروّج لبخورها على وسائل التواصل الاجتماعي.

حياتها السابقة، كما تقول، كانت خاضعةً للعادات والتقاليد الاجتماعية التي أدخلتها بيت الزوجية وهي في سن صغيرة، فلم تتمكن من الحصول على تعليم أكاديمي، ولكن الظروف المعيشية الصعبة أجبرت زوجها على السماح لها بالتعلّم

تبيع رقية كمية البخور البالغة بين 500 إلى 800 غرام بأسعار تتراوح بين 30 إلى 40 ألف ريال (55 إلى 70 دولاراً)، تنفق أكثر من نصفها على شراء المواد الأولية لديمومة الإنتاج، وتسدد من الأرباح بدل إيجار المنزل البالغ 50 ألف ريال (92 دولاراً)، ومصاريف المنزل الأخرى.

تعمل بجدٍّ لمواكبة دروسها وتطوير مهنتها، لأن حياتها السابقة كما تقول، كانت خاضعةً للعادات والتقاليد الاجتماعية التي أدخلتها بيت الزوجية وهي في سن صغيرة، فلم تتمكن من الحصول على تعليم أكاديمي، لكنها حفظت القرآن كاملاً، وهو ما ساعدها لاحقاً في فصول محو الأمية، بعد أن أجبرت الظروف المعيشية الصعبة زوجها على السماح لها بذلك.

تغيرات مجتمعية

الحرب اليمنية التي مضى عليها أكثر من ثماني سنوات، وما نجم عنها من تداعيات، أثّرا وبنحو سلبي كبير على مختلف مناحي الحياة، وأشاعا الفقر بين المواطنين بسبب البطالة المستفحلة، حتى دقّت اليونيسف ناقوس الخطر، وعدّت ما يجري في اليمن "أكبر أزمة إنسانية في العالم".

هذه الأوضاع الصعبة أفرزت حاجة المجتمع إلى مشاركة النساء الرجال في تأمين قوت المعيشة، بعد أن كان يُفضَّل قبل الحرب إبقاؤهنّ في المنزل، ولا يتسنّى لهن قطعاً القيام بهذا الدور من دون تعلّمهن في أقل تقدير القراءة والكتابة.

لذلك، أقبلت على التعليم نساء كثيرات، لا سيما الأرامل أو بنحو عام اللواتي فقدن معيلهن خلال الحرب، أو مَن فقد أزواجهن أعمالهم ووظائفهم أو توقفت رواتبهم.

عزيزة أحمد (30 سنةً)، اختبرت الوضع الأخير. نزحت مع زوجها الذي كان معلّماً للّغة العربية، من محافظة حجة شمال غرب اليمن إلى صنعاء قبل خمس سنوات هرباً من الحرب.

تقول لرصيف22 إن زوجها أصيب بنوبة دماغية شلّته، فوجدت نفسها وحيدةً تصارع الحياة لتعيل أطفالها الثلاثة وزوجها المُقعد، وتطلّب منها الأمر تأمين بدل إيجار السكن الشهري البالغ 30 ألف ريال (55 دولاراً)، فضلاً عن نفقات المعيشة والأدوية لزوجها.

لذلك قررت الالتحاق بمركز محو الأمية الحكومي، في مديرية السبعين في أمانة العاصمة صنعاء، وتعلمت أساسيات الخياطة والتطريز، وساعدها "محسنون" على شراء ماكينة خياطة أصبحت في ما بعد مصدر دخلها الوحيد.

"نظرة المجتمع اليمني تتغير نحو قبول المرأة المتعلمة أكثر من الجاهلة، لأنها تكون قويةً وواثقةً بنفسها وقادرةً على تحمّل المسؤولية، وهي من الإيجابيات النادرة التي أفرزتها الحرب"

تذكر بنبرة مليئة بالتفاؤل أن زبائنها الذين تخيّط لهم في ازدياد وأوضاع عائلتها آخذة في التحسن، وأنها تواصل دراستها وقد بلغت الصف الخامس، وترغب في الذهاب في تعليمها بعيداً نحو الجامعة. وهنا تتوقف برهةً عن الكلام، وتتابع بشيء من الحزن هذه المرة: "لا سامح الله مَن كان سبباً في حرماني من التعليم"، وتعني بذلك أشقاءها الذين كانوا يرون في ذهاب الفتاة إلى المدرسة، "عيباً وعاراً ولا يحقّ لها التواجد سوى في بيت زوجها أو القبر".

يقول رئيس "مؤسسة وجوه للإعلام والتنمية" منصور الجرادي لرصيف22 إن "التحاق النازحات بفصول محو الأمية، واحدة من الخطوات المهمة نحو إيجاد أعمال، فمن دون شهادات دراسية، الأساسية منها على الأقل، فرصهنّ تكون قليلةً جداً أو ربما معدومةً".

ويشير إلى أنه على علم بنساء كثيرات حصلن على فرص عمل بعد تخرجهن من تلك الفصول، ومنهن مَن واصلن دراستهن وحصلن على الشهادة الإعدادية للدراسة الخارجية، ووصلن إلى الجامعة، والنسبة الأكبر منهن اكتفين ببلوغ سوق العمل الذي يتطلب في غالبية الأحيان معرفتهن القراءة والكتابة كشرط أساسي.

أما عن نظرة المجتمع، فيقول إنها "تتغير نحو قبول المرأة المتعلمة أكثر من الجاهلة، لأنها تكون قويةً وواثقةً بنفسها وقادرةً على تحمّل المسؤولية، وهي من الإيجابيات النادرة التي أفرزتها الحرب".

سعيدة صالح (50 سنةً)، أرملة نزحت مع بناتها الخمس من محافظة تعز هرباً من الحرب، واضطرت إلى الالتحاق بفصول محو الأمية الحكومية، حتى تستطيع الحصول على عمل لإعالتهن، فزوجها قُتل في واحدة من المعارك قبل أربع سنوات، وحدث الأمر ذاته لشقيقها الوحيد.

إلى جانب تعلّمها القراءة والكتابة، تعلّمت سعيدة كذلك حِرفاً عديدةً، وأضحى لها مشغلها الخاص في منزلها، حيث تبيع ما تقوم بإنتاجه بمساعدة من بناتها، وهي ثياب مطرزة وحلويات ومعجنات وعطور وأكسسوارات.

تقول لرصيف22: "تعلّمي القراءة والكتابة ساعدني في عملي كثيراً، وأنا بفضل ذلك أتعلم بين الحين والآخر أشياء جديدةً عن الحلويات والعطور وتصاميم الأكسسوارات، مما يفيدني في زيادة المبيعات، ولولا القراءة لما تمكّنت من هذا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image