تظل أسرار الكتابة كامنة في التفاصيل التي يكتشفها كل كاتب وينميها ويصنع منها حالته الخاصة وبصمته المميزة، ويتمكن عبر تلك البصمة/ الشِفرة من إثبات وجوده وتفرده.
يتوقف الأمر أحياناً على الحساسية المرهفة تجاه اللغة، وأحياناً أخرى يقاس بالقدرة على التخييل. وفي الأخير يتحدد نجاح الكاتب بمدى تمكنه من التوصل لعوامل مشتركة بين جميع البشر في المشاعر والأفكار والرغبات والأحاسيس، ودمج كل هذه العناصر في عالم جديد من صنع الكاتب نفسه.
كتّاب كبار حاولوا تقديم خبراتهم في الكتابة محاولين الإجابة على تساؤلات: لماذا تكتب؟ كيف تكتب؟ ما الذي تكتبه؟ لمن تكتب؟
كتّاب كبار حاولوا تقديم خبراتهم في الكتابة محاولين الإجابة على تساؤلات: لماذا تكتب؟ كيف تكتب؟ ما الذي تكتبه؟ لمن تكتب؟
ورشة ماركيز
هذه الأسئلة جاوب عنها الحكاء العظيم غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2014) في ورشة عمل لكتابة السيناريو أشرف عليها في مدينة مكسيكو سيتي بعد حصوله عل نوبل 1982، ونشر نتائج الورشة في ثلاثة كتب هي “كيف تُحكي حكاية “و"نزوة القص المباركة”و"بائعة الأحلام".
يقدم ماركيز في هذه الورشة وصفته الخاصة بالتخييل، والهوس بالحكي، وبناء الشخصيات واستيلادها من الفراغ، وانبثاق الشخصيات في الرواية والقصة بطريقة مذهلة من أماكن غامضة في عمق الذاكرة.
في "نزوة القص المباركة“ يتحدث ماركيز عن تعلقه بالحكايات بسبب أمه، التي كانت قد وصلت إلى الثمانين وكانت تقص حكاية طويلة تذكر اسم شخص لا علاقة له بالأحداث وتبتسم، وفي نهاية القصة ينبثق هذا الشخص من جديد ويفجر مفاجأة، بهذه الطريقة تعلم ماركيز كيف يصنع الشخصيات المدهشة. ويشير أيضاً إلى كتاب ألف ليلة وليلة وتوليد الحكاية من حكايات متسلسلة، وأهمية ذلك في إثراء الخيال.
يقول ماركيز إنه قرر أن يكون كاتباً، واضطر إلى اختلاق العديد من الأكاذيب والمناورات والخدع ليحقق ما يتمناه، ويؤمن بأن العمل الدؤوب هو مفتاح النجاح
يقول ماركيز إنه قرر أن يكون كاتباً، واضطر إلى اختلاق العديد من الأكاذيب والمناورات والخدع ليحقق ما يتمناه، ويؤمن بأن العمل الدؤوب هو مفتاح النجاح فيورد جملة في كتابه نقلاً عن أحد الكتاب هي: "حينما يأتي الإلهام سيجدني منهمكاً في الكتابة". من هنا ينطلق في جلسات العصف الذهني مع أعضاء ورشة السيناريو التي يشرف عليها ليولد القصص من الأفكار البسيطة، من لقاء عابر في مصعد يتعطل مثلاً، يتحول لحياة كاملة داخل المصعد. أو من عينة براز تتحول إلى بطل لعمل درامي عن الهجرة. من طائرة رئاسية تنفجر لتغطي الخليج بالآلات الموسيقية.
يشعر ماركيز بالحميمية والمسؤولية تجاه شخصياته المبتكرة، ويعتبر خروجها إلى عالم الدراما ودخولها ماكينة الإنتاج المُصوَّر (سينمائياً أو تلفزيونياً) يفقدها الكثير من السحر، لذلك يسمي المخرجين "آكلي اللحم البشري"، ولذلك أيضاً رفض في حياته تحويل روايته مائة عام من العزلة إلى السينما أو التلفزيون، حتى لا تفقد قدرتها التخييلية اللانهائية. لكن قراره لم يصمد أمام قبول ورثته إنتاج نتفليكس لمسلسل مأخوذ عن ملحمته الأشهر.
وصفة ماركيز إذن تعتمد على التخييل وبناء الشخصيات واختراع عوالم ثرية وموازية، وترك حبل الإثارة ممدوداً عبر المدى السردي.
وصايا كالفينو
إيتالو كالفينو(1923 – 1985) الكاتب الإيطالي الأشهر قدم أيضاً وصفات مهمة للكتابة، تضمنها كتاب "ست وصايا للألفية القادمة"، ويتضمن خمس مقالات كتبها كالفينو بهدف إلقائها في جامعة هارفارد، لكن القدر لم يمهله وتوفي قبل سفره إلى أمريكا. وجمعت زوجته هذه الوصايا في كتاب.
يشير كالفينو في وصاياه إلى خمس سمات أساسية للكتابة الجيدة والشيقة والممتعة: (الخفة، السرعة، الدقة، الوضوح، التعددية). هذه هي القيم الأساسية التي قررها كالفينو وانحاز لها. نلحظ هنا غياب الوصية السادسة، إذ تؤكد زوجته أنه كانت هناك وصية بعنوان "الاتساق”كان مقرراً أن يكتبها عند وصوله إلى أمريكا.
في مديح قيمة الخفة يقول كالفينو إنه بعد أربعين عاماً من كتابة الرواية، وبعد استكشاف طرق متنوعة وإجراء تجارب مختلفة، آن الأوان ليبحث عن تعريف جامع لعمله، وهنا تأتي قيمة الخفة في مقابل الثقل "حاولت إزاحة الثقل عن الناس أحياناً، وأحياناً عن الكائنات السماوية، وأحياناً عن المدن، وقبل كل شيء، حاولت إزاحة الثقل عن بنية القصص واللغة". يستدعي كالفينو أسطورة "ميدوسا"، العذراء الجميلة التي لعنتها إلهة غاضبة، وكيف تخلص منها بيريسيوس عن طريق "الخفة"، كما يتناول العديد من النماذج المهمة في الأدب مثل "دون كيخوتة" الرواية الأولى، التي تبنت خفة اللغة والفكرة من دون تفريط في العمق، كما يتناول "خفة الكائن التي لا تحتمل" لميلان كونديرا، وما يمثله هذا العنوان من مفارقة فنية مدهشة بالنسبة لأحداث الرواية المثقلة بكل هموم المدينة وهواجسها وأمراضها.
وصفة كالفينو، تركت لنا وجبات دسمة من عالمه الروائي السحري الخاص، وجعلته “صاحب نَفَس" ومهارة مميزة في الكتابة، وربما يجيب عن أسئلة كثيرة في نفوس من يرغبون في احتراف الكتابة والأدب.
لغة كالفينو سهلة وخفيفة وبسيطة وشيقة، ما جعل ثلاثية "أسلافنا" تباع بشكل واسع جداً في خمسينيات القرن الماضي، حتى وصفها البعض بأنها كانت توزع مثل قصص الأطفال، وكذلك القصص الشعبية الإيطالية التي جمعها كالفينو.
استخلص كالفينو وصفته السحرية للكتابة عبر تجاربه المختلفة ولفت إلى قيمة السرعة، ويورد جملة مهمة على لسان الحكواتيين الصقليين "يجري الزمن بلا زمن في القصة". وفي هذا السياق يشير إلى نسبية الزمن وقدرته على تسريع أو مط الأحداث كوظيفة فنية في الكتابة، كما يشير إلى أهمية تطويع اللغة لتحقيق عامل السرعة. وفي هذا الإطار يورد القصة القصيرة جداً الأشهر في العالم "عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هنا" للكاتب الجواتيمالي أوجستو مونتيروسو، باعتبارها مثالاً للتكثيف والخداع الزمني وتحقيق مبدأ السرعة في اختطاف العقل بالفكرة البسيطة.
وفي وصف قيمة الدقة يعتبر كالفينو أن ثمة وباء ضرب الجنس البشري في أكثر ملكاته تميزاً، وهو استخدام الكلمات، فوصل لدرجة من التصنع جعلته يفقد الإدراك المعرفي البسيط للبداهة ودورها في تشكيل عوالم خلابة عبر الشرارة التي تنطلق من صدام الكلمات والمستجدات.
وعن قيمة الوضوح يستشهد بصاحب الكوميديا الإلهية دانتي، مشيراً إلى أن منهجه المفضل هو وضع الرؤى في الفكر مباشرة دون أن تمر على الحواس. مؤكداً ضرورة تعظيم المخزون الفردي من الصور الخيالية نظراً لمحدودية عمر الإنسان وخبراته.
وعن قيمة التعددية يتحدث كالفينو عن الرواية المعاصرة كموسوعة، كمنهج معرفة، كشبكة من الصلات بين الأحداث والناس وأشياء العالم.
وصفة كالفينو للقيم التي يراها الأكثر تعبيراً عن عالمه الإبداعي، تركت لنا وجبات دسمة من عالمه الروائي السحري الخاص، وجعلته “صاحب نَفَس" ومهارة مميزة في الكتابة، وربما يجيب عن أسئلة كثيرة في نفوس من يرغبون في احتراف الكتابة والأدب.
يوسا: لنبدأ من بذرة حميمة
خرجنا من مطبخ كالفينو ومن قبله ماركيز لندخل مطبخ "يوسا". ترى ما الذي يخبئه لنا هذا الساحر البيروي الإسباني، الصديق اللدود لماركيز، من وصفات للكتابة؟
حصل ماريو بارجاس يوسا على جائزة نوبل عام 2010. وذكر وصفته في كتابه "رسائل إلى روائي شاب" ذلك الكتاب الذي يتضمن نصائح مهمة وطرقاً مميزة للدخول في عالم الإبداع من باب الاحتراف.
ينصح يوسا في رسائله إلى روائيه الشاب بأن تخيل واقع وهمي وتجسيده من خلال الكتابة خطوة مهمة جداً لتصبح كاتباً، "والهدف من ذلك هو التمرد على العالم المعيش وخلق عالم آخر مواز، إلا أن هذا لا يضمن لك شيئاً حول مستقبلك ككاتب، بل الأهم هو إصرارك على أن تكون كاتباً، وتصميمك على توجيه حياتك الخاصة في خدمة هذا المشروع". إنه يعتبر الكتاب الحقيقيين ناسفين سريين للعالم الذي يقطنونه.
يصف يوسا آلية الكتابة بعملية "ستربتيز" أو رقصة تعرٍ معكوسة، إذ يعتبر كتابة الروايات تعادل ما تقوم به المحترفة التي تخلع ملابسها أمام الجمهور، "غير أن الروائي ينطلق من العري الأولي، ويأخذ في ستر ذلك العري تحت ملابس كثيفة ومتعددة الألوان تصوغها مخيلته"
وفي إجابته عن سؤال "كيف تخطر الموضوعات للروائيين؟ ومن أين تخرج القصص التي تقصها الروايات؟"، يقول يوسا إن أصل كل قصة ينبع من تجربة من يبتكرها، ويؤكد أنه لا يوجد اختراع كيميائي في المسألة، ولكن في كل قصة يمكن العثور على نقطة انطلاق، على بذرة حميمة مرتبطة بجملة من التجارب الحياتية عاشها من صاغها.
ويصف يوسا آلية الكتابة بعملية "ستربتيز" أو رقصة تعرٍ معكوسة، إذ يعتبر كتابة الروايات تعادل ما تقوم به المحترفة التي تخلع ملابسها أمام الجمهور، "غير أن الروائي ينطلق من العري الأولي، ويأخذ في ستر ذلك العري تحت ملابس كثيفة ومتعددة الألوان تصوغها مخيلته، وهي عملية شديدة التعقيد والدقة".
يورد يوسا العديد من النماذج للروايات العالمية التي تتضمن وصفات فنية وتقنية في منتهى الدقة والجمال للكتابة ولصناعة الأدب الدي يُعتبر فناً يحتاج إلى الدأب والإصرار والخيال والتمرد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...